التعليم بالأمثال عن الملكوت

 

” في ذلك اليوم خرجَ يسوع مِن البيع، وجلس بجانب البحر. فازدحمتْ عليه جموعٌ كثيرة، حتى إنَّه رَكِبَ سفينة وجلس، والجَّمعُ كُلُّه قائمٌ على الشاطيء. فكلَّمهم بالأمثال على أُمور كثيرةٍ قال: هُوَذا الزارع خرجَ ليزرع. وبينما هو يزرع، وقع بعضُ الحَبِّ على جانب الطريق، فجاءَت الطيور فأكلته. ووقع بعصُه الآخر على أرضٍ حَجِرةٍ لم يكن فيها تُرابٌ كثير، فنبتَ مِن وقتِه لأنَّ تُرابَه لم يكن عميقاً. فلما أشرقت الشمس احترق، ولم يكن له أصلٌ فيبِس. ووقع بعضُ الآخر على الشوك فارتفع الشوكُ فخنقَه. ووقع بعضُه الآخر على الأرض الطيِّبة فأثمرَ، بعضُه مِائة، وبعضُه سِتّين، وبعضُ ثلاثين. فمَن كان له أُذنان فليسمع! ” (متَّى13: 1-9) يُقابلها (مر4: 1-9 ولوقا8: 4 – 8).

 

أعزّائي القراء. قد وصلتُ الآن الى الإصحاح الثالث عشر الذي يحتوي على سبعة أمثالٍ عليَّ شرحُها لكم على قدر استطاعتي، إذ مِن الضروري جداً استيعاب فهمِها لنُدرك قصدَ وحي الروح القدس عن رسالة رَبِّنا يسوع المسيح في السنوات الثلاث الأخيرة مِن حياته الأرضية بحسب ما دَوَّنَها الإنجليُّ متَّى، وكذلك لكي نتعرَّف على خِطَط الله وتعامله ليس مع خاصتِه بني اسرائيل فحسب، بل مع العالَم بأسره. وما ورد في هذا الإصحاح هوتوضيح بل رَدُّ فِعلٍ إذا صحَّ التعبير لِما ورد في الإصحاح  السابق له “الثاني عشر” مِن رفض رؤساء بني اسرائيل الدينيين الكتبة والفريسيين المتكبِّرين ذوي الإعتداد بِبرِّ أنفسهم. والى جانب رفضهم للوارث الحقيقي للمواعيد، جَدَّفوا على الروح القدس فكان حكم الرَّبِّ عليهم شديداً.

يقول البشير متَّى والبشير مرقس: بأنَّ يسوعَ التقى الجموعَ خارج البيت، ولكثرة الجموع اضطرَّ للدخول الى السفينة وجلس. أما لما طلبَ التلاميذ أن يُفسِّر لهم مثل الزارع، فتمَّ ذلك داخل البيت بعد أن صرف الجموع. فما هو قصده بالبيت؟

 

1 – قد يقصد يسوع بالبيت “جماعة المؤمنين” وفي الواقع هم تلاميذه الذين اختارهم والذين سيُكوِّنون لاحقاً واجهةً “للكنيسة المقدسة” وخروجه من البيت كان للإلتقاء بالجماهيرغير المؤمنة ولا زالوا خارج عضوية الجماعة المؤمنة ولم يولدوا كأبناءٍ لله بعد. كان دافعه للخروج إليهم حُبّاً بوعظهم وتعليمهم بقرب البحر الذي يُشبه العالَمَ المليءَ بالإضطراب، وغرضه إدخالهم الى الجماعة المؤمنة عن طريق دخوله الى سفينة بشريتنا وتحدُّثه إليهم عن ملكوت الله من خلال الأمثال.

 

وإنْ كان بحُبِّه الكبير يُكلِّم الجماهير، إلاَّ أنَّه لا يثق بأحدٍ من خارج البيت للإطلاع على أسرار ملكوت الله ومعرفة مذاق الأمجاد الأبدية. حيث بعد صَرفِه للجماهير يجتمع بتلاميذِه على انفرادٍ داخل البيت، ويُكلِّمهم بأمورسامية ومجيدة لا ينطق بها إلاَّ معهم. وعادةً تحظى الجموع بحضوريسوع بينهم خارج بيته، لأنَّهم خارج البيت. ولحُبِّه الكبير للبشر يخرج تاركاً البيت وينطلق بعيداً ليلتقي بأولئك الذين لا يُمكنهم الحضور إليه.

 

2 – وقد يقصد الربُّ يسوع بالبيت بأنَّه السماء باعتبارها مسكن الله، فإن عجِز البشرُعن الصعود الى السماء للإلتقاء بخالقهم نزل هو إليهم عن طريق تجسُّدِه. يخرج من البيت ليلتقي ببني البشر من خلال بشريتهم، وبذلك لا يخافونَ مِنه كديّان فيفِرّون مِن أمامِه، بل يصل صوتُه الى سمعهم مِن خلال خشبة الصليب مُعلِناً استعدادَه لجذبهم بالحبِّ الى بيتِه “السماء” كاشفاً لهم أسراراً كعريسٍ يُناجي عروسه. لا يُكَلِّمُها عن أسراره جهاراً بين الجماهير، بل أثناء علاقة الحُبِّ الشخصي في اللقاء الحاصل بينهما تحت سقفهما الواحد المُشترك.

 

3 – وربَّما كان خروجُه مِن البيت تعبيراً عن تَركِه لبيت اسرائيل واستيائه من العلاقات الطبيعية التي كانت تربطهم به ” هُوَذا بيتُكم يُترَكُ لكم قفراً ” (يوحنا23: 38) وجلوسه عند البحر يُشير الى تحوُّلِه نحو البشرية بأسرها، الى جميع الشعوب والأمم (رؤيا17: 15). كان لِبيت اسرائيل موقع خاص لدى الرب. وقد صبرَعليهم صبراً مُتعِباً مُنتظِراً منهم ثمراً يليق بمكانتهم وامتيازاتهم واختياره إياهم شعباً خاصاً له، ولكنَّهم تنكَّروا لتعبه معهم (إشعيا5: 1 – 7). فلم يَعُد الربُّ ينتظر ثمراً من الكرْم الإسرائيلي القديم. بل ينتظر ثمراً مِن زرعِه الذي يزرعه! كما أنهى انتساب اسرائيل كشعبٍ له، ولكنَّه يرضى بالإنتساب إليه أُولئك الذين يعملون بمشيئتِه عن طريق كلمتِه (متَّى12: 49 – 50)

 

إنَّ ما يُريده الله لنا هو “الخروج” كخروج بني اسرائيل مِن أرض العبودية في مصر الى أرض الموعد المُفعمة بالخيرات. يا لتوق يسوع لإخراجنا مِن عبودية الخطيئة الى حُرية مجدِ أبناء الله! وإذ رأى أنَّ خروجنا عسيرٌ بل مستحيلٌ، خرج هو من أمجاده سابقاً إيانا ليُخرجنا مِن طبيعتِنا الفاسدة، لنلتقيَ به، وفيه ننعم بالطبيعة الجديدة على مثالِه. خرج الكائن في كُلِّ مكان والذي لا يحُدُّه مكان، وجاء إلينا مُتَّخِذاً جسداً كجسدِنا، يبحث عَنا نحن المطرودين مِن حضرة الملك العظيم لأنَّنا مدينون ومُتمَردون. لكنَّ الآتي باسم ذلك العظيم والراغب في مُصالحتنا معه، خرج إلينا وتحدَّث معنا خارج المملكة، ومتى أصبحنا أهلاً للحظوة بالمقابلة، يأتي بنا الى الحضرة الإلهية، هذا ما فعله المُخلِّص يسوع المسيح.

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *