بعد دفن الباطريرك الكاردينال…هل أوفينا الراحل الكبير حقه!

الحياة رحلة صعبة ومعقدة طويلةً كانت أم قصيرة وبالنهاية تُختَصَر كلها في الزمن الاخير قبل الدفن لينتهي تأريخ ذلك الأنسان في ذلك اليوم وتبقى ذكرى أفعاله وأعماله ومواقفه ونضاله وجرأته ورجولته وعنفوانه ومصداقيته وإيمانه وأهمها كلها محبته.

وها تمضي الأيام سريعاً بإبن تلكيف البار الشاب اليافع كريم جرجيس دلي البالغ من العمر ثلاثة عشر ربيعاً لينتقل من بلدته الى الموصل وتحديداً الى السمنير الكلداني (شمعون الصفا) ليمضي فيه فترة الإعداد ثم ليرسل في بعثة الى روما (الفاتيكان) لإكمال تعليمه الديني واللاهوتي في الجامعة الأوربانية ليرسم كاهناً هناك وهو في الخامسة والعشرون من عمره الغض،وليحصل خلال دراستة على البكالوريوس في الفلسفة سنة 1949 وفي سنة 1954 حصل على شهادة الدكتوراه عن رسالته الموسومة مجالس المطران إيليا برشينايا،وشهادة دكتوراه اخرى سنة 1959عن الحق الكنسي من الجامعة اللاترانية في روما.

وعاد الى العراق وعين سكرتيراً للباطريرك المثلث الرحمات مار بولص الثاني شيخو وبعد سنتين أنتخب أسقفاً وعين معاوناً باطريركيا وكان الساعد الأيمن والمرافق الأمين للباطريرك شيخو في حملة بناء الكنائس والمدارس الكلدانية في بغداد والعراق في اوائل ستينات القرن الماضي،وإستمر معوناً باطريركياً لمثلث الرحمات الباطريرك مار روفائيل الأول بيداويد الى أن قدم إستقالته بعد بلوغه السن القانونية(75)سنة وبسبب وفاة الباطريرك بيداويد سنة 2003 إنتخب المطران المتقاعد باطريركاً بإسم مار عمانوئيل دلي الثالث باطريركاً على كرسي بابل على الكلدان في العالم في أحلك أيام العراق التي لم يمر بها إلا في زمن هولاكو والمغول!،وفي عهده توالت الضربات الموجعات على الجسم الكنسي المُسالم تقتيلاً وتفجيراً وتهجيراً وتهديداً يومياً للقساوسة والإكليروس والشعب المؤمن وأستشهد الأب رغيد كني والشهداء الشمامسة وتوجت بإستشهاد مثلث الرحمات المطران مار فرج رحو رئيس أساقفة الموصل وخطف عشرات الكهنة واستمر ذلك النزيف الدموي التهجيري بعنف وقسوة تجاه رجال الدين ورعاياهم دون هوادة،ولكن ظل هذا الحبر الجليل صامداً كالأسد البابلي الكلداني لاتهزه الرياح العاتية ولايخيفه الإرهاب المسلط على رقبته ورقبة إكليروسه وشعبه،بل كان يزرع الأمل بالنفوس الضعيفة ويُنشط الهمم الخائرة ويُصَبِّر من نفذ صبره وبدأت رحلة الهجرة الكلدانية الى الشتات تخلصاً من القتل والذبح المُمَنهج ضد أهل البلد الأصلاء أعرق شعب في العالم ،والحكومة والأحزاب في واديٍ والآخرون في وادٍ ثانٍ،وكان يقول دائماً في تصريحات غبطته عندما يسأل عن العراقيين المسيحيين وأحوالهم،جملته الشهيرة((لاتسألوني عن المسيحيين فقط!بل إسألوني عن حال جميع العراقيين،فنحن في مركب واحد!))،وهكذا كان قلبه الكبير يكاد ينفطر من الهَم والخوف على رعيته الموكولة اليه،ولكن بروح محبته وغيرته الوطنية السامية كان يتعالى على الجراح الغائرة في أعماق نفسه ليثبت وليعطي مثلاً لباقي رجال الدين من الضفة الأخرى لعل وعسى أن يخففوا من معاناة رعيته بتخفيفهم من غلوهم وغليائهم وتحريضهم العلني والمبطن على المسيحيين أبناء البلد الأصليين،وهكذا إستمر بكل مواقفه الشريفة العادلة تجاه محنة رعيته ومحنة العراق بأجمعه،وكان بذلك شخصية فريدة مُحبة إنسانية في التعامل مع أبناء شعبه العراقي بكل طوائفه،فحاز على إعجاب ومحبة وتقدير كافة المسؤوليين في الدولة وعلى محبة رجال الدين الآخرين لما توسموا فيه من النزعة الوطنية الإيمانية الخالصة المنزهة عن الأحقاد والتي تزرع المحبة بين أبناء الشعب الواحد،وهكذا الى أن أعياه المرض وقدم إستقالته الى الحبر الأعظم أوائل سنة 2012 .

وبعد تقاعده إنتقل الى سان دييكو الى دير الراهبات الكلدانيات لينعم في أيامه الأخيرة بالراحة والهدوء الذي لم يذق طعمهما منذ أكثر من سبعين سنة وأسلم الروح الى سيده وخالقه يوم 8-4-2014 .

والآن هل أوفينا راعينا الراحل واجب الإحترام … نعم ولا كبيرة

نعم،في الجانب الكنسي والروحي أقامت إبريشية مار بطرس الرسول ممثلة بإسقفها سيادة المطران مار سرهد يوسب جمو ورهط الكهنة والشمامسة وعموم الشعب الكلداني وشاركهم مطارنة وكهنة من الطوائف الأخرى بطخس كلداني جنائزي أصيل لم تشهد مثله سان دييكو ابدا،لقد كان تشيعاً جنائزياً شعبياً مؤثراً،وجرى لغبطته أيضاً في ديترويت(مشيغان)تشيعاً أخر مماثلاً في إبريشية مار توما الرسول ممثلةً بإسقفها سيادة المطران مار إبراهيم إبراهيم والكهنة والشعب تقديراً وحباً لمكانته الروحية والكنسية ودفن هناك حسب وصيته!،كما يقال،والآن هل أوفينا حق هذا الرجل الباطريرك الكاردينال حقه؟!،أبداً فالحق والمنطق والعدالة والوطنية والقومية والإيمان والدين والغيرة تقول،يجب أن يدفن جتمان هذا الباطريرك في بلده العراق،لإنه إبن النهرين العظيمين وإبن العراق وإبن الوطن وباطريرك الكنيسة الكلدانية المشرقية وعرشه يدعى كرسي بابل على الكلدان في العالم،فليس من حق أحد أن يحجب رغبة الإيمان والمنطق والعقل في أن يدفن في أي بقعة من العراق فهذا الإنسان ليس ملك عائلته فحسب بل هو مُلك للوطن ومُلك كنيسته وملك الشعب الكلداني أينما كان في العالم ووصيته حق ولكن حقها يصغر ويتضائل أمام الحق الوطني والقومي والكنسي،ومتى كان الكهنة مُلك أهلهم وأقربائهم؟!،نأمل من سيدنا غبطة أبينا الباطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو أن يأمر بإعادة دفن جثمان الباطريرك الكاردينال مار عمانوئيل الثالث دلي في أرض الوطن لتتذكره الأجيال أنه تمسك بوطنه وبتراب أرضه،أليس هو القائل إنني سأكون آخر من يغادر العراق!،أليست هذه وصية؟،وكيف تكون الوصية إذن؟،أليس هذا موقفاً وطنياً صادقاً مع النفس والضمير؟…كلنا أمل بمواقف غبطة الباطريرك مار لويس ساكو الكليّ الطبى أن يأخذ على عاتقه الكريم هذا الشأن وأن تسمح عائلة الراحل الكبير على هذا الطلب فرُفاة الباطريرك لايجب إلا أن يكون في موضعه الصحيح وهو أرض الوطن.

أيها الأب الباطريرك الراحل…ستظل ذكراك العطرة في أفئدتنا وقلوبنا،لقد منحتنا مساحة من الأمل بالمستقبل عندما إكفهرت سماء الوطن،وعلمتنا الصبر على المحن والشدائد عندما ضاق الخناق على رقابنا،وأعنتنا على ضعفات نفوسنا وقويت إيماننا ومنحتنا الرجاء الذي مابعده رجاء ومحبة القريب كمحبة النفس،ورغم أن البعض لم يفهموك حق فهمك،فقد كنت مثال الدعة والبساطة والخلق الكبير،لقد كنت كريماً إسماً على مُسمى،ولن ينسى الكلدان على مر أجيالهم موقفكم الأبي وإصراركم على تثبيت إسم (الكلدان) في دستور الدولة العراقية الجديد رغم محاربتكم من (بعض الإخوة!) الذي تآمروا لمحو وألغاء إسمنا الأصيل من وطننا العراق أرض الآباء والأجداد وتصديكم بشجاعة قل نظيرها لكل أشكال الإقصاء والتهميش بحق الكلدان رغم قلة حيلتكم وأنتم بين أنياب الوحوش والكواسر تنتظر اللحظة المناسبة للقضاء على فريستها.

نَّم أيها الراعي الصالح وصلي لأجلنا أمام سيدك وسيدنا الرب المسيح وليتحنن علينا بإلهام الروح القدس لرؤوسائننا الكنسيين أن ينقلوا جثمانك الطاهر ليستريح الراحة الإبدية في الوطن الأم…آمين .

مؤيد هيلو…سان دييكو

13-4-2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *