في القوش…مار سهدونا يتكلم / بقلم : سميرالقس يونان

samer_alkass@yahoo.com                                       
العراق في 28 كانون الثاني

أيها القارئ الحبيب إننا نعيش في العراق اليوم أوقاتا عصيبة ومؤلمة ليس لسبب إلا لعراقيتنا ووطنيتنا الصادقــة التي لا نقبل التساوم عليها باعتبارها قيمة إنسانية لا يمكن شرائها أو استقائها أو تبنيها أو استنساخها تصاحـــب الإنسان منذ الصرخة الأولى فهناك من ينبذها بثمن بخس وهناك من يصونها ويجعلها بين الأحداق فعندما تقلـــــع العينين التي تعتبر الرمق الأخير لدى الإنسان تقلع معهما الوطنية والانتماء…طبعا وكما أسلفنا هذه الآصرة وهذه
الوشيجة المتينة والرصينة بين هذه الملة أو الفئة أو الطائفة أو القومية أو الدين أو الشريحة المسالمة التــــي لا تؤمن بالعنف وبين الوطن والأرض والتراب لا ترضي وتريح أولئك الذين جعلوا من الوطن حروفــا متناثرة توزع كهدايا كما يوزع بابا نوئيل لذلك على هذه الشريحة العريقة عراقة العراق والإنسانية في وادي الرافدين أن ترحل
وتولي الأدبار وتترك البلد والزقورة والتقويم بيد الأشرار الذين قدموا من المنفى وبيدهم معاول وفؤوس ليهدموا باب نركال وباب شمس ومسلة حمورابي ليجعلوا منها مرابط لحصنهم وأقبية تدفن فيها كنوزهم المتمثلــــــــــــة بمليارات الدولارات بعد أن بيعت آثاره ورقيماته ولوحاته بالمزاد العلني فــــــــي سوق ألمريدي والصباغ…وبهذه المناسبة لدينا صورة حية لا زالت دماؤها ساخنة فيها نرى حب الوطن وذكرى الوطن فقبل أيام كنت مع أخـــــــي القادم من استراليا مع عائلته في جولة عبر جبل القوش لنعيش معـــــــــــا بعضا من تلك الذكريات التــــي دعكها وهشمها الزمن البائس الذي جاء ليمحي كل جميل ورائع فخرجنا منذ الصبـــــــاح لنتغذى الفطور مع تلك الطيور البرية التي طالما ألفناها والتي كانت تكسر وحشة الجبل وسكونه ورهبته فزقزقة واحدة كانت تكفـــــــــي لتؤنسنا وتزيل خوفنا وكذلك تلك الأعشاب والنباتات مثل(حلحليي و مستوكي وبلزيزي وغيرها)التي كانت تجذبنا منــــــــذ الصباح وكنا ندرك تماما مكان تواجدها إذن كان الجبل ملاذنا الآمن ومدينة ألعابنا وخزين ذكرياتنــــــــا وسجـــــل حياتنا وكنا قد تعلمنا منه الثبات والوقار والصبر والعطاء والحب والشموخ والتسامح…ولجنا الكلــــــــــــي وبدأت حشرجة أنفاسنا تسمع من بعيد حيث أنستنا الحضارة المزيفة الرياضة والرشاقة والخفة وأضحى الخمول والذبول والتخمة والكرش المتدلي سمتنا ومحور تفكيرنا واجتزنا الكلي وبدأنا بالتسلق نحو كبد مايا المعروف وكان كـــــل شئ قد تغير حيث لم نسمع وحيف طير أو زقزقة عصفور أو حركة تنم عن حياة فكانت الحياة في جبلنا قد أصابها الفتور والعزوف وقد أبت تلك الطيور والزواحف وغيرها العيش هاهنا ما زال الإنسان صديقها الحميـــــــــم اختار طريقا أخر وآثر الهجرة والضياع…تسلقنا تلك الصخور قاصدين الكهف وخلال الطريق الصخري الذي نحـــــــــت ونقش بأقدام أجدادنا لاحظنا أسماء كثيرة منقوشة ومحفورة وكان القصد منها أن تكون شاهدا أو سندا للملكيــــة وان صاحبها على يقين تام بأنه نقش اسمه هنا ليعود ويزوره وأينما حل وارتحل فلن ينقشه ثانية لإحساســـــــــه الخفي ولا يشعر مطلقا انه ابن بقعة سوى هذه التي نحت اسمه عليها واستمر التسلق وعبــــر الطريق كان هناك فسحة عريضة صخرية كنا وأجدادنا نستريح عندها عندما نجلب الماء الرقراق الصافي لعمل الشاي فقط من عين
لا تدر الكثير من الماء في الكهف واسترحنا قليلا لنعقد صفقة مع جبلنا لنعيد الوئام بيننا ولنمد جسور الود والحب
التي هشمها كبرياء وجور الإنسان وأطلقت صرخة واحدة أنادي الجبل الذي أنكرته كما نكر بطرس المسيح عليه السلام راجيا منه العفو لتبرمي وابتعادي عنه وما هي إلا لحظات وكانت صرخات متتالية وصدى رخيم قادم مـــن الجبل معلنا حبه السرمدي وحبوره اللامتناهي واستقباله الحافل بنا….اطمئن قلبنا لاستجابة الجبل لندائنا إذ لا زال الأشم على سريرته وسذاجته وان الذي تغير هم نحن وان الذي تلوث واستسلم للرذيلة هم نحن أولاد آدم الذيــــن أغرانا الكبرياء ولم نعد نرى غير أنفسنا تلك الأنفس الجشعة المريضة التي لا تهوى غير الألم والدرهم ثم أكملنا المسير نحو كبد مايا عبر ذلك الطريق الصخري الذي سرناه مئات المرات ولكن هذه المرة تختلف عن سابقاتهــا كونها جاءت بعد قطيعة مع الجبل دامت عقدين من الزمن نعم كان كل شئ صامت ساكن لا حراك ولا همس حتــى صفير الهواء ووحيفه غاب عن هذا الكلي الذي كان معروفا بذلك…دخلنـــــــا الكهف المفتوح وجذب انتباهنا حفر خالية كانت قبل أيام قد شتلت بها أشجار ولكن قبل أن تمد جذورها اقتلعت لتحرق ليبقــــى الجلمود الأصم اخرسا وحيدا لبقية عمرة تلك هي أحاسيسنا ومشاعرنا أيامنا هذه ثم ذهبنا إلى بُركة الماء التـــــــي سقت ورويت ملايين الأنفس وعبر مئات السنين وكانت مقدسة وممجدة لدى الالقوشيون القدماء وكثيرا ما كانت تقام مهرجانات الحب
والربيع والعطاء والزواج قبل المسيح بقرون عديدة المتمثلة بالدولة الأشورية وأيضا اليهود وكان عطاءها فـــي السابق وفيرا أما أيامنا هذه كادت تشح لقلة الأمطار وانزواء الجبل في ركن مظلم لقلة زواره وابتعاد حبيبه أنا…
جلسنا بالقرب من البركة وكانت أيام الخير تعج بالزنابير والحشرات والطيور والزواحف لكننا تعجبنـــــــا لهجرة الجميع حيث من المنطقي أن تستأنس وتشعر بالأمان بوجود الإنسان بقربها حينها رغم نظرتنا المتدنية لهــــــــا وعدائنا المتأصل نحوها وأخيرا اقتنعت أن عليها المغادرة طالما غادر الإنسان ذلك الإنسان الذي كان الجبل لــــه ترسا ومتاريسا أما الآن فاخذ يهرول خلف القشور ثم ارتوينا من الماء الرقراق العذب النابع من حب الجبل بعيدا عن الشب والكلور…طلب أخي أن نزور كوخ مار سادونا(سهدونا) الذي يقع إلى الغرب من الكهف على مرتفـــع
والطريق نحوه ليس بوعر ولكن علينا التسلق ولم تمض نصف ساعة إلا ونحن بالقرب من كوخ صغير ينــم عن عبق الماضي وانه لرائع حيث لم تصل يد المرممين والبناء الحديث ليمسح تلك الهيبة البسيطة الأصيلة الموغلة عمق مئات السنين وهنا بدأت تلك الأحاسيس والاختلاجات التي أصداها الزمن وأثخنها الوهـــن بالهيجان كبركان
لم يثور من مدة ثم اقترب أخي وفتح ذلك الباب الصغير الذي لا تتعدى أبعاده الثلاثين سنتيمترا ولاحظنا آثار شمع
وعدد من صور القديسين إضافة إلى صورة الشفيع وذلك البلسم والعبق الذي لم أشُمُهُ في مكان آخـــــــر لعبت يد الإنسان عبثا في معناه الروحي…لقد شيدت وأقيمت صروح عظيمة خلال السنين الماضية في فصبتنــــــــا وأماكن أخرى كثيرة لا تدل إلا على رقي الإنسان وتطور الهندسة والديكور ولكن حين الولوج في قاعاتها وغرفها الفارهة وأثاثها وانتيكاتها لا يكتنفنا ويعترينا شعور وإحساس وغبطة وحبور روحي رباني مثلما يكتنفنا مثل هذه المشاعر فيما لو وقفنا متسمرين أمام كوخ لا يصلح لصيد الدراج والحمام مثل كوخ مار سادونا الذي نحن بصدده ولكنـــــه يحمل معنى وفحوى يحمل معاناة مئات من السنين العجاف المؤلمة آثار ملايين البصقات والركلات مــــن الذين لا يكنون له ولقصبته غير الحقد والكراهية إذ كانوا يأتونه مدججين بحرابهم وبنادقهم لقتل ذلك التذكار الأصم لقتـــل صدى ذلك الكاهل الذي ببلسمه وعنفوانه أشفى الكثيرين وحرسني عندما اذهب بسبات عميق…جلسنا بالقرب من
الكوخ وأشعلنا شمعة لنطيب ذكراه لعله يستيقظ ليتحدث لنا وفجأة تجسد صوت من بين الركام صوت رخيم حنين
صوت يحمل في موجاته بحة الزمن وألم الوحدة وانين البعد صوت يكتنفه غموض وتكرر الصوت قائلا إنني أرى وجوها غريبة لم تألفها عيني فمن أية مجرة أتيتم ولا أحس بأمان بوجودكم أجابه أخي وكله حيرة وريبــــــة ماذا أقول لك أيها القديس إنني قدمت من استراليا لزيارة أهلي وبلدتي وأماكن رضاعتي ومثوى أجدادي وأضرحــــــة القديسين وها أنا عندك نادما غلبانا على فعلتي بتركك ولكن الذي خسر هو أنا أيها الشفيع المبجــــــل حيث بحثت استراليا كلها باحثا عن كوخ وعن عبق وعن تاريخ وعن أريج وبلسم مثل الذي تعودته عندك فلـــــم الق فاقبلني عبدا أمينا جاء من بقعة تبعد كثيرا كثيرا لأشبع من عطرك وفيضك وبهائك منتهلا من سيلك الأخاذ بهاء روحــــك
وسمو وقارك وعلو هامتك وسملا من ردائك وردحا من دهرك وآية من سِفرِكَ…عندها تنهد الشفيــــــــــع وتنفس الصعداء كمن أوقع حملا ثقيلا من على كتفه وأردف قائلا انه يوم سعيد أيها الشقي سعادة ملاقاة ربي حيث أعدت لي بهجتي وأملي بأولئك الذين تحملت من اجلهم عَواتي الزمن وعجرفة المارقين وبَلادَة الناكرين ومُكرَالمنافقين
متناسيا صقيع الليل وأهوج الرياح وسياط وقيظ الحر فيا أيها القادم من بعيد أتعرف مرة سؤل القنفذ عن انعم جلد
صادفه في حياته فقال في الحال جلدُ أبي فرغم أشواكه ودغدغته وغلاضته ألقى عنده الدفء والأمان فماذا افعل في شعر وصوف دب ناعم يلتهمني دون رحمة(انتهى الكلام لصغير القنفذ) ولا أنت أيها العزيز فرغـــــم وعورة طريق بلدك الأم العراق واندثار الأخلاق  وتلاشي الإيمان وعزوف الأولياء عــن الحق واستهداف المجرميـــــــن صوامع البارين وسرقة بطاقة التموين والجميع يقول أنا تنين وافتقاد الرحم إلى حنين وكل خطوة يصاحبها أنين وفيه ذبح الأسقف بيد شاهين وفتك الجراد حقله والبساتين وتفشي البغضاء والحقد سريرته آمين  وسلب الهــم والحزن حلمه ورغم هذا كله يبقى أفضل من سهوب استراليا النظرة وحياتهــــــــــا المستقرة وشواطئها العامرة ومرجانها وكنغرها ومفاتنها أما إذا تسألني أيها الاسترالي لماذا فأقول الجواب لدى مشاعرك وأحاسيسك…تركنا الشفيع في حالة يحسد عليها بعد أن كان الهم والغم والحيرة ملأت جنباته وتمنى لنا سفرة سعيدة وودعنا واختفى أما نحن فكانت نشوة النصر على الذات حيث الروح تسمو والوجدان يرتقى وخلدنا إلى مآرب سامية تاركيــــــــن الجسد المغرور المتكبر برهة وتحلقنا مع الشفيع إلى حيث الأجداد…………

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *