على حكومتنا ان تفهم ان زمن الحكومات المركزية الأستبدادية قد مضى

 

أرض ما بين النهرين كانت المهد الأول لولادة الدولة الشديدة المركزية وذلك منذ ان وحدث دويلات المدن في دولة واحدة والوسيلة الأكثر رواجاً للتوحيد كانت بشن الحروب ، ويحكم المنتصر من عاصمته وهي مركز صناعة القرار . وبعد ذلك وبفعل الحروب ايضاً عمدت الدولة القوية على ضم اراضي الدول الأخرى فتشكلت الأمبراطوريات التي تدار من قبل المركز وكانت انتفاضة المقموعين او امتناعهم عن دفع الجزية للمركز يصار الى إخمادها بالعنف والقوة العسكرية . وأراد حمورابي الذي كانت عاصمته بابل ان ينشر العدل في ارجاء امبراطوريته وهو ملك الجهات الأربع ، فشرع جملة قوانين شاملة عادلة لكي يحافظ على النظام في بلاده ، فكانت لشريعته الشاملة مقدمة وخاتمة ومما ورد فيها على لسان حمورابي يقول :

لقد دعاني ( هكذا في النص ـ الكاتب ) الآلهة العظام ، فأنا الراعي المحسن ذو الصولجان العادل . وانتشر ظلي الوارف على مدينتي ، حملت في حضني شعوب سومر وأكد ، وبفضل الحماية الإلهية التي شملتني ، ازدهرت ، ولم افتأ اسايسها في السلام . وحميتها بعقلي ، لكي امنع الأقوياء من ان يظلموا الضعفاء ولكي ارد الحق الى المهملين والأرامل .. لأصدر الأحكام الى بلادي ، وأحمل القرارات العادلة الى بلادي وأرد الحق الى المظلومين .. ( جان بوتيرو ” بلاد الرافدين ” بغداد 1990 ص219 ) .

إن حكم البلاد بعدالة ليس امراً سهلاً إن كان الحكم باسم الآلهة كما كان في غابر الأزمان او في تسييس الدين في الوقت الحاضر ، لكن بعد قيام الثورات الأنكليزية والأمريكية والفرنسية ، وبعد إرساء الأفكار الديمقراطية في الدول الأوروبية وبعد عزل الدين عن السياسة ، كل هذه الأسباب مهدت السبيل لإرساء قواعد وقوانين تؤسس على حق تقرير المصير ولوائح حقوق الأنسان وحقوق الأقليات.. وكان الحكم الفيدرالي واحداً من ثمار الحداثة والتعايش بين المكونات المختلفة ، وكالعادة بعدما كانت بلاد الرافدين في المقدمة اصبحت في مؤخرة شعوب الأرض ، وفي شأن تعايش المكونات العراقية كان القمع والحروب والحصار سمة العقود المنصرمة من تاريخ الدولة العراقية في العصر الحديث .

لقد كان الفكر الإقصائي متأصلاً في الحركة القومية العروبية ، وإن كل من يعيش في الوطن العربي، ( الذي اصبح بعد الغزو او الفتح العربي الإسلامي اصبح الوطن العربي ) من المحيط الى الخليج ، وكل من يعيش على تلك الأرض المفتوحة هو عربي ، ونحن جميعاً امة عربية واحدة ، وهكذا سيكون مجتمع متجانس واحد متكون من القومية العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة ، وفي الوطن العراقي طبق هذا القرار ، وكان السعي لإقرار مجتمع عربي متجانس ، لكن المكون الكوردي تحصن بجباله واحتضن بندقيته ، ولم يستسلم لنظرية التجانس هذه ، وخيم على ارض العراق حكم فردي دكتاتوري ، ورغم المعارضة الواسعة للنظام لم تكن ثمة قوة عراقية قادرة على إسقاط النظام ، الى ان توافقت مصلحة اميركا مع مصلحة الشعب العراقي بإسقاط النظام ، وهكذا ساهمت قوة اميركا الجبارة بإسقاطه .

على انقاض النظام السابق اسس حكم يفترض انه حكم ديمقراطي ، لأنه كان حصيلة اللعبة الأنتخابية التي يجري بموجبها تداول السلطة عبر نتائج صناديق الأقتراع .

المسالة الكوردية التي كانت النقطة الساخنة على الساحة السياسية العراقية وعلى مدار القرن الماضي ، فقد وضع لها حل استراتيجي بجعل العراق دولة فيدرالية ( اتحادية )  كما نصت المادة الأولى من الدستور العراقي . وتعريف الفيدرالية بموجب موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة هو :

(الفدرالية (أو الفيدرالية) شكل من أشكال الحكم تكون السلطات فيه مقسمة دستوريا بين حكومة مركزية (أو حكومة فيدرالية او اتحادية) ووحدات حكومية أصغر (الأقاليم، الولايات)، ويكون كلا المستويين المذكورين من الحكومة معتمد أحدهما على الآخر وتتقاسمان السيادة في الدولة. أما ما يخص الأقاليم والولايات فهي تعتبر وحدات دستورية لكل منها نظامها الأساسي الذي يحدد سلطاتها التشريعية والتنفيذيه والقضائية ويكون وضع الحكم الذاتي للأقاليم، أو الجهات أو الولايات منصوصا عليه في دستور الدولة بحيث لا يمكن تغييره بقرار أحادي من الحكومة المركزية. ) .

 اقرب الأمثلة  على الحكم الفيدرالي : الأمارات العربية المتحدة وأمريكا وسويسرا والعراق .

لكن الملاحظ على الساحة العراقية انه ليس من السهل قبول وهضم معنى الديمقراطية والحكم الفيدرالي فثمة ثقافة متأصلة موروثة من الحكومات السابقة ولا نستطيع الفكاك منها مهما حاولنا وتغنينا بمبادئ الديمقراطية ، فالديمقراطية كانت للوصول الى كرسي الحكم فقط ، بعد ذلك شكراً ووداعاً للديمقراطية ، وبعد ذلك نتوقف لنعاود الفكر الشمولي الإقصائي . الحكومة العراقية تتشبث بيقينية الحكومة المركزية وهيبتها وسطوتها على الجهات الأربع ، ولا تريد ان تقرأ المستجدات والتطورات ، إنها تريد ان تحكم بعقلية العقود الماضية ، بينما المنطقة والعراق نفسه قد انتقل جذرياً من مرحلة الى أخرى رغم ما يعتري طريقه من عقبات ، وإن الماضي ذهب مع الماضي ونحن ابناء اليوم وينبغي ان نعيش بعقلية اليوم .

في السابق كانت هنالك وزارة اسمها وزارة شؤون الشمال تجنباً لذكر اسم كوردستان ، واليوم هنالك اقليم كوردستان يحمل في طياته الكثير من مظاهر الأستقلال ، ويعيش تجربة تنموية نموذجية ، اقليم كوردستان جزء من العراق لكنه استطاع تجنب العمليات الإرهابية التي خيمت بظلالها المأساوية على مدن العراق في الوسط والجنوب ولحد اليوم ، واستطاع الأقليم ان يطور نفسه وان يجذب المزيد من الأستثمارات الأجنبية وان يكون له سمعة دولية ، وأن يؤسس لمجتمع كوردستاني متعايش ومتسامح بمنأى عن النعرات القومية والدينية والمذهبية ، ويسلك طريق بناء الدولة المدنية الديمقراطية الليبرالية .

يبدو من نهج حكومتنا انها لا يروق لها تقدم واستقرار اقليم كوردستان ، وتريد ان تثير المشاكل ، وبرأيي ان الحكومة تكفيها مشاكلها المتفاقمة ، لعل ابرزها العمليات الأرهابية التي ترتكب بحق الأبرياء لحد اليوم ، وانعدام وضعف الخدمات العامة المقدمة للمواطن ، والقضاء على البطالة بخلق فرص عمل وليس بخلق بطالة مقنعة بمنح الرواتب من اجل اسكات الناس فحسب ، فإذا ما توطدالأمن الأستقرار في المدن العراقية كما هي الحال في اقليم كوردستان ، فإن المستثمرين سيفدون الى العراق وتتوفر الوظائف لمختلف قطاعات الشعب ، وسوف يقل الثقل الملقي على كاهل الحكومة .

اليوم تتصاعد حدة التوتر بين المركز واقليم كوردستان حول احقية الحكومة المركزية ان تستعمل سيادتها على كل اراضي داخل اقليم كوردستان والمناطق المتاخمة لحدود اقليم كوردستان مع الدولة العراقية ، التي اطلق عليها حسب الدستور بالمناطق المتنازع عليها ، والذي اصبحت بعد ارتفاع حدة التوتر ، حسب ما ذكره الأستاذ المالكي بأنها مناطق مختلطة كبقية المدن العراقية المختلطة ، ورد الأستاذ مسعود البارزاني على ذلك بأنها مناطق مستقطعة من كوردستان .

في الحقيقة وكما يظهر من الخطاب الرسمي الحكومي في اقليم كوردستان وقوات البيشمركة بأنهم يسعون الى التهدئة وإنهم لا يريدون الدخول في معارك مع قوات الجيش العراقي ، لأن مثل هذا التصعيد يضر وربما يجهض تجربة الأقليم في البناء والتنمية ، وهكذا نلاحظ الخطاب الكوردي الرسمي يسعى الى التهدئة دائماً وفي نفس الوقت يؤكد على عدم الرغبة في الأنفصال عن الدولة العراقية ، وبهذا الصدد يقول السيد فاضل الميراني وهو سكرتير ( حدك) لشبكة شفق نيوز يقول :

(أن “الكورد انتهجوا الخط الوطني وهو مفتاح قوة وتماسك العراق وأي مشروع للتقسيم أو التفكيك مرفوض منا”، مؤكدا “كنا قبل نيسان 2003 مستقلين والتحقنا بباقي العراق طواعية”.

واوضح انه “في مرحلة اتفاقية عام 1926 مع تركيا ضمنا بقاء الموصل ضمن جسد هذه البلاد في حين أن القوميين الحاليين ساندوا تركيا في مطالبتها بضم ولاية الموصل” ) .

المراقب للشان السياسي في العراق يلاحظ إن المشاكل تحيط بالحكومة العراقية من كل جانب ، وإن المظاهرات الأخيرة في بعض المدن العراقية ( السنية ) تشير الى تصعيد في النعرة الطائفية تحت مختلف الحجج والشعارات مما يؤدي الى تفاقم الوضع في مختلف انحاء العراق ، وإن على الحكومة ان تتصرف بعقلانية وذكاء وان لا تسعى الى التصعيد إن كان مع اقليم كوردستان المستقر او بخلق مشاكل مع القوى السياسية الأخرى .

د. حبيب تومي / اوسلو في 01 / 01 / 2013

 habeebtomi@yahoo.no

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *