ايليا خيرو بلّو رحلة عمر حافلة .. تتوقف

رحل من بيننا بهدوء المرحوم ايليا خيرو بلو عن عمر يناهز التسعين سنة ، وهذا الرحيل قد حفزني للكتابة عن هذا الإنسان الألقوشي الرائع والذي مثلت حياته تجسيداً حياً لمراحل مرت بها مدينته الجميلة القوش .

المرحوم ايليا خيرو بلو من مواليد 1923 وهو زوج شكري كريش ، وشقيق كل من عابد ، اسطيفوا ، ودي ، حبوبة والمرحومين كريم ، شمعون ، شمّي ، وبغية الوصول الى هدفنا لا بد من العودة الى الوراء نحو تخوم اواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات من القرن الماضي ، وسنصادف الفقر يلف الجميع باستثناء بعض العوائل التي تعتبر ميسورة في ذلك الوقت لامتلاكها قليل من المال ، والى جانب هذا الفقر سنصادف القناعة لدى الجميع والحياة تسير بهدوء وبساطة . ونموذج لذلك نأخذ حياة الراحل ايليا خيرو بلو حيث كان في ريعان وقوة شبابه في تلك المرحلة ، واليوم  رحل من بيننا الى الحياة الأبدية يوم 28 نيسان الجاري في مدينة سانديكو بكاليفورنيا بأميركا .

حلقة الوصل لمواكبة واطلاع على حياة المرحوم كانت المرحومة الوالدة شكري صادق بلو والتي دأبت على زرع حب الناس واحترامهم في قلوبنا ، وأي شخص كبير في عائلة بلو هو خالي ينبغي احترامه ، وهكذا فإن المرحوم ايليا هو ابن خالي خيرو ، وكانت امي تحرص على زيارة اولاد عمها ( خوالي ) لأنها كانت يتيمة من الأب الذي كان احد ضحايا الحرب العالمية الأولى ، وأمها تزوجت تخلصاً  من آفة الفقر والجوع ، وبقيت امي وعمرها ستة اشهر في كنف ابن عمها كنا بلو الى ان تزوجت عام 1940 .

 اتذكرا ان المرحوم ايليا مع زوجته المرحومة شكري كريش في البيت الملاصق لبيت خالي كنا بلو الذي يقع خلف كنيسة مار كيوركيس في محلة قاشا ، والبيت الذي اتكلم عنه هو عبارة عن غرفة واحدة يمكن الصعود ( التسلق ) اليه فيما يشبه الدرج .

عرفت المرحوم ايليا وأنا طفل صغير وهو يحمل المنجل على كتفه مع عمي كيكا وغيره من العمال ، وهم ينتظرون في سوق القوش من يأخذهم الى حقل الحنطة لحصد  المحصول الناضج، إن الحصاد من الأعمال الشاقة في ايام تموز الحارة ، وإن انتهى موسم الحصاد ينتقل المرحوم ايليا الى تعزيق تربة مزرعة البطيخ ( خبارا د وًرزا ) ، الأجور هنا اقل من حصاد محصول الحنطة ، لكن المهم هنا الأستمرارية في العمل ، لقد رأيت المرحوم ايليا يعمل خبّاطاً او عجاناً ( كًوالا) الجص الى جانب متي ابونا في بيت بيبو حلبي المجاور لبيتنا ، كما عمل المرحوم ايليا في حفر وتعزيق وتقليم  الكروم ، ( مخايا مّارا ) وعمل في الكور ( اتونا ) لحرق الصخور الكلسية بغية الحصول على مادة الجص ، وما ادراك ماهو العمل في اتونا ؟  إنه من الأعمال الشاقة من الفه الى يائه والعمل مهم لتحضيرمادة الجص المستخدم كملاط في بناء البيوت قبل ظهور وانتشار مادة السمنت ، كما عمل في منطقة الكنود في استخراج الصخور الكلسية .

في مسيرة العمل الكادح عمل ايليا خيرو بلو لمدة ثلاثة اشهر بشكل متواصل في الميتم الملاصق لدير السيدة الذي شيّد في اواسط الخمسينات من القرن الماضي وكان عمله المضني يتلخص في ملئ الكيس بالجص وحمله ونقله الى السطح مع كل متطلبات البناء ، والعمل المضني هذا كان بأجور يومية قدرها ( 4 ) دراهم لليوم الواحد ، وكانت امرأة من الجيران قد حسدت المرحوم ايليا وأخذت تحسب المحصول الكبير لأيليا لثلاثة اشهر مضروبة بأربعة دراهم كم اصبح غنياً هذا الرجل ؟

الأوضاع غير المستقرة في الشمال كانت وراء هبوب رياح الهجرة في الستينات من القرن الماضي ، فكانت استراحة محارب بالنسبة للمرحوم ايليا إذ شد الرحال ليستقر في بغداد ليبدأ مشوار جديد لمواصلة الكفاح والعمل ، وهنا كان عليه ان يعمل في حقل البيع والشراء ، فهنالك شريحة كبيرة من ابناء شعبنا آثروا الاستقرار في بغداد قادمين من المحافظات الشمالية بسبب اوضاع الحرب في تلك المناطق ، وهؤلاء يحبذون المأكولات التي تعلموا عليها ، كالبرغل ( كركور ) والحبية ( بقّوتا ) والجريش ( سمذي كريسي) والجبن الأبيض وجرزات الشمال والراشي ، فكان خيار المرحوم ايليا العمل في تجارة هذه المواد ، واشترك مع ابن عمله جميل بلو وذلك بوضع المواد في عربة الدفع اليدوية ، ودفعها في الشوارع والأزقة التي بها ابناء شعبنا .واستطاع بهذا العمل التجاري المتواضع مع الإستمرارية والتواصل والإرادة ان يحقق نجاحات اقتصادية وتماشياً مع العمل التجاري هذا دأب الأولاء على الأنخراط  في العمل التجاري ، ولكن ليس عن طريق التجول في الأزقة والدرابين بل في محلات وأسواق تجارية .

قد يتساءل احدهم ويقول ان هذا الرجل لم يذق طعم السعادة في حياته ، لأنه كان متواصلاً في العمل ، ولكن انا اختلف مع هذا الرأي ، فالتعريف الحديث للسعادة هو السعي لتحقيق هدف ، إن شئت ان تصل قمة فسعادك هي في التعب والشقاء في محاولة لبلوغ تلك القمة ، يقول الفيلسوف ارسطو : ان السعادة هي في العمل والمقصود بالفكرة ان الناس في نهاية المطاف يبتغون السعادة او الشعور بالسعادة في اي عمل يؤدونه .

إن كان المرحوم ايليا قد ترك القوش الى بغداد هرباً من الأوضاع وسعياً لأسباب المعيشة ، فإن الأولاد كان طموحهم ابعد ، فقد عزموا امرهم للهجرة الى اميركا ، العالم الجديد ، بلاد الفرص ، وكانت تربية العائلة في الكدح والإخلاص بالعمل متأصلة في اعماقهم ، هكذا تقدم هؤلاء الأولاد النجباء في المجال التجاري والأقتصادي محققين نجاحات مهمة في اميركا ، لقد اثبت هؤلاء الأولاد بأنهم خير خلف لخير سلف .

لقد تقاعد المرحوم ايليا خيرو بلو من مشقات العمل والكدح ، وبقي مع زوجته شكري كريش يعيش سعيداً الى ان خطفت يد المنون شريكة العمر شكري ، ولم يقبل المرحوم ايليا ان ينتقل الى بيت اولاده بل تشبث ساكناً في البيت الذي يحمل ذكرياته السعيدة مع الزوجة الوفية .

لقد زرت المرحوم ايليا في بيته المتواضع الجميل في سانديكو ، وحين جلست مع هذا الإنسان انساب نهر الذكريات في مخيلتي ، وعلمت ان هذا الرجل يحمل في اعماقه فيضاً كبيراً من توصيفات الأنسان العظيم .

بعد ان مضت قافلة سنين العمر بعقودها التسعة يرحل ايليا خيرو بلو الى الحياة الأبدية ، ونتضرع الى الرب يسوع ان يتغمد المرحوم بوافر رحمته وأن يسكنه فسيح ملكوته السماوي مع الأبرار والقديسين ، وأن يلهمهم جميعاً نعمة الصبر والسلوان .

وبهذه المناسبة الأليمة نعبر عن حزننا ، فنقدم تعازينا القلبية لأولاده الطيبين : يونس ، خالد ، جلال ، فاضل ، ريمون ، فؤاد ، صبرية والى اخوانه وأخواته والى كل آل بلو الكرام .

د. حبيب تومي ـ القوش في 02 ـ 05 ـ 2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *