عنزة ولو طارت / محمد مندلاوي

 

المثل الذي جئنا به كعنوان لمقالنا هذا,  يضرب على الشخص المكابر, الذي يركب رأسه ويصر على خطئه, حتى إذا اتضح له بما لا يقبل الشك والتردد, أنه على الخطأ. عزيزي القارئ, إن حقيقة المثل أعلاه, قيل في شخصين كانا يتنزهان في إحدى المزارع, فشاهدا عن بعد هالة سوداء في وسط المزرعة, فقال الشخص الأول, على ما أعتقد إنها غراب, وقال الشخص الثاني (المكابر) إنها عنزة, فاتفق الاثنان أن يرمياها بحجر, فإن طارت فهي غراب, وإن بقيت في مكانها, فهي عنزة, فرمياها بحجر, وإذا بها طارت إلى السماء, لكن الشخص المكابر أصر على خطئه, وقال لصاحبه الذي على الصواب: عنزة, ولو طارت. فصار كلامه مثلاً يضرب لمن يصر على خطئه, حتى إذا جعله إصراره هذا مادة دسمة للسخرية و التهكم. إن المغزى من سردنا لهذه المقدمة اللطيفة لموضوعنا, هي لإفهام ذلك الأكاديمي الذي يكتب عن مواضيع تاريخية وجغرافية بعيدة عن دائرة اختصاصه و متابعاته اليومية. لكي لا نشوش على القارئ الكريم, نذكر له شيئاً عن حيثيات الموضوع الذي هو بيت القصيد في هذا المقال. فيما مضت من أشهر كنت قد كتبت مقالاً عن “العلم الكوردستاني”, وتطرقت في المقال المذكور عن الشمس التي في وسطه, وقلت حينها إنها, أي الشمس, هي امتداد لشمس السومريون الكورد, ظهر أن كلامي لم يرق لأحدهم, فزعم في إحدى مقالاته: “أن الشمس التي في علم كوردستان ليس امتداداً لشمس السومريين بل هي رمزاً للإله (ميترا) وأضاف, كما أن الأشعة الواحدة والعشرين للشمس التي تتوسط عَلَم كوردستان تعود إلى الديانة اليزدانية. واستطرد أيضاً, العدد (21) يحمل أهمية قصوى في الطقوس الدينية اليزدانية وأن الأشعة الواحدة والعشرين لشمس العلم الكوردستاني ليست لها علاقة بالتاريخ الميلادي ولا تٌمثل الحادي والعشرين من آذار, كما يظن الكثير من الناس” انتهى كلام الأستاذ. بعد نشر مقاله الذي ذكرنا أعلاه الجزئية المسمومة التي وجهها لي شخصياً بصورة غير مباشرة, ومن خلال كلامه آنف الذكر, ظهر لي جلياً أنه وضعني داخل إطار ضيق مع أولئك الذين يجهلون تاريخ شعبهم, ومثل هذا الكلام غير البريء لا ينهضم عندي, و لا أرضى به قط, فلذا رديت عليه ردنا مفعماً بمقال مفصل وبحلقتين تحت عنوان ” اليزدانية ليس ديناً والعدد (21) ليس رقماً مقدساً كما يتوهم البعض” وقلت في ردي عليه, أن إحدى أعياد السومريون الكورد كان يصادف (21) آذار. ووضحت له ولغيره, ممن يجهل التاريخ, كيف أن التسميات القديمة والمقدسة لا تمس ولا تتغير, حتى وأن لا تتوافق في عصرنا الراهن مع الهوية القومية أو الدينية لذلك الشعب الذي يتبناها. وتوسعت في الموضوع بأسلوب علمي رصين, حيث أتيت له بأمثلة عديدة, بأن التسميات ذات الصبغة الدينية أو المقدسة تبقى تحافظ  على اسمها ورسمها كما هي. السؤال هنا, إذا كانت كبريائه تمنعه أن يشكرني على المجهود الذي بذلته في ذلك المقال الغني بالمعلومات, وجب عليه أن ينتهي من الموضوع ولا يعيد الكرة مجدداً بخطأ أفظع من سابقه؟, حيث يصر على الخطأ ويزعم في مقال جديد: ” للعلم فأن الدين اليزداني كان دين أكثرية الشعب الكوردي إلى ما قبل 400 سنة أي إلى القرن السادس عشر الميلادي”. حقاً أن هذا الكلام العاهن, يحتاج قائله إلى جرأة غير عادية, حتى يدعي مثل هذا الإدعاء الخطير بدون أية وثيقة أو سند تاريخي معتبر!. أو أن قائله لا يعلم شيئاً عن مجريات التاريخ. كنت قد طالبته في حينه, أن يقدم لنا اسم الإله في هذا الدين اليزداني المزعوم, واسم الكتاب الأول الذي يتلى عند أتباعه, واسم نبيه, وتواريخ المناسبات المقدسة التي احتفل بها أتباعه, الخ, لأنه بدون هذا المربع الذي ذكرته لم يعد هذا ديناً يذكر مجرد وهم يدغدغ مخيلة البعض؟. أما من حيث اسم الـ”يزدان” الذي يشير له الأستاذ وهو يعلم جيداً, أن جميع الكورد  حتى مسلميهم أيضاً يسمون الإله “يزدان” كـ(اسم) كوردي شائع لليوم عندهم بجانب (اسم) “خودا” والأسماء الأخرى للخالق عند الشعب الكوردي. لمن يريد أن يلم بحيثيات هذا الموضوع بالتفصيل, عليه أن يراجع مقالي الذي بحلقتين مذكور عنوانه أعلاه.

مادمنا في سياق الرد والتوضيح على مزاعم الأستاذ, أستميحه عذراً وأتناول فقط عنوان مقاله الأخير ” الإسلام السياسي والتطرف الديني في كوردستان”  للأسف الشديد, إنه كبقية العلمانيين الكورد, أفراداً وأحزاباً لا يجيد من العلمانية وخصمها اللدود الدين شيئاً يوازي درجته العلمية التي حصل عليها في إحدى الجامعات البريطانية. ألا أنه رغم هذا الجهل المُطبِق بالدين, يحشر أنفه في زواياه المتشعبة, ويردد كالـ… كلام بعض الإسلاميين, الذين يحاولون بشتى الوسائل المتاحة والطرق المبتكرة إلصاق ما يتبرأ منه الإسلام علناً؟ ببعض الشخصيات أو الجهات الإسلامية, واختاروا لهذا الغرض عناوين كبيرة وبراقة له, كمصطلح الإسلام السياسي أو التطرف الديني, الذي اتخذ منه الأستاذ عنواناً لمقاله الأخير. ولم يفكر هؤلاء الكورد ومنهم الأستاذ ولو لبرهة قصيرة, إن السياسة من واقع الإسلام, كما أن الإسلام من واقع السياسة. إذاً بناءاً على هذا, ليس هناك إسلام سياسي وإسلام غير سياسي. حتى وأن كان الأستاذ لا يتطلع في بواطن كتب التاريخ وما تنقلها لنا من أخبار عن السلف, ألم يتردد على مسامعه بمناسبة ودونها ترديد المسلمون الشعار الإسلامي البراق “الإسلام دين ودولة – الإسلام هو الحل”؟. ألا يعلم أن أول دولة في التاريخ الإسلامي هي دولة النبي محمد في المدينة, التي أسسها بنفسه, ووضع لها دستورها في السنة الأولى للهجرة و شمل على (52) بنداً. حسب ما يذكر التاريخ إنها كانت دولة توافقية بين سائر مكونات المدينة من المسلمين واليهود والوثنيين, وكان رئيسها النبي محمد. وبعد وفاة النبي محمد, تأسست دولة الخلفاء الراشدون, التي توالى على حكمها أربع خلفاء, إنها غني عن التعريف لا تحتاج أن نُفصل فيها. وبعدها ظهرت دولة خلافة بني أمية, ومن ثم دولة خلافة بني العباس, ودولة الخلافة العثمانية, وأخيراً دولة الخلافة الإسلامية وخليفتها أبو بكر البغدادي. ولا ننسى, أن المملكة العربية السعودية تعتبر أيضاً دولة إسلامية ومليكها يلقب بخادم الحرمين الشريفين. كذلك قامت في إيران الشيعية الدولة الصفوية (1501 – 1736م). وفي أيامنا هذه, أمامنا نموذج حي للدولة الإسلامية الشيعية ألا وهو الجمهورية الإسلامية الإيرانية, التي أسسها السيد روح الله الخميني في الخمس الخامس من القرن العشرين. للعلم, أن المذهب الشيعي يحرم قيام الدول بغياب الإمام المهدي المنتظر؟؟؟!!!. كانت هذه أشهر الدول الإسلامية في التاريخ القديم والحديث, تجنباً للإطالة لم نتطرق إلى جميعها, كالفاطمية والأيوبية والمماليك الخ الخ الخ. هذا هو الإسلام منذ يومه الأول هو منغمس في السياسة, ألا أن المفكرين الإسلاميين استحدثوا اسم “الإسلام السياسي” وألصقوه بفئة من المسلمين فقط!! حتى لا يتهم الإسلام كدين بأمور لا يتناسب مع عالم ما بعد الحداثة. لو تصفح الأستاذ الكاتب صفحات الأسفار المعنية بالإسلام, لرأى بأم عينه, أن المسلمين لا يفصلوا بين السياسة والإسلام. على سبيل المثال وليس الحصر, جاء في كتاب (سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار) ج (1) ص (258) للشيخ عباس القُمي, عن الإمام الحسين أنه قال:”إن الله تعالى ندبنا لسياسة الأمة”. ندبنا: أي رشحنا, اختارنا. وجاء في الحديث النبوي الشريف الذي هو المصدر الثاني للمسلمين بعد القرآن في وصف الأئمة ” أنتم ساسة العباد”. وجاء في حديث نبوي آخر, “أن الإمام عارف بالسياسة”. وفي حديث آخر يقول: ” أمر إلى النبي (ص) أمر الدين والأمة ليسوس عباده”. الخ الخ الخ. دعونا الآن نعرج قليلاً على حديث الأستاذ عن “التطرف الديني” الذي كان الجزء الثاني من عنوان مقاله الأخير الذي نحن بصدده, ولا يختلف شيئاً في هذه الجزئية أيضاً بقلة تبصره عن كلامه الركيك عن “الإسلام السياسي” الذي هو من صميم العقيدة الإسلامية أيضاً. رغم أن الأستاذ استخدم مصطلح التطرف وهو أقل وقعاً من مصطلح الإرهاب الذي يتبناه الإسلام علناً و برحابة صدر, لأنه نص قرآني كما جاءت في سورة البقرة آية (40): (… وإياي فارهبون) وفي أنفال (60) يقول القرآن: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم…) وفي سورة النحل (51) (…فإياي فارهبون). هذه هي النصوص  نضعها أمامه, بأن القرآن إن لم نقل يتبنى, يتحدث بكل صراحة ووضوح عن الإرهاب. وفي عصرنا الراهن, حتى أن شيوخ الإسلام يعلنون من على المنابر علناً بأنهم إرهابيون ولا يخشون أحداً في هذا الأمر, لأنه من صميم دينهم. مثل هذه الأحاديث موجودة بكثرة على الانترنيت. وأحد هؤلاء, الدكتور الشيخ عبد الله عزام, يقول بأعلى صوته: “نحن إرهابيون, والإرهاب فريضة في كتاب الله, ليعلم الشرق والغرب إننا إرهابيون, وإننا مرعبون, ويضيف, فالإرهاب فريضة في دين الله”. حقاً أنه جدير بالاحترام, لأنه صريح ولا ينافق في أمور دينه. كما أسلفت, أن كلامه موجود على الانترنيت لمن يريد الاستماع إليه. الرجل قدم عدة تبريرات منطقية لكلام مقدس نابع من النص القرآني. لكي لا يفهم كلامنا خطأً, نحن هنا ننقل فقط ما قيل في الإسلام, ولا نمس المقدسات, بل نوضح الأمور لكي يكون الأستاذ والعلمانيون الكورد على بينة من هذا الموضوع الهام, لكي يعرفوا جيداً ليس هناك شيء اسمه الإسلام السياسي, هذه بدعة, وكذلك التطرف الديني أو الأصح الإرهاب الديني كما بيناه, موجود في بواطن الكتب الإسلامية وعلى رأسها القرآن, بصرف النظر عن بواعثه المختلفة.

إن شطحات الأستاذ الكاتب يذكرني بشطحات رئيس حزب كوردستاني ظاهر حزبه كما مكتوب على يافطته بالخط العريض بأنه حزب كوردستاني, ألا أن الأيام أثبتت أنه حزب عائلي وقياداته غارقة في الفساد والمحسوبية والمنسوبية من قمة رأسها حتى أخمص قدميها, والأصح يجب أن يقال أنه حزب مدينة السليمانية. لكن للأسف, أن سكرتيره حتى وقت قريب كان له باع طويل وتأثيره المباشر على سير العملية السياسية في الإقليم , ألا أنه الآن أصبح شيئاً من الماضي, كجزء من التاريخ السياسي المشين لكوردستان, لكنه ألحق في العقود الماضية أضراراً جسيمة بالشعب الكوردي المناضل وبقضيته العادلة. تَنَقل هذا السياسي السلطوي خلال مسيرته السياسية الطويلة بين عدة مدارس فكرية, وتبنى عدة نظريات علمية حسب متطلبات مصلحته الشخصية, وفي رحلته الأخيرة في عالم السياسة تبنى الفكر العلماني بنسخته المشوهة, وسرعان ما صبغ به واجهة حزبه الذي فصله على مقاسه. ذات يوم أجرت مجلة إسلامية اسمها (النفير) لقاءاً صحفياً مطولاً معه, وفي نهاية اللقاء سأله المحاور: هل تعتز بإسلامك؟ يقول الصحفي: فأجاب ضاحكاً وكأنه قد فوجئ بالسؤال. ثم رد على سؤاله: “بالتأكيد هل هو سؤال؟ أولاً, الإسلام هو دين شعبنا وديننا ثم إنك لا تنسى أنني من عائلة دينية, ويختم السياسي (العلماني) حديثه الماسخ: كوني في أواخر العمر,لأن الإنسان في هذه الأيام, وفي هذه الحقبة من العمر يعود إلى ربه”. نتساءل, هل هذا كلام شخص علماني ماركسي؟ أم كلام إمام مسجد!. إذا هو في أواخر العمر ومرعوب من الموت ومن ربه كما يقول, لماذا لم يتدعش؟, إذا لا يستطيع أن ينطقها بسبب وضعه الصحي المتدهور فبالإيماء؟. لماذا لم يحول حزبه العلماني اسماً واللا شيء رسماً إلى حزب إسلامي صحيح وصادق على غرار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي يطبق العقيدة الإسلامية على أتم وأكمل وجه؟!.

عزيزي القارئ اللبيب, أعلاه نموذج من النماذج الرديئة السائدة بين شعبنا الكوردي الذي ابتلى بهم شر ابتلاء, حيث يزعم أنه علماني, بينما حديثه إسلامي! ولا يدري هذا الجاهل, أن من أولويات السياسي العلماني يجب عليه, أن يؤمن بمجتمع غير ديني يُعنى بشئون الدنيا فقط, ويؤمن بفصل الدين عن الدولة, أي يفصل بين الاعتبارات الدينية والعلاقات المدنية والتعليم العام. هكذا يكون علمانياً صحيحاً سليماً لا تشوبه أية شائبة. وليس كذاك السياسي المشار إليه, علماني المظهر, إسلامي الحديث, قومي الهوية, ليبرالي الإدعاء, ماركسي الهوى, قبلي الانتماء, لأن لقبه مذيل باسمه؟. لو كان بحق علمانياً وحداثياً كان من الأولى والأجدر به أن يُعرف في أوساط شعبه باسمه واسم والده, ولا يحمل لقباً له تشريفاً أو تمييزاً عن أبناء شعبه؟؟؟. لكن للأسف الشديد, هذا هو واقع السياسيين في كوردستان, أجهل الخلق في السياسة. تراه ليبرالي لكنه لا يؤمن بالحرية الفردية أو بالحرية الاقتصادية!. وكذلك الماركسي الكوردي, تراه  يؤمن بالملكية الفردية, ولا يؤمن بالصراع الطبقي والمادية وفوق هذا كله يؤدي الفرائض الدينية بمواقيتها!! بينما حزبه إلحادي يؤمن بالمادة ولا يؤمن بالخالق. وعلى هذا الغرار, تراه ديني, لكنه يتكلم ويعمل خارج النصوص المقدسة!. كي لا نطيل, نكتفي بهذا القدر. أشكر الأستاذ الكاتب له الفضل, هو الذي حفزني لكتابة هذه المقالة.

  محمد مندلاوي

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *