العقل الأمني العربي العقيم / بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

 

كأن الأجهزة الأمنية العربية لا تعي ولا تعقل، ولا تتعلم من أخطائها، ولا تستفيد من تجاربها، ولا تتعظ بغيرها، ولا تأخذ العبرة من ماضيها، ولا تحاول تجنب الأخطاء، وتجاوز العيوب، والابتعاد عن المزالق والسقطات، فتراها تكرر نفسها بعبطٍ، وتعيد إنتاج تجربتها بغباءٍ، وتقلد غيرها بسفاهةٍ، وتقع في ذات الأخطاء كالدواب، وتمر في نفس المسارات كأنها إلزامية، وتتصرف بصبيانيةٍ أبعد ما تكون عن المسؤولية، وتعيث في الأرض الفساد كأنها أرض خصمٍ، وتنتقم من الشعب كأنه عدو، وتبطش به بلا رحمة، وتنتقم منه بقسوة، وتعامله بخشونةٍ، وتعذبه بوحشية، وتحاول أن تذله متعمدةً، وأن تهينه قصداً، وأن تحط من قدره وتقلل من شأنه ليسهل عليها السيطرة عليه والتحكم به.

رجل الأمن أنيقٌ في ملبسه، حسنٌ في مظهره، يلبس أجمل الثياب وأكثرها أناقة، ويقود أفضل السيارات وأكثرها فخامة، وضاء الوجه، باسم الثغر، يدخل أفضل المطاعم وأشهرها، ويجلس في أكبر الفنادق وأكثرها نجومية، صامتٌ لا يتكلم وكأنه حكيمٌ عاقلٌ يحسن الإصغاء، ويجيد نعمة السماع، ليسترق أكثر، ويجمع أقصى ما يستطيع من المعلومات، ويعرف أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأسرار والأسرار، كي يستغلها في عمله، ويستفيد منها في مهماته، لكنه إن تحدث لفرط غبائه لا يحترم، ولقلة وعيه لا يسمع له.

لا كفاءة لدى عناصر الأجهزة الأمنية العربية غير السمع والطاعة العمياء، والتبعية المطلقة، وتنفيذ الأوامر بدقة، والمبالغة في التعذيب بشدة، وعدم التمييز في معاملتهم بين أخٍ وشقيقٍ، وقريبٍ ونسيبٍ، وأجنبيٍ وغريبٍ، بل إن من مظاهر الإخلاص وعلامات الولاء أن يكون رجل الأمن شديداً على الأقارب، وقاسياً على الأهل والمعارف، ذلك أن مصلحة الوطن المدعاة لديهم أكبر من أي اعتبارٍ آخر، وأهم من وشائج القربى وعلاقات الجيرة والنسب.

أولئك الحمقى لا عقل يميزهم، ولا علم ينهض بهم، ولا تفكير سليم يحصنهم، ولا حكمة تكفكفهم، يرون أنفسهم الأوعى والأكثر فهماً، والأذكى والأعمق فكراً، والأكثر وفاءً للوطن وحباً للشعب وإخلاصاً للنظام، ولكن أقصى ما يتحلون به عصا غليظة، ومفرداتٍ بذيئة، وكلماتٍ وضيعة، وتصرفاتٍ مهينة، ووسائل تعذيبٍ قديمة، وآلات عصرٍ وكسرٍ وشبحٍ وربطٍ وتعليقٍ وخنقٍ وصعقٍ، وصناديق حبسٍ وأقفاص حصرٍ، وزنازين قهرٍ وأسواط جلدٍ، وكوابل ضرب، ومعدات نفخٍ وأسياخٍ كويٍ وشيٍ، وأكياس خنقٍ ودولاب وأباجورة ومعدات صلبٍ، وأخرى مما يتفتق عنها خيالهم، وتبدعها نفوسهم الشريرة، وعقولهم المريضة.

أولئك يظنون أن عقولهم في قبضات أيديهم، فهي محط الاحترام والتقدير، وأن الحق حيث تطأ أقدامهم، فلها أن تدوس الرؤوس بأحذيتها، ويرون أنهم يحسنون التفكير نيابة عن غيرهم، وعلى الشعب أن يصغي لهم، وأن يستجيب إليهم، وأن يلتزم أوامرهم، ويطيعهم حيث يأمرون، وينتهي عما ينهون، ولا يجادل في أمرٍ، ولا يسأل عن خبرٍ، ولا يتابع شائعة، ولا يصدق غيرهم، بل إنهم يستخفون بكل ذي عقلٍ ورأي، ويجدون المبررات المقبولة والمسوغات المشروعة لكسر الأقلام وتكميم الأفواه، وإغلاق الصحف والمجلات، وتعطيل المواقع والمدونات، ومصادرة الكتب والمنشورات، ويرون في هذا كله خطراً على أمن البلاد ومستقبل الأجيال.

هؤلاء المرضى في نفوسهم، الميتة قلوبهم، المتحجرة عقولهم، المنحرفة أفكارهم، يستطيعون أن ينتزعوا بهذه الأدوات التي يملكونها، والوسائل التي يتبعونها، والخبرات التي يمتلكونها، الاعترافات من المعتقلين، بل إنهم يستطيعون أن يملوا عليهم الاعترافات التي يريدونها، ويجبروهم على التوقيع عليها، والإقرار بها أمام القاضي، والشهادة أمامه أنها لم تنتزع منهم بالقوة، وأنهم لم يتعرضوا للتعذيب، وأن أحداً لم يمارس الضغط عليهم، ورغم أن القضاة يعرفون سلوك أجهزتهم الأمنية، ووسائل تعذيبهم، والطرق غير المشروعة التي يتبعونها في نزع الاعترافات من المعتقلين، إلا أنهم يبنون أحكامهم على الاعترافات الباطلة، ويصدرون في حق المعتقلين أحكاماً قاسية، تتجاوز جرائمهم، وتتعدى المنطق والمعقول في عقابهم.

هذه العقليات الأمنية العربية المريضة، المنحرفة الضالة غير الأمينة، المهمومة بالتجارة وزيادة أرصدتها وتهريب أموالها، ونقل أفراد أسرها إلى الخارج فراراً بهم وخوفاً عليهم، تتحمل مع الأنظمة الحاكمة كامل المسؤولية عن نشوء الأفكار المتطرفة، وبروز التنظيمات المتشددة، والجماعات الإرهابية، فهم الذين يدفعون الشباب للتطرف، ويشجعونهم على تبني الأفكار الأصولية المتشددة، وهم الذين يبذرون في نفوسهم دوافع الجريمة، ويكرسون لديهم معاني الثأر والانتقام، إذ كيف تستقيم الحياة لدى رجلٍ عذبه آخر مثله، وشبحه وضربه وحبسه في كيسٍ مع الفئران والأفاعي والصراصير، وربما اغتصبه ومس رجولته وتعرض له في شرفه وعرضه.

أولئك بغبائهم لا يعلمون أن المواطن لا ينسى ولا يغفر، ولا يعفو ولا يسامح، ولا يسكت على الظلم ولا يقبل بالمهانة، وأنه ما بقي في السجن معذباً، وخلف القضبان مهاناً، فإنه يختزن المزيد من الحقد، ويغذي الكثير من الأفكار المتطرفة، وأنه يتطلع بفارغ الصبر إلى اليوم الذي فيه يتحرر وينطلق، ليثور وينتقم، ويثأر ويسترد كرامته ممن ظلمه وممن سكت عن ظلمه، أو تآمر عليه وتحالف ضده.

الأجهزة العربية واحدةٌ، تتشابه ولا تختلف، وتتفق لا تعترض، سياستها واحدة، ومنهجها مشترك، وأدواتها متشابهة، وعناصرها بغيضة كريهة، بشعةٌ ممقوتة، منبتةٌ عن الشعب، ومنعزلة عن الوطن، ولا فرق بين أجهزة بلادٍ متحضرة، أو أخرى عميقة، إذ لا ديمقراطية ولا حقوق إنسان، ولا مراعاةً للقوانين والأعراف، بل كلها أجهزة أمنية بولسية قمعية وحشية، لا تفهم غير العنف، ولا تؤمن بغير الضرب، ولا تستخدم غير العصا، ولا تعترف بغير الإذلال وسيلةً لتحقيق أهدافها، والوصول إلى غاياتها، سعياً وراء مجدٍ أو شهرة، أو حرصاً على منصبٍ ورتبة، أو كسباً لربحٍ أو منفعة، ولكنهم ينسون أن دائرة الانتقام دائماً تكتمل، وأن نار الظلم حتماً ستحرقهم هم أو بعضاً ممن يحبون، طال الزمن أم قصر، وتأخر القصاص أو تعجل، فهل يتعلمون ويدركون، ويتعظون ويتوبون، وعن أخطائهم يتوقفون وعن غيهم يتراجعون.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

بيروت في 24/6/2015

https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi

tabaria.gaza@gmail.com

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *