الكلدان في غابر الأزمان / بقلم : د.دنحا طوبيا كوركيس

كانت تسمى المنطقة الجغرافية المسماة اليوم بالفرات الأوسط وجنوب العراق وصولا إلى الخليج الفارسي (بحر الكلدان أو البحر المالح) بأرض الكلدان في قديم الزمان. يروي المؤرخون بأن بلاد الكلدان كانت تتألف من مقاطعتين، هما كلدو السفلى في الجنوب، وهي بلاد سومر (أي أرض شنعار، كما يسميها الكتاب المقدس)، وكلدو العليا في الشمال، وهي بلاد أكد. يقال أن الأقوام الأولى التي سكنت أكد بشكل خاص كانت طورانية امتزجت في دمائها أصول سامية نتيجة هجرة الأقوام التي وفدت إليها فاخذت منها آدابها وفنونها وانصهرت في ثقافتها وسبل عيشها وهذبت لغاتها، وكانت المحصلة بالتالي ظهور شعب واحد يسميه المؤرخون بـ “الكلدان” الذين كانت لغتهم الكلدانية (الأكدية المطعمة بمفردات سومرية). وبسبب شحة الأدلة، يتعذر علينا الحديث عن التاريخ السياسي لشعب سومر وأكد قبل مقدم القبائل السامية، ولكننا نستطيع أن نقول بأن ملوكا من الطورانيين والأكديين والساميين تناوبوا الحكم على مدن سومر وأكد الكلدانيتين. إن ما نستطيع تأكيده هو أن التاريخ السياسي للكلدان بدأ مع تولي سركون الأول (شيروكين) مقاليد الحكم في أكد حوالي سنة 3800 ق. م. حسبما جاء في لوح منقوش عثر عليه مؤخرا. ويقال عن هذا الحاكم بأنه حقق إنجازا عظيما في توحيد وتنظيم القبائل المنتشرة في السهول الكلدانية. لم يكن سركون محاربا، وإنما راعيا لشعبه ورافعا لراية العلم والثقافة التي ظلت خفاقة ترفرف في سماء الماضي والحاضر. ويستحق هذا القائد أن نطلق عليه أبا للترجمة (أو مأمون عصره) لأنه أوعز بنقل علوم الفلك وطقوس الدين والأساطير من اللغة الكلدانية/الأكدية إلى نظيرتها الآشورية وتصنيفها في المكتبات العامرة، بل ويطلق عليه المؤرخ الشهير آركيبولد سايس لقب “سليمان الكلداني” لحكمته وتشريعاته الإنسانية.

تعاقب على حكم السلالة الكلدانية في سومر وأكد ملوك عدة حتى سقوط الدولة الكلدانية سنة 2286 ق. م. على يد الأمراء العيلاميين، وهم من أصل طوراني، بعدما تمكنوا من تأسيس مملكتهم القوية عند الحدود الشمالية الشرقية لمدينة سومر، وتحديدا عند تخوم الهضاب الفارسية المطلة على الخليج. استولى ملكهم المسمى (خضر ناخونتا) على جميع المدن الكلدانية التي أقامها سركون الأول ومن أعقبه في الحكم حتى سقوط كلدو وحكموها لمدة قرنين أو ثلاث. يقول صاحب كتاب “التاريخ العام لطلبة الكليات والمدارس الثانوية”، فيليب مايرز (1846-1937)، أنه لا يسعفنا التاريخ بمعلومات كافية عن الفترة الواقعة بين انحطاط الدولة العيلامية وسقوطها حتى سنة 1300 ق. م. ولكننا نعلم بأنه خلال هذه الفترة الطويلة بدأت بابل تظهر إلى الوجود تدريجيا وحجبت عنا أخبار سومر وأكد. ونعلم أيضا بأن خلال هذه الفترة كانت بلاد آشور في نينوى تعد جيشا جرارا سنة بعد أخرى وتقيم دعائم مملكتها بعد أن كانت مقاطعة تابعة للحكم الجنوبي. يخبرنا المؤلف بأن الجيوش الآشورية زحفت باتجاه الجنوب واستولت على بابل ومدنها وسحقت العيلاميين في عقر عاصمتهم سوسة واسترجع قادتها كل الأصنام التي نهبها العيلاميون من بلاد كلدو ووضعوها في معابدها الأصلية. ولكن، هل أصبح الكلدان آشوريين خلال ما يقرب من ستة قرون من الحكم الآشوري وفق مفهوم الحاكم والمحكوم؟ التاريخ يقول: لا. لو كان الأمر كذلك، لما حكم بابل عشرة ملوك كلدان، وهم حسب التسلسل الزمني:
1.   نبو نصـّر 747-733
2.   نادينوس 733-731
3.   كنزينوس بورس 731-726
4.   إليوس 726-721
5.   مروداخ بلادن 721-709
6.   نبوبلاصر 625-604
7.   نبوخذنصر 604-561
8.   إيفل مروداخ 561-559
9.   نركال شاروصر 559-555
10.   نبونيداس 555-538  

وبالمثل، لم يصبح الآشوريون كلدانا في عهد نبوبلاصر، مثلا، الذي حكم مملكتي بابل وآشور في آن واحد. وهل أصبحت القبائل الآرامية التي بسط سيطرته عليها، ناهيك عن جزء من عيلام وفلسطين وسوريا ومصر كلدانا وفق مفهوم الحاكم والمحكوم الذي أشرنا إليه؟ وفي نفس السياق، نقول بأن الشعوب لا تنقرض مهما أودت الحروب بحياة مواطنيهم، وإنما تنصهر مع المحتل بدرجات متفاوتة في تغيير ثقافتها وعاداتها وفق مقتضيات الزمن.

الأردن في 20/8/2010

المصادر:
Myers, Philip V. N. (1890). A General History for Colleges and High Schools. Boston & London: Ginn & Co.
Malech, George David (2009 [1910]). History of the Syrian Nation and the Old Evangelical-Apostolic Church of the East: From Remote Antiquity to the Present Time. Whitefish, MT: Kessinger Publishing LLC.

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *