لماذا لم يخبرني أحد؟

2 آب 2014

كون الشاعر الأخطل نصرانيًا، كاد يكون الخبر الوحيد الذي تعلمّته في صغري عن وجود نصرانيّة ما في التّاريخ العربي القديم، اذا جاز التعبير. كنا ندرس هذا في المدرسة في معرض الدلالة على تسامح الخليفة الأموي، حين دخل عليه الأخطل سكران يجر الذّيل تيهًا، وكأنه “على أمير المؤمنين أمير”. وكنا نكتفي بهذا القدر من السعادة.
ولكن، كفتيان في المدارس، حُرمنا من أيّ معرفة أخرى في هذا المجال. بدايةً، من معرفة كيف كان الاخطل نصرانيا؟ ومَن كان أهله؟ أو كيف كان يمارس نصرانيته هذه؟ مع مرور السنين- سنين كثيرة- بدأتُ أسمع شذرات عن قبيلة الشاعر، تغلب، وأنّها  كانت في غالبها نصرانيّة، وقاومت الانتقال الى العقيدة الجديدة، ودفعت مقابل ذلك الكثير من المال والتضحيات. الى أن سمعتُ القول المأثور، ولا أعرف صاحبه، “لولا الاسلام لأكلت تغلب العرب”.
معنى ذلك، انه كان هناك نصرانية عربية قبل الاسلام، يُحسَب لها حساب. مع السؤال بدأت معلومات أخرى تتتالى. فامرؤ القيس، الشاعر الملك، كان نصرانيًا كذلك، حتى وصلنا الى عمرو بن كلثوم، قريب الأخطل، وهو من تغلب أيضاً، صاحب البيت الشهير الذي يملأ فيه البرّ حتى يضيق. ولا أعرف اذا شاءت المصادفات أن يكون موطن الأخطل وعشيرته منطقة الموصل نفسها. إلى أن عرفنا من كتاب لويس شيخو أنّه ليس هناك شاعر كبير في العصر الجاهلي بمنأى من هذا الانتماء، أو يكاد. وهذا ما كنا نغفل عنه بالكامل في حداثتنا.
كأن كل ما كان في التاريخ العربي القديم، تاريخ ما قبل الاسلام، من أمجاد، أكان في البطولة أم الشعر، أم في مكارم الأخلاق، كان مجرّد “جاهلي”. لأكتشف منذ فترة قصيرة للغاية أن حاتم الطّائيّ أكرم العرب كان نصرانيا هو الآخر.  أسأل اليوم، وخوفي أن يكون بعد فوات الأوان، لماذا حجبت هذه المعرفة عني كفتى؟ لماذا حُرمتُ من الاعتزاز بأمجاد خطّها عرب نصارى قبل الاسلام، لتكون جزءًا من مخيلتي ومخزون مشاعري ووجداني؟
لم يخطر ببالنا ان نسأل ونحن في المدرسة، وخصوصاً في فترة المدّ العربي في الستينات، اذا كان حاتم الطائيّ نصرانيًا، لانه كان يكفي، لنا، ولا يزال بالتأكيد، أن يكون عربياً.
بين كل تلك الحقائق، على تفاوت دلالاتها ومغازيها، هذه الحقيقة الأخيرة هي موضع الاحتجاج الأشدّ بالنسبة لي، كفتى عربي يتعرّف الى دنياه. فلو أعلن أستاذ الأدب العربي أو التاريخ أن أكرم العرب كان نصرانيا لكفاني. وخصوصاً أن حاتم طي (يبدو أنه كان من همذان)، جمع أعلى فضيلتين عربيّتين: الكرم والشهامة. اسمه يجري الى اليوم على كل لسان، وتحوّل في حياتنا اليومية الى أمثولة تحتذى. هو مثل عنترة، الى حد ما، في البطولة والبأس وعزّة النفس.
كان زميلي في الدراسة يشاطرني الاعتزاز بهؤلاء لكونهم عربًا، لكن كان لديه حصّة خاصة بما يعتزّ به مع ظهور الإسلام من بطولات وأمثال ومآثر. بعضها، لا بل الكثير منها، كانت موضع اعتزاز كل الفتيان، وأنا منهم. وهكذا لم يُترَك لي ما أعتزّ به، الى جانب الشحّ هذا في التاريخ القديم، إلا بضعة أسماء في التاريخ المعاصر مع بداية المد القومي. ومنهم الأخطل الصغير.
هكذا حُرِمتُ، كما حُرِم كل فتى عربيّ مسيحيّ، على ما أظن، من فرصة صوغ علاقة أكثر تكاملًا بتاريخه. وفُرِض عليه الاستسلام لكيان شعوري مختلط وغير متوازن. لا أعرف الآن مَن أعاتب، وإلى من أشكو. وإذا كان اللوم يقع على “الاكثرية” التي بيدها صوغ التاريخ، إلا أن هناك لوما بلا شك على هيئات مسيحية، أهملت هذا التاريخ قصدا أو جهلا من غير قصد. وربما هي نفسها لا تُعير هذا كلّه، بما في ذلك نصرانية حاتم الطائيّ، قيمة حقيقية. خوفي أن يكون ذاك النوع من التحيّز القائم على خلافات في المعتقد الديني، من جملة أسباب ذاك الإهمال، وربما هو نفسه كان خلف ظاهرة هذين التناقص والهوان اللذين مرّت بهما المسيحية العربية، ولا تزال تمرّ بهما، الى ان يصل يوم لا يكون هناك أحد يخبر أحداً بأن حاتم الطائيّ كان نصرانياً. ومثله الأخطل من الموصل.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *