الضغوط النفسية بين العمل والحياة الاسرية / بقلم : الدكتور عبدالله مرقس رابي

 

الدكتور :عبدالله مرقس رابي
بروفيسور في علم الاجتماع

      يؤثر التقدم التكنولوجي السريع في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع البشري.ومن مظاهر هذا التأثير هو خلق فجوة بين طبيعة العمل الذي احدتته التكنولوجية والحياة الاسرية,تلك المؤسسة التي تعد من اهم المؤسسات الاجتماعية التي يتكون منها البناء الاجتماعي التي تضطلع دورا مهما في التنشئة الاجتماعية للابناء.اذ تشير الدراسات وابحاث منظمة الصحة العالمية ومكتب العمل الدولي  الى ان مشكلة الضغط النفسي تعد من اخطر المشاكل في وقتنا الحاضر لانها بمرور الزمن تؤثر علىصحة الافراد وتتحول الى امراض عضوية او نفسية معقدة او الى مشكلات اجتماعية وتهدد المصالح العامة ما لم يحسن الفرد التعامل معها, وقد اشارت نتائج الابحاث الدولية الى :
  1-  يعاني 60%من العمال الاوربيين من الضغوط النفسية.
2- يجد 66%من العمال الكنديين الصعوبة في التوفيق بين العمل والحياة العائلية.
3- يقضي 600 مليون من القوى العاملة في العالم اي بنسبة 22% اكثر من 48 ساعة اسبوعيا في العمل .
4- ان 75% من المشكلات الصحية في الولايات المتحدة الامريكية لها علاقة بشكل او باخر بالضغوط النفسيةمثل ,القرحة ,الصداع النفسي, ضغط الدم ,الارق, دقات القلب غير المنتظمة و غيرها.
5 – تقتل حوادث العمل 6300 شخص يوميا حول العالم اي تسبب في قتل 2.3 مليون سنويا وتاتي في مقدمة اسبابها الضغوط النفسية الناجمة عن الارهاق بسبب ساعات العمل الطويلة.
      يدل من هذه النتائج ان التكنولوجية الحديثة اثرت في الحياة النفسية والصحية والاجتماعية للقوى العاملة في العالم بسبب التغير الذي حصل في طبيعة وخصائص العمل الذي يزاوله الفرد .فالعمل التفليدي ذو الخصائص الاجتماعية التي تدعم الترابط الاسري تغير الى نموذج من العمل الصاخب والذي يتطلب الانجاز السريع والبيروقراطية المحددة بلوائح قانونية صارمة لايتخللها نوع من العواطف بل يجب تنفيذها والا سيفقد العامل عمله.وتعد ظاهرة قضاء الفرد ساعات طويلة في العمل لكي يستطيع مواكبة الارتفاع في المستوى المعاشي في الحياة العامة من اخطرها في تكوين الضغوط النفسيةوبالاخص عند الام العاملة.
يمكن تعريف الضغط النفسي:درجة استجابة الفرد للاحداث أو المتغيرات البيئية في حياته اليومية وهذه المتغيرات ربما تكون مؤلمة تحدث اثارا فسيولوجية لكنها تتباين بين الاشخاص وفقا لقانون الفروق الفردية.واهم مؤشرات الضغوط النفسية اضطرابات في النوم, اضطرابات الهضم ,اضطرابات في التنفس,خفقان القلب,التوجس والقلق على اشياء لاتستدعي لذلك,اعراض اكتئابية التوتر العضلي,الغضب لاتفه الاسباب ,التفسير الخاطىء لتصرفات الاخرين,الاجهاد السريع.
   أما كيف تتكون الضغوط النفسية ؟يؤدي التقدم التكنولوجي وظروف العمل الحديث وما يقضي الانسان من ساعات العمل الطويلة وقد تصل احيانا الى16ساعة يوميا الى زيادة الاعباء على النفس البشرية اذ لايتحمل النفس اعباء فوق الطاقة ,  ولا عضاء الجسم قابلية محددة  لكي تقاوم الارهاق الجسدي والنفسي الذي يبذله العامل, فكلما تضاعفت ساعات العمل تضعف من قابلية الجسم للعمل,  فينتج عنها زيادة الضغوط على الجسم وثم العقل مما يؤدي الى استنزاف الطاقة وتدميرها والنتيجة تكون الانهيار لان الغدد لا تعمل بصورة طبيعية مما تزيد من حالات الانفعال والغضب والكآبة والوسواس القهري والقلق النفسي لفقدان الفرد التركيز والسيطرة على الذات وهذه تزداد خطورة عند المتزوجين واولادهم .
   تنسحب خطورة هذه الحالة على الحياة الاجتماعية للاسرة,حيث كشفت الدراسات الاجتماعية وجود علاقة بين العمل غير الاعتيادي وارتفاع نسب الطلاق والانفصال والفقر وسوء تنشئة الابناء وسبب انحرافهم.ولعله ان هذا التأثير يكون اكثر فاعلية عندما يعمل الزوجان ولساعات عمل طويلة. ومن ابرز مظاهر التوتر الاسري هي.
1-سوء العلاقة بين الزوج والزوجة ,ان كلا الزوجين بحاجة لبعضهما لكي يحققا انفعالاتهما النفسية والجسدية في تبادل العواطف التي تدعم العلاقة الاجتماعية الموجبة بينهما وبالتالي تسود حالات التفاهم والرضى والانسجام.اما اذا صرف الزوجان وقتا طويلا في العمل يؤدي ذلك الى الانهماك الجسدي والنفسي واثناء الرجوع الى الدار قد لايستطيعا الانصراف الى تبادل الحديث والعواطف وخصوصا لانشغال الزوجة في ترتيب الامور المنزلية فهي مضطرة لتحضير وجبات الطعام ,التنظيف,الغسيل ,وتهيئة مستلزمات الاطفال وتوصيلهم من والى اماكن انشطتهم اليومية من المدارس والنوادي.ولايحس كل منهما الاانه بحاجة الى النوم لاستعادة القوى النفسية والجسدية والعقلية.وتكرارا لهذه الوضعية تؤدي الىفقدان     اواصر المودة والحب  بينهما وتبدأ تدريجيا علامات الانفعال لاتفه الاسباب والقلق والانهيار العصبي والنتيجة تكون التشنج في العلاقة الزوجية لعدم التمكن من القيام بواجباتهما الزوجية تجاه الاخر واخيرا تحدث المشكلات الاجتماعية التي تتفاقم يوما تلو الاخر ويتندم عليها كلاهما.
2-من ابرز نتائج سوء العلاقة بين الزوجين هي اللجوء الى الادمان على الكحول اوالمخدرات للتنفيس والتهرب من الحالة التي يعيشها .وهذه تكلفه اموالا قد لايستطيع تحقيقها من العمل وعليه قد يرتكب جرائم متنوعة لغرض الحصول عليها.ولعدم تحقيق احد الزوجين رغباته العاطفية والجنسية وقد يلجأ الى اشباعها خارج الاطار الاسري وبشكل غير شرعي وبالاخص عند وجود الجموح الجنسي لدى احدهما .تكفي هذه الاسباب ان تكون عاملا للطلاق او الانفصال في المجتمعات الغربية .انما تتطور في المجتمعات الشرقية الى القتل.
3 – تؤدي الضغوط النفسية بسبب العمل الشاق الى سوء تربية الابناء .
   طالما يقضي كل من الاب والام اوقاتا طويلة في العمل يؤدي ذلك الى الاهمال في تربية الابناء وبالذات في اعمار الطفولة والمراهقة اذ هم بامس الحاجة الى رعاية الوالدين.وقد يتوهم البعض عندما يتصورون ان رعاية الام كافية للابناء, فمتابعة الاب والتعبير العاطفي تجاههم بالحنان والحب والتساؤل عن انشطتهم اليومية لاتقل اهمية عن رعاية الام.فاذا فقد الابناء هذه الرعاية المباشرة من كلاهما بسبب الضغوط النفسية الناجمة عن ظروف العمل الشاق سوف يبحثون عن بدائل اخرى لاشباعها  وبالذات اصدقاء السوء  فاذا كان لاحدهم استعدادا للانحراف ستكون البيئة الجديدة مهياة ظروفها لتطوير ذلك الاستعداد .
قد يكون هذا الانحراف الادمان على المخدرات أو الكحول أو الممارسات الجنسية المبكرة وقضاء اوقات طويلة خارج الدار ولساعات متأخرة ليلا,وتكون النتيجة التخلف الدراسي مما تؤثر الحالة هذه في حياتهم المستقبلية او الاصابة بالامراض النفسية لان الشعور بالنقص من الحنان والرعاية من قبل الوالدين تؤدي الى تبلور الشخصية السايكوباثية عند الانسان فتحبط عنه امكانية التكيف الاجتماعي في المجتمع بصورة متكاملةٍٍٍٍٍ.
    قد يظن البعض بوجود بديل لرعاية ابنائهم مثل  الاجداد او احد الاقرباء او الخدم سيعوضون رعاية الوالدين ذلك وهم كبير وتهرب من المسؤولبة .اذ دلت الدراسات ان الحرص الشديد او الدلال المفرط من قبل هؤلاء يؤدي الى عدم التوافق مع تربية الوالدين مما يحدث صراع نفسي لدى الابناء بسبب التناقض بين تربية الوالدين وتربية البدائل المذكورة مما يحدث هذا الصراع ازدواجية في سلوك الابناء .
4- يلاحظ ان اثر الضغوط النفسية الناجمة عن ظروف العمل الشاق وساعات العمل الطويلة تبرز بوضوح عند الجماعات المهاجرة في البلدان الغربية لان المهاجر دائما يهمه اللحاق بالمستوى المعاشي لابناء البلدالمضيف او يحاول التعويض عن ما فقد من اموال قبل الهجرة لكي يستطيع اشباع عقدة النقص التي يشعر بها كل مهاجر تجاه افراد المجتمع الاخرين.وقد يتوجه كلا الوالدين الى العمل ومهما تكون ساعات العمل ,اويقضي ساعات طويلة في عمله الخاص دون اعارة اهمية للابناء وحاجتهم اليهما فعليه يفقدون بمرور الزمن السيطرة على الابناء وتوجيههم دراسيا وسلوكيا وتخليصهم من اصدقاء السوء.او يتخبط المهاجر في التربية ما بين ما تعلم من وسائل في مجتمعه القديم والوسائل المتاحة لتربية الابناء في المجتمع الجديد لعدم ادراكها او الجهل بقوانين البلد التي تخص تربية الابناء,وكثيرا ما يتخذون من مفهوم الحرية تعاملا خاطئا مع اركان الحرية الفردية في المجتمعات الرأسمالية.

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *