قـصة مـُخْـتــَـطـَـف في دير ربان هـرمزد – ألقـوش /3

(( عـملية الإخـتـطاف ))

  

ما الذي دفع بوالدي للذهاب إلى قـرية بوزان ( بوزايِ ) اليزيدية ؟

كان لقـريـب لنا في بغـداد مسدّسٌ عاطل في جانبه عـلامة حـمراء أخـذه والدي معه إلى ألقـوش وعـرضه عـلى المصلـّـحـين فـلم يستـطيعـوا معـرفة الخـلل فـيه ، فـوجّهَه أحـدهم إلى شخـص في قـرية بوزان يمتلك مثله وهـكـذا – دون أن يفـكـِّـر بأي إحـتمال سوءٍ ودون أي حـذر أو إحـتياط ، ودون أن يشكّ بشيء عـلى الإطلاق منـطلقاً من ثـقـته العـفـوية بـبراءته – ذهـب إليها مشياً في نهار أحـد الأيام من أواسط شهـر آب 1963 وهـو يرتـدي قـميصاً فاتح اللون فـلما وصل القـرية سأل هـذا وذاك عـن حاجـته فـصار معـلوماً لدى الناس هـناك أنّ عـنده مسدساً عاطلاً وأخـيراً لم يستـفـد ولم يُـصَـلـّح فـقـرر الرجـوع بعـد الظهر وفي هـذه الأثـناء إستـوقـفه أحـد اليزيديّـين الفـرسان ( ﭽـتة – مسلح بـبنـدقـية ) من أهـل القـرية وقال له : أنا ذاهـب إلى ألقـوش إنـتـظرني كي آتي معـك تسلية في الطريق ، رحّـب والدي بالفـكـرة دون أي شك يساوره ولا يعـرف إنْ كان هـناك – أم لا – في القـرية ألقـوشـيّـون ملثمون خـطـّـطـوا للعـملية ! أم أن الألقـوشـيّـين من ألقـوش بعـثـوا إلى مَن يهـمّه الأمر بخـبر تـواجـده في بوزان ! فـكل شيء غامض وكـل الإحـتمالات ممكـنة ، المهم أنّه إنـتـظر بحـسن نية حـتى تهـيأ اليزيدي فإنـطلقا من قـرية بوزان سوية وإتجها نحـو ألقـوش . قـطعا أكـثر من ثـلثي المسافة وصارا عـلى مقـربة من مشارف البلدة والوقـت لا يزال نهاراً ، وفـجأة دون سابق إنـذار وبحـركة خاطفة سريعة دون أن يتوقعها والدي ، مسك اليزيدي بقـميصه من الخـلف وأمره بالإستـدارة إلى الوراء ليتجه نحـو دير الربان هـرمزد ! تـفاجأ والدي وإستغـرب قائلاً : أنا راجع إلى ألقـوش فـما الذي أعـمله في الدير ؟ قال : لا تـتـكـلم ! إمشِ أمامي إلى الدير وإلاّ أقـتـلك ! فـما كان من والدي الأعـزل إلاّ أن يطيع أمر اليزيدي الـﭽـتة المسلح الذي أخـذ منه حـتى المسدس (( العاطل )) فـصار يمشي في المقـدّمة شاء أم أبى والـمُـخـتـَـطِـف وراءه عـن بُـعـد حـتى وصلا الدير والوقـت لا يزال عـصراً . بالنسبة لنا إنـتـظـرناه فـلما تأخـر قـلتُ لوالدتي : أحـسّ أن والدي لن يرجع ! قالت : ما الذي جعـلك تحـس بتشاؤم هكـذا ؟ قـلتُ : إنّ والدي لا يتأخـر إلا ّ لسبـب سيء خارج عـن إرادته وأتوقع خـطـفه ، فـنمنا تلك الليلة ونحـن نـتـرقـب السوء غـداً . وفي صباح اليوم التالي بدء البعـض يهـمسون فـيما بـينهم وينـظرون إلينا مما زاد من توقعاتـنا بأن سوءاً حـدث لوالدي ، ثم إنـتـشر الخـبر علانية فـصارت بعـض النسوة يُـقـبـِلنَ إلى دارنا  لمواساتـنا أما الرجال فـلـَم يتجاسروا عـلى الإقـتـراب نحـو باب دارنا خـوفاً من حـكـومة الليل . إذن ، القـصة ستأخـذ مسارَين : الوالد ومصيره ، عائلته ومصيرها .

كـيف إستـقـبله الألقـوشـيّـون الشجـعان المحـتمون في الدير ؟  

إنَّ أول مَن شاهـد والدي في الدير كان ألقـوشـياً بعـمره تـقـريـباً سبق وأن إلتـقاه مرات ومرات ضيفاً عـند جـيرانـنا في المحـلة التحـتانية وغادر إلى حـيث لا ينـفع مال ولا بنون ولا لينين ولا إخـتـطاف ، وقـبل أن يُـسـلـِّم والدي عـليه سلامَ الرجال بادر هـو بدون سلام وعـلق متـشفـّـياً بوالدي قائلاً : ( ها ، كِـمّـيثولوخ ؟ وِخـْـوا بـِجْـيالا إلـّـوخ بْـليلِ تـْـفِـقـْلان بْـيوما – ها ، أتـوا بكَ ؟ كـنا نبحـث عـنك في الليل فـصادفـناك في النهار ) فأجابه والدي : ولماذا تبحـثـون عـني ليلاً وأنا متواجـد أمامكم نهاراً ؟ ألم أكـن في الـﭽايخانة نهاراً ، في ديوان القـس ليلاً ، في حـقـول الحـنـطة لوحـدي ، وفي البـيت ليل نهار ؟ هـل أخـفـيتُ نـفـسي عـن أحـد يوماً فـلماذا تبحـثـون عـني بحـثاً ؟ وكان هـناك مع جـماعة الدير أحـد الألقـوشيّـين الشباب الذي سبق أن أمضى مع والدي ساعات وأياماً في لعـبة الدومنة والطاولي في ﭽايخانة السوق ، هـذا الشاب ساق والدي إلى ( صِـفـْـرا د رَبّانِ – مطعـم الرهـبان المتخـذ سجـناً وهـو الحارس ) وتعـبـيراً منه عـن فـرحـته بإخـتـطاف هـذا العـنصر الألقـوشي المهم والخـطر عـلى الحـزب ، رفع الشاب الألقـوشي الشهم بنـدقـيته وضرب رأس سبطانـتها عـلى رأس سجـينه والدي رفـيق الدومنة والطاولي وأغـلق الباب ، فـخـرج الدم فـوراً إلى أن تـوقـف من ذاته حـيث لا إسعاف ولا خـرقة قـماش ، ثم نام بدون عـشاء ولم يكـن متـناولاً الغـداء وبعـد منـتـصف الليل فـُـتِحَ الباب فإذا بمخـتـطـَـفٍ ألقـوشيّ آخـر يحـلّ ضيفاً وقـدماه مليئـتان بأشواك الطريق التي مشاها حافـياً ، والتي قـضى والدي أربعة أيام معه يُـخـرِج الأشواك منها ، وسأتـكـلم عـن والدي فـقـط .

بقي في سجـن الدير أربعة أيام غامضة حـيث لا سؤال ولا تحـقـيق ولا إستـجـواب ولا محاكـمة ولا ذكـر سبـب الإخـتـطاف ( ناس مخـربَـطين ) ولكـن عُـرِضـتْ أمامه في تلك الأيام الأربعة مسرحـيات رخـيصة كـثيرة برخـص ممثـليها ، منها تكـرار تهـديده بالإعـدام بعـمليات تمثيلية رائعة فـكان يُـخـرَج من السجـن ويُساق إلى مكان في الجـبل مقـيّـداً ويُـؤمَر بالركـوع ( يكـلـّـموه باللهـجة الألـقـوشية وهـو معـصوم العـينين – فلا يَعـرف مَن هـو ) إيـذاناً بتـنـفـيذ الإعـدام ثم تلغى العـقـوبة ويؤخـذ إلى السجـن وهـكـذا . كـما هـُـدِّدَ مرة بأن يُـؤتى بإبنه الكـبـير ( أنا بعـمر 13 سنة ) ويُسجَـن معه ! وهـنا ردّ عـليهم قائلاً : إذا رأيتُ إبني هـنا معي فـسوف أهـجم عـلى الحارس لأخـذ بندقـيته فأجـبره عـلى قـتلي ، وقـد وصلت الخـساسة وإنحـدار لا بل إنعـدام القِـيَـم والأخلاق عـند البعـض من الجـماعة إلى درجة صاروا يُـسمِعـونه أقاويل وعـبارات ينـدى لها جـبـين الأشراف . فـكان جـواب والدي لهم : نعـم ، كلامكم صحـيح وبارك الله بكم جـميعاً . ثم نـُـقِـلَ إلى قـرية خـورّك وأودع السجـن هـناك ، وكان أفـضل من سجـن الدير ( صِـفـْـرا د رَبّانِ ) نوعاً ما .

موقـفـنا في ألقـوش !

تأكـدنا من كلام الناس أن والدي مـُخْـتــَـطـَـفٌ وهـو رهـينة في الشمال ولكـن لا نـدري مَن إخـتـطـفه ، وأين ، ولماذا ، وما هـو المطـلوب ، ونـصحـنا الكـثيرون بأن لا نـُـخـبـِر السلطات الحـكـومية كي لا نستـفـزّ الإخـوان الشجعان أصحاب الغـيرة مخـتـطِـفـيه فـيتـعـرّض للأذى أكـثر ، إلتـزمنا ولكـن إلتـزامنا بتلك النصيحة كان خـطأً ، فـلم تكـن في صالح والدي أبداً كـما سنـرى لاحـقاً . ومن جـهة أخـرى ليس لنا معارف في الشمال عـلى الإطلاق فلا نـعـرف كـردياً واحـداً ، إذن المحـصلة النهائية لتعاملنا مع القـضية هي الصمت شمالاً وجـنوباً ، وفعلاً إلتزمنا الصمت من جـهة الإخـتـطاف كـلياً مع الأهالي لأنهم أدرى منا بالموضوع ولا يُـخـبرونـنا خـوفاً ، وكـذلك كـنا صامتين مع حـكـومة النهار القانونية الشرعـية و مع حـكـومة المتمرّدين الملثـمين الليلية ، الذين لم يوجّـهوا لنا أيّ خـطاب أو رسالة أو طـلب أو تبليغ ، وفي الحـقـيقة ليس لدينا أحـد بالغ ومتـفـرّغ ومتألم لنا كي يـذهـب ويسأل ويتابع فأصبحـنا وكأنـنا ليس لنا شـخـص مـخـتـَـطـَـف ، والعـطلة الصيفـية موشكة عـلى الإنـتهاء حـيث ستبدأ الدراسة في المدارس التي لا نـفـرّط بها مهما كـلف الأمر لخـمسة طلاب في العائلة وميزانيتـنا أقـل من الدرهم الواحـد كـما ذكـرتُ سابقاً ، فـما الحـل ؟

قـبل أن يـبدأ دوام المدارس فإن كلاً منا نحـن الأبناء يريد حاجـته من القـرطاسية التي لا بد منها بالإضافة إلى الأزياء المدرسية الموحـدة للطالبات ، كما نحـتاج إلى باقة بصل من البستان يومياً كي نأكـل مع البرغـل الناشف ، فـما العـمل ونحـن لم نمارس عـملية الإقـتـراض من أحـد ، وعـلى أيّ أمل نـقـتـرض الآن ، ومَن سَـيَـفي الدَّين ؟ ولكـن السكـين وصلتْ إلى العـظم فلا بد من الإقـدام عـلى خـطـوة ونزع رداء الخـجـل ، فـذهـبتْ والدتي إلى قـريـبتها صبرية وطلبتْ منها ديناراً واحـداً فـقـط والتي بدَورها أخـبرتْ زوجـها المرحـوم أبلحـد بـتــّـو ( أبو عـماد ) والرجـل لم يقـصّر بل زوّدها مشكـوراً بطـلبها فـوراً . لكـن الدينار ذلك لم يصمـد كـثيراً والحاجة تلح إلى دينار آخـر ومن المستـحـيل أن نـطـلبه ثانية من الرجـل أبو عـماد ، فـوقع الإخـتيار عـلى جـيرانـنا ( مـكــّـو زوجة بَحـّـو كـُـبـيـبِ – والدا الماسير فـيلومين ) وطـلبتْ منها ديناراً واحـداً فأخـبرتْ زوجـها وأعـطى الدينار بكـل سهـولة مع تعـليق بسيط .

وإلى المقال ( 4 ) المحاكـمة وإطلاق السراح ودخـول سجـن آخـر لم يكـن عـلى البال .

ملاحـظة : يدّعي بعـض الشباب الحـديثين أنهم يعـرفـون بثـراث الحـزب الشيوعي وماضيه في ألقـوش وبهـذه المناسبة أطـلب منهم أن يجـيـبوا عـلى الأسئلة التالية إنْ كانوا صادقـين :

1-      مَن مِن الشيوعـيّـين شـهـِدَ عـلى والدي في المحـكـمة أمام الحاكم الكـردي في قـرية خـورّكْ ( أذكـر إثـنين ) ؟

2-      ماذا كانـت إفادات ( الإثـنين ) ضـد والدي ؟

3-      ما الذي قاله الحاكم الكـردي كـردّ فـعـل منه عـلى أحـد الشهـود ؟ 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *