صباح ياقـو توماس من مقاتل عـنيف إلى مسالم رفـيف

( 1 )

في كـركـوك أيام منـتـصف الخـمسينات ومن بـين عـوائلنا الألقـوشية الكـثيرة المتآلـفة جـداً ( وأعـيدها وأقـول : يوم لم تكـن كـلمة السياسة رائجة بـينـنا ) أتـذكـَّـر صداقـتـنا الحـميمة مع عائلة المرحـوم ياقـو تـوماس كان أحـد أولادها وسيم الطلعة لم يـدخـل مرحـلة الشباب بعـدُ ويتـقـدّمني في المرحـلة الدراسية ، وفي مطلع الستينات شاهـدته في سـوق ألقـوش وهـو يؤنب أخـيه رمزي الأصغـر منه عـند مدخـل ﭽايـخانة المرحـوم متيكا ، وأتـذكـر ذهـبتُ في سيارتهم ( لـوري ـ وهـو يسوقـها ) مع المشجـعـين إلى مبارات رياضية مدرسية أقـيمتْ في تلكـيف ربما في 1961 أو 1962 ، ثم رأيته طالباً ثائراً مقـداماً في ثانوية ألقـوش عام 1963 وقـد كـتبتُ عـن تلك الأيام سـلسلة من مقالات بالتـفـصيل قـبل أكـثر من عام ونـصف ! وكانـت آخـر مرة رأيته صدفة بمعـيّة رفـيق له – إنْ لم تـخـنـّي ذاكـرتي بعـد سنة 1965 – في قـرية سَـريـﭽْـكـَن القـريـبة من ألقـوش في ساعة متأخـرة من الليل يرتـدي زياً من تراثـنا شالا وشَـﭙّـوك جاءا إلى دار معـلم من بـيت رمّـو بـنـّا ، فإتـكأ بـزنـده عـلى مخـدّة فـوق السـريـر ورجـليه متـدلـيتين فـلمحَـتْ عـيناه ــ يلك ــ قـمصلة عـلى السرير نظـيفة جـداً بدون أردان ظاهـرها جـلد رائع أملس قـليلاً وباطـنها فـرو طـويل الشعـر ناصع البـياض إرتـداها مباشرة دون كلام ، وبعـد ذلك لم أرَهُ ولكـني كـنـتُ أسمع أخـباره القـتالية الليلية في شمال العـراق وخاصة في مناطـق ألقـوش ضد ( قِـوى الشر – كـما هـو يسمّيها ) ثم غابت أخـباره عـني ، إنه صباح ياقـو توماس .

كـنـتُ مع زميلي في طريق رجـوعـنا من زيارة صديق مساء يوم 6 كانون الأول 2011 حـين قال : إن صباح وصل إستراليا فـقـلتُ له فـوراُ : دعـنا نـذهـب الآن للـترحـيـب به فـوصلنا دار الأخ وليد منـدو حـيث كان الأول في إستـضافـته ودخـلنا الفـناء الخارجي مباشرة حـيث الضيوف جالسين وقـبل أنْ يتسـنّى له الـتعـرُّف عـليَّ أو أن يعـرِّفـوه بي ــ وحـتماً لا يعـرفـني من صورتي ــ نهض ورحـب بنا وكـعادتـنا نحـن الشرقـيّـين سـلمـتُ عـليه وتـقـدّمتُ إليه موحـياً بتـقـبـيله فـقال لي بصوت مسموع : هـل يمكـن بدون تـقـبـيل ؟ في الحـقـيقة لا أخـفي عـليكم كم خـجـلتُ من طـلبه غـير المتوقع وخاصة هـذا المشهـد أمام الحاضرين وﭽـمالة غـرباء ولكـنه لِـزاماً عـليَّ أن أتـصرّف بكـياسة في تلك اللحـظات وأكـون فـوق مستـوى الإنـفـعال في المواقـف الحـرجة فـتجاوزتُ طـلبه المفاجىء وتجاهـلتُ الموضوع أمامهم وأجـبته بسرعة وبصوت خافـت قائلاً : ممكـن ! فـصافـحـته بحـرارة وجـلستُ بصمت آخـذاً عـلى نـفـسي رفـضه قـبلة الـترحـيـب الأخـوي مني وهـو عـلى الأقـل ألقـوشي من بلـدتـنا وقادم من العـراق فـقـد يفـسّر الحاضرون سـلوكه هـذا بما يحـلو لهم ويـبنون عـليه نـظـريات وفـلسفات ! المهم ، بقـينا نستمع إلى حـديثه الذي يـبدو غـريـباً للوهـلة الأولى لكـل مَن يعـرفه ، وفي تلك الأثـناء تـداخـل وليد في حـديث جانبي معي بصوت خافـت وقال : إن صباح يرفـض القـبلة من أيّ زائـر ! كـما أنه لا يأكـل ولا يشرب إلاّ مِن صنع يديه لأسباب الـنقاء الجـسَدي الـذي صار يؤمن به فـملامسة الشـفاه للوجه قـد تحـدث وراءها مشاكـل صحـية وتسبب ضعـف في الطاقة الروحـية عـنده ! وعـنـدئـذ زال عـني الحـرج وتـناسيتُ الموضوع ولكـني وبكـل صراحة إنبهـرتُ . ولما غادر الزوّار الغـرباء بقـينا مواصلين جـلستـنا الودّية معه وإخـوة أقارب ورفاق وأصدقاء بالإضافة إلى أهـل الدار .

صار الأخ صباح يحـدثـنا بإسهاب عـن مواضيع شـتى لا صلة لها بنضال الأمس ، فـرأيته أمامي كأنه واعـظ بـين مؤمنين في كـنيسة أو مُرشـد لشباب في مؤسسة تـربوية أو طبـيـب يعـطي إرشاداته الصحـية للمرضى في مستشفى ، فـما الذي قاله في تلك الجـلسة يا تـرى ؟ في الحـقـيقة تـكـلم كـثيراً وبتـواصل دون ملل ونحـن كـلنا منصتين إليه فإستغـلـّـيتُ تـوقـفه عـن الكلام برهة ، وعـندئذ إستـوقـفـته قائلاً له بكل ميانة : أنت تـكـلمتَ كـثيراً دع الكلام لنا الآن ! وقـلتُ له : هـل يمكـن أن تـعـرِّف لـنا مَن هـو صباح ياقـو توماس الـيوم ؟ إبتسم وقال : أنا صباح ، فـكـيف تـريـدني أن أعـرِّف نـفـسي ؟ وهـنا بـدا لي أنه لا يـريـد الإفـصاح عـن مكـنونات قـلبه والتي أحـدثـتْ إنقلاباً أساسياً في عـمق أفـكاره وإيمانه ، رأيته متـواضعاً إلى درجة إعـتـرَفَ بمحـدودية إلمامه بنحَـويّة لغـته العـربـية الفـصحى ولكـنه ملمٌ كـثيراً باللغة الروسية التي درسها لسنين ــ حـسب قـوله ــ ونال شـهادة الـدكـتـوراه بها ولكـني لا أعـرف بأي فـرع من العـلوم .

حـكى لـنا تارة عـن البـيئة ، و تارة أخـرى عـن صحة الإنسان الجـسـدية والطاقة الروحـية ، وبعـدها تكـلم عـن الفـكـر النقي والأحـشاء النـظيفة والمأكـولات التي بعـضها تـولد الشر عـند آكِـلِها والبعـض الآخـر تـُـوجِّه الإنسان نحـو الخـير ، فـهـو مثلاً لا يـذوق اللحـوم بكافة أنـواعـها لأنها مصدر شر للفـرد ولا يكـون العـقـل السليم في الجـسم السليم إلاّ إذا إتبع نـظاماً غـذائياً نباتياً صارماً كالذي يتبعه هـو ، إنه يعـتمد كـثيراً عـلى النباتات الخالية من السماد الكـيمياوي فـهي تـنقـّي الجـسـد ويصبح إنساناً خـيِّـراً حـسب رأيه ، وعـنـدئـذ تـتـولـّـد قـوة فـوق طـبـيعـية لديه يمكـنه الإتيان بأعـمال خارقة للطـبـيعة كالعلاج بإستخـدام الـيـدَين فـقـط بل قـد يمكـنه الـتـنـبّـؤ عـما سـتـؤول إليه صحة الشخـص مستـقـبلاً بالنـظـر إليه فـقـط وجـدير بالـذكـر أنه لا يتـناول الأدوية عـلى الإطلاق ويتمتع بصحة جـيـدة .

ثم تـناول في حـديثه عـن السلام بـين أبناء البشر وعـمل الخـير وأنّ الحـياة هي أثـمن ما في الوجـود ، وقـد كـلـمني ولـيـد جانباً وقال : إن صباح لا يقـبل أن نـقـتل حـشرة لأن لها حـياة ثمينة ومن حـقـها أن تعـيش ، أما أنا من جانبي فـكـنـتُ مستمعاً ومستمتعاً ومستوعـباً كلامه بدون إستغـراب ولكـن بإعـجاب ! لماذا ؟ لأن صباح الـذي نعـرفه نحـن الألقـوشيـون عـلى الأقـل كان مقاتلاً لا يخاف الموت قـد أصبح الـيوم مؤمناً بالحـياة والسكـينة وليس صباح البارحة الذي كان يناضل بالقـتل والضغـينة ، إنه نموذج للسلام والأفـكار المثالية بعـد ان رفـض العـنـف والآيـديولوجـية الماديّة !

( 2 )

إنّ جـل كـتابتي عـن الأخ صباح ياقـو توماس تأتي نـتيجة لقاءاتـنا به وإستماعـنا إليه مباشرة (1) زيارتـي الأولى له برفـقة زميلي في يوم 6 كانـون الأول 2011 في دار الأخ ولـيد … (2) في محاضرة له بتأريخ 7 / 12 / 2011 في نادي بابل الكـلـداني … (3) زيارتـنا الـثانية له برفـقة زميلي نـفـسه بتأريخ 15 / 12 / 2011 في دار الأخ حازم ﮔـردي ( الذي أكـَّـد له بأني سأكـتب عـنه مقالاً حـتماً ) وبحـضور أخـوه ثامر ﮔـردي … (4) لقاؤه الموسع الأخـير بتأريخ 19 / 12 / 2011 في نادي بابل الكـلـداني أيضاً ، وحـين إنـتهـتْ المحاضرة طلب مني رفاقه ( طـلـباً ) فـلـبَّـيتُ الـنـداء فـوراً . وأثـناء خـروجـنا كانت لـي دردشة قـصيرة معه ونحـن عـنـد الباب سألني أن أغـيِّـر عـنـوان هـذا المقال الذي كـنتُ قـد حـدَّدته مسبقاً فـقـلتُ له : تـدلَّـل وهـذه سهـلة جـداً ، ثم واصَل حـديثه الهادىء معي موضحاً لي أن الشباب في سـدني ليسوا راضين عـن كـتاباتي الأخـيرة ، ويقـصد ما كـتبته عـن ذكـرياتي الألقـوشية في فـترة نهاية الخـمسينات وبـداية الستينات من القـرن الماضي ! فـقـلتُ له : هـذا صحـيح وعـندهم الحـق ! لأنهم لم ، ولـن يستـوعـبَ فـكـرُهم مفاهـيمَ الديمقـراطية والحـرية ، ولـن يكـون بإمكانهم تـقـبُّـل الـنـقـد ، لا الآن ولا مستـقـبلاً .

وقـبل مغادرته أسـتراليا عـقـدتُ العـزم مع زميلي ذاته لزيارة صباح عـصراً بتأريخ 21 / 12 / 2012 للمرة الأخـيرة فإتـصلنا تـلفـونياً أولاً وهـو متـواجـد في دار الأخ حازم ﮔـردي ووصلنا وطرقـنا الباب وفـُـتِحَ لـنا ولكـن قـيل لـنا بأنه خـرجَ !! وتحـليلي هـو أنه لم يرغـب في أنْ نـنهـل الـمزيـد من أفـكاره ولا أنْ نستمع إلى الجـديد من أقـواله خاصة حـين عـلِم بأنـنا سنكـتب مقالاً عـنه ، ولكـن الكلام الرائع الـذي سمعـناه منه يتيح لـنا كـتابة مقالات ومقالات وفي الحـقـيقة كـتبتُ أربع منها إلاّ أنـني غـيَّـرتُ رأيي فجعـلتها مقالاً واحـداً أمام القارىء فجاء مُـطـولاً كـما تـرَون .

لسنا نبالغ إنْ قـلـنا أنّ كـل مَن إلـتـقى بالمناضل السابق صباح تـوماس في سـدني إكـتشف الإنعـطافات الحادة بل الجـذرية التي طرأتْ عـلى أفـكاره ما بـين أمسه ويومه والتي تـظـهـر في ستراتيجـية حـياته الجـديـدة وكم من زميل قال لي ذلك ، ولكـن في ذات الوقـت هـناك تـناقـضات عـنده يصعـب تـفـسيرها ، فـمثلاً العـنـف لم يعُـد له مكاناً في مخـيِّـلته والكـلاشينـكـوف سـقـط عـن كـتـفه ولن يحـمله بعـدُ ، إلاّ أنـني أستغـرب حـين أرى صوَرَ جـلساته ولـقاءاته في ألـقـوش والمنشورة في المواقع (( ومخازن الإطلاقات مُـنـَـضـَّـدة مرصوصة عـلى حـزامه )) وهـذا لـغـزٌ أجهل حـلـَّه .

ثم من جانب آخـر إنَّ الـذي فات من الأيام أصبح في خـبر كان ومات ، وصار صباح ينـظـر إلى أمام ، وإنه اليوم رسول السلام ينشر بـين الناس الوئام ، يحـمل بـيديه الحَـمام يحـضر بـين الجـماعات فـيحـظى منها بالإحـترام ، طيب فـلماذا المسلحـون يحـرسونه بحـرص وإهـتمام ؟ وهـذا أيضاً لا أعـرف تـفـسيره بالتمام ، أما الـتـناقـض الآخـر فـسأذكـره لكم لاحـقاً أيها الأعـزاء الكـرام .

( 3 )

لقـد تـطـرَّق صباح في حـديثه إلى الكـون وإعـجابه بالذي يُـسَـيِّـره وقـد أعـجـبني مصطلح ( الوعي الكـوني ) الذي إستخـدمه ويعـني عـنده القـوة التي أوجـدتْ أو خـلقـتْ الكـون . إنه مصطلح فـلسفي لا يستغـرب منه المفـكـرون الروحـيّـون وقـلتُ له : إنك لا تخالف المؤمنين بقـصة الخـَـلـْـق ! قال : في الـبـدء كان الفـكـر ! وهـو الـذي أوجـد المادة ! قـلتُ له : إنك تحـمل أفـكار اللاهـوتي المعاصر فالمؤمنـون يقـولـون أن الله = الروح = الفـكـر = الوعي الـذي أوجـد الكـون وإني أراك كأنك مار يوحـنا ثاني حـين يقـول في مطلع إنجـيله : في الـبـدء كان الكـلـمة والكـلمة كان عـنـد الله وكان الكـلمة اللهَ …. قال : نعـم ولكـن دراسـتي كانـت باللغة الروسية وبها إستخـدمنا تعـبـير (( الفـكـر )) ولم نستخـدم تعـبـير (( الـكـلمة )) ، قـلتُ له : لا فـرق بـينهما أبـداً ……….. ولكـن لماذا الجـماعة !!! أيام زمان كانـوا يسخـرون من أفـكارنا ويقـولون لـنا أن الفـكـر هـو نـتيجة المادة وليست المادة نـتيجة الـفـكـر ؟ قال : إنّ الجـماعة !!! لم يكـونـوا يـدركـون ذلك في تلك الأيام … ولكي يثـبت الأخ صباح كـلامه لـنا أتى بمثال لـزميلي وقال : حـين تـفـكـر في موضوع ما فإن أعـضاء جـسمك تـتأثـر وتـستجـيـب وهـذا دليل عـلى أن للفـكـر تأثير عـلى المادة .

ملاحـظة *** : في لـقاء مع الأخ صباح في أميركا ، سُـئِـلَ : هل عـندك سِـرٌّ تبوحه لمحـبـيك ؟ فأجاب قائلاً (( نعـم هـناك حـقـيقة إكـتشفـتها ألا وهي ، عـند ما راجعـتُ نفسي ومسيرة حـياتي عـرفـتُ نفسي مَن أنا ! بعـد الخـمسين مِن عـمري )) ! إنه قـول يستـحـق التأمُّـل .

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=143212

كان الأخ صباح قـد تحـدث عـن الطاقـتين المتـناقـضتين الخـفـيّـتين اللـتين تحـتلاّن جـسم كـل واحـد منا والتي بهما يمكـنـنا القـيام بإعـمال خـيِّـرة أو شريرة معـتـمدة عـلى نوعـية الغـذاء ووقـت تـناوله صباحاً ، مساءاً ، لـيلاً والـذي يؤدي إلى نـقاء الجـسد وبـدَوره يقـود إلى صفاء الفـكـر فـتـتـغـلـَّـب إحـدى الطاقـتين عـلى الأخـرى وعـنـدها يتميـز الإنسان الشرير عـن الآخـر الخـيِّـر .

في نـدوته المصغـرة الأولى حـدثـنا عـن البرنامج الغـذائي الصحي الذي يفـيـد الجـسم وذكـرَ لـنا وصفات نباتية بسيطة ومتيسِّـرة في السوق وبعـض الحاضرين دوَّنـوها عـنـدهم ، وحـين سأله أحـد الشباب بلهـجة شـبابـية عـن مصدر هـذه المعـلومات وصحـتها ، أجابه صباح بلباقة قائلاً إنها نـتيجة خـبرة وتجارب عـملية وإنه قـد درسها وقـدّم محاضرات ونـدوات بشأنها في الإتحاد السوﭬـيـيتي وأورﭙا ولها جـمهـورها .

حـدّثـنا صباح عـن موضوع الصحة قائلاً أن نـفايات العـمليات البايولوجـية في جـسم الإنسان تـترسب عـنـد القـدمَين وعـليه يجـب أن تـتاح لها الفـرصة للتسلـل إلى الأرض وذلك عـن طـريق المشي عـلى الأرض حافـياً بـدون أحـذية خارج الـبـيت وحـتى في فـصل الشـتاء ، وحـسبما قال فإنه مارس ذلك وحـصل عـلى نـتيجة إيجابـية ، وفي الحـقـيقة أتى بمثال طـبي يؤيـد هـذه الـفـكـرة حـين ذكـر عـن طـبـيب أوصى مريـضَه نوعاً من الجـوارب لهـذه الغاية . وليس غـريـباً إذا قـلـنا أنـنا نشاهـد أحـياناً ( أقـول أحـياناً ) شخـصاً يمشي حافـياً حـتى في دولة متـقـدمة .

لـقـد كـلمنا عـن جـوانب من سـيرة حـياته المليئة بالمخاطر والمجازفات والتحـديات وربما هي التي ولـَّـدتْ عـنـده ما يشبه بـثـورة فـكـرية أو صدمة نـفـسية والتي بـدَورها قادته إلى أن يصبح صباحاً جـديـداً هادىء الـطـبع بل مؤمناً بعـظمة الكـون وقـوانينه ، بالحـياة وقـيمتها ، بالحـرية وثـمنها ، بالقـوى العـظيمة الغامضة الكامنة وراء الطبـيعة البشرية التي يـبقى الإنسان يجـهـلها إلى حـين يُـنـقي جـسـده بإتباع نظام غـذائي وبتـوقـيت صارم فـتبرز الطاقات الروحـية الإيجابـية عـنـده والتي بفـضلها يمكـنه أن يأتي بأعـمال عـجـيـبة . نعـم إن صباح لم يغـيِّـر الكـون ! ولكـن الكـون غـيَّـرَه وصار يؤمن بالقـوة الخارقة مبـدعة الكـون ( الوعي الكـوني ــ أكـرر أنا أعـجـبني هـذا المصطلح ) فـنزع عـنه حـلته الشبابـية الـقـديمة المشحـونة بالعـدوانية القاتلة التي كانت تركـب المخاطـر وتـداهـم المخافـر ، وإرتـدى حـلة جـديـدة تـتـصف بالسلام والوئام وحـب الحـياة وبساطة الكلام من فـوق المنابر ، ألستم تستـغـربـون معي حـين أتـكـلم هـكـذا عـن صباح الـذي تعـرفـونه في الماضي وعـن صباح الـذي نعـرفه الـيوم ؟

لـقـد دعاني فـضولي إلى أن أسأله : أنّ مَن يملك هـذه الإمكانية فـوق الطبـيعـية من الطاقة المخـفـية دون أن يعـرف بها عامة الناس يمكـنه أن يقـوم بأعـمال عـجائبـية تجـذب الإنـتباه ، وأنا قـرأتُ عـن شخـص يمكـنه إيقاف عـقارب الساعة بالـنـظر إليها … وآخـر عُـرض في تـلفـزيون أسـتـراليا يُحـرّك الأشـياء عـن بُـعـد ! فـهل يمكـنك أن تعـمل مثـل هـذه الأعـمال كأن تـوقِـف عـقارب الساعة وتمنعـها من الحـركة ؟ قال : نعـم يمكـنـني ! فـقـلتُ له : هـل نـدرج هـذه الفـقـرة ضمن برنامج نـدوتك المقـبلة في نادي بابل الـكـلـداني ؟ قال : كـلاّ ….. فـلم أناقـشه ولم ألحّ عـليه أكـثر .

( 4 )

روى لـنا صباح قـصة سـيره عـلى الأقـدام من إيران إلى روسيا ليلاً وهـو نحـيل البنية مصاب بضربة كـيميائية وكـيف واجهَ ذئاباً كاسرة في الطريق ووقـف أمامها قائلاً لها ( ما الـذي ستـستـفـيدونه مني وجـسمي نحـيل ولحـمي كـله سـموم كـيميائية ؟ ) فـوقـفـتْ تلك الـذئاب دون أن تـمـسّه بـسوء ومشى هـو في طـريقه !! وحـين وصل إلى شـرطة المخافـر الحـدودية الروسية تعـجـبوا من وصوله سالماً حـياً دون أن تـفـتـرسه الـذئاب ، وفي هـذا الموقـف تخـيَّـلـته كأنه النبي دانيال في جـب الأسـود حـين وقـفـتْ أمامه دون أنْ تـفـتـرسَه .

أما في المستشفى الروسي فـقـد مـرَّ بحـدث آخـر وهـو راقـد عـلى السرير والممرضة واقـفة فـوق رأسه ، فـقال : نـظرتُ إلى الأعـلى فإذا بـنـور ساطع أدهـشـني وإنبهـرتُ به وقـلتُ للممرضة : هـل تشاهـدين ذلك الضوء الساطع في السقـف ؟ نـظـرتْ الممرضة ولم تـرَ شـيئاً ! فـقال لها : كـيف لا تـرَينه ، إنه نـور قـوي جـداً ! ولكـن الممرضة لم تستـطِع رؤية شيء ، إذن هي رؤيا خاصة بل هي دعـوة محـددة له بالـذات ! فـقـلتُ لـصباح : إنك مار ﭙـولس ثاني !! لأنه هـكـذا تـراءى له يسوع فإنبهـر من ذلك الضوء الساطع وأصيب بالعـمى … والـذين معه لم يسمعـوا شيئاً … ثم شـفيَ وأحـدث إنقـلاباً جـذرياً وعـميقاً في فـكـره وغـيَّـر مساره وصار من أعـظم أعـمـدة الكـنيسة عَـبر التأريخ المسيحي . ثم تـطرق إلى الرفاق الكـبار الـذين زاروه في المستشفى وتألموا له كـثيراً بل بكـوه حـين رأوه بـتلك الحالة ، فـقال لهم : لا تـقـلقـوا فأنا سأحـيا وأرجـع إلى حالتي الطبـيعـية ! وهـكـذا كان .

أما في نـدوته الموسعة فـقـد تكـلم عـن حـياته منـذ الطـفـولة وكـيف تـربّى في بـيت جـدِّه الـذي تأثـر كـثيراُ بتربـيته والتي لخـصها لـنا قائلاً : أن جـدّي كان يقـول لي إعـمل الخـير دائماً مع الناس وكـن مسالماً بـينهم ! ثم مرّ مرور الكـرام عـلى حـياته الـدراسية في ألقـوش ، ثم قـتاله بصحـبة رفاقه في جـبال شمال العـراق ومجازفاته الخـطـيرة ومداهـماته للقـرى وساكـنيها ، ورأيته صريحاً حـين إعـتـرف بكـل الأعـمال التي قام بها والتي إتـصفـتْ بالعـنف الشـديـد والشـديـد جـداً وبـيـديه مباشرة .

ولما أتيحـتْ الفـرصة للجـمهـور كي يسألوه ويستـفـسرون عـن كـل ما يجـول في خاطـرهم ، جاء دَوري لكي أذكـر تـناقـضاً آخـراً فـقـلت له : وضـَّحـتَ لـنا أنك متأثـر كـثيراً بالمرحـوم جـدِّك الـذي عـلـَّـمك أن تكـون مسالماً بـين الناس وطيـباً في تعاملك معـهم فـكـيف حـدث أن أصبحـتَ مقاتلاً عـنيفاً تـقـتـنـص حـياة الناس بدم بارد ؟؟ أجاب بعـبارة قـصيرة وقال : إن الظروف كانت تـتـطـلب ذلك .

لـو كـنـتُ قـد سجَّـلتُ كـل الحـديث الـذي نـطـق به صباح أثـناء لقاءاتي الأربعة معه لألــَّـفـتُ عـنه كـتاباً ، ولكـن هـذه الأسـطـر التي دوَّنـتها هي لـقـطات مما سمعـته منه وبقـيتْ مخـزونة في ذاكـرتي والتي أعـجـبتـني كـثيراً وأظـن أن الـفـكـرة وصلتْ إلى القارىء عـن هـذا الرجـل الصامـد ويمكـنه أن يقارن بـين ماضيه وحاضرة وسـيخـرج بنـتيجة وهي : أن الإنسان مهـما كان بعـيـداً عـن قـيَم الحـياة وجـمالها فإن الرجـوع إليها ليس بالأمر الصعـب خاصة حـين تـفاجـئه الحـياة بنـفـسها وتوقـضه من غـفـوته فـيحـس بجـمالها وثـمنها وحـينـئـذ يعـشقـها .

 

 بقـلم : مايكل سـيـﭙـي / سـدني

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *