الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء السادس والخمسون

مواصلة البحث عن الحل

على إثر هذه المجازر الدموية المقززة والمثيرة للشجن، التي أحدثت صدمة جديدة للرأي العام العالمي، حاولت عصبة الأمم ايجاد حَلٍّ جديد لمعضلة الكلدان النساطرة “الآثوريين” المستعصية. فاقترحت تقديم وطن قومي لهم في دولة تقبلهم مثل كولومبيا، البرازيل، الأرجنتين، أفريقيا الجنوبية، اوستراليا، بلجيكا، اسبانيا، وفرنسا التي إرتأت توطينهم في أفريقيا الغربية أو اليونان، ايطاليا، وهولاندا. ولكنَّ الأغرب في الأمر، أنَّ الولايات المتحدة لم تُدرج ضمن الدول المُضيفة، في حين أنَّ جالية لا بأس بعددها قد هاجرت إليها منذ زمن. وقد استشيرت جميع هذه الدول بشأن التوطين، إلا أنَّ جميع المُحاولات باءَت بالفشل، وأُجهِضَ المشروع نهائياً عام 1934م، وأُسدِلَ الستارُ على قضية المجزرة التي طُمِرَت في أروقة عصبة الأمم.

 

في أيار من عام 1935م لم تُمانع سلطات الإنتداب الفرنسي قدوم الكلدان النساطرة (الآثوريين) الى سوريا والإقامة في منطقة نهر الخابور مؤقتاً، على أمل أن يُستكملَ مشروع إسكانهم النهائي في وادي نهر العاصي، وقُدِّرَ عددُ اللاجئين عام 1939م بعشرة آلاف نسمة، بيدَ أنَّ المحيط الإجتماعي السوري المُتخلِّف والمُتزَمِّت عربياً وإسلامياً، لم يُبدِ ترحيباً بهم فحسب، بل أظهر عِداءً سافراً، معتبِراً إياهم جسماً غريباً غير عربيٍّ ولا مُسلِمٍ، فلم يَلقَ مشروع نهر العاصي قبولاً، وإزاء ذلك فضَّلَ عددٌ كبيرٌ من الكلدان النساطرة “الآثوريين” العودة الى العراق، أما الذين استوطنوا مخيَّم نهر الخابور، فقد استقرّوا فيه في ثلاثين قرية ونيِّف.

 

في عام 1940م تفكَّكت عصبة الأمم، ومعها ماتت قضية الكلدان النساطرة “الآثوريين”. وبعد الحرب العالمية الثانية، تجرّأ البطريرك النسطوري شمعون الحادي والعشرون وبتشجيع من الآثوريين المتطوعين السابقين في الجيشَين الإنكليزي والفرنسي الى إحياء قضيتهم، فوجَّهَ بتاريخ السابع من أيار 1945م مِن منفاه في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك عريضة الى مؤتمر السلام العالمي المنعقد في سان فرانسيسكو، مُعيداً فيها مطالبتَه الإعتراف بحقوق الشعب الكلداني النسطوري “الآثوري” إلا أنَّ هذه المُحاولة كانت كالصرخة في الوادي والنفخ في الرماد. واستمرَّ تعرُّض الكلدان النساطرة “الآثوريين” الى نكبات، ففي شمال بلاد فارس وفي نهاية الحرب العالمية الثانية أُعلن عن قيام جمهورية كردية مستقلة باسم ماهاباد، تحت حماية الإتحاد السوفييتي الذي ضمَّ إليها الكلدان النساطرة “الآثوريين” المُقيمين الى جوار بحيرة وان، فما لبثت هذه الجمهورية أن خُنقت في مهدِها، بعد إجبار السوفييت على الإنسحاب من قبل الإنكليز والأمريكان، فسيطرت ايران الفارسية على المنطقة، ووقع الكلدان النساطرة “الآثوريون” ضحية انتقامها ما بين عامَي 1946- 1949م، وامتنعت هيئة الأمم المتحدة عن التدخُّل متجاهلة رسالة البطريرك شمعون الحادي والعشرين الموجهة الى الأمين العام شارحاً فيها وضع أتباع كنيسته المأساوي في اورميا، وكذلك لم تُصغِ القِوى العظمى لنداءاته الإستغاثية، ولا المحافل الدولية أعطت اذناً صاغية للإحتجاجات المُلحة، إذ ظلَّت جميعُها حَرفاً مُهمَلاً لِما يزيد عن ثلاثين عاما.                                                 

التنصُّل عن الوعود

 

ويُضيف كوز في كتابه (تاريخ كنيسة المشرق/ مسيحيو العراق وايران وتركيا ج2 ص 251): انتهت الحرب وتنصَّل الحليفان الإنكليزي والفرنسي عن الوعود التي قطعاها للكلدان بشقيهم النساطرة والكاثوليك لقاء اشتراكهم الى جانبهم في الحرب ضِدَّ العثمانيين، فلدى حضور مندوبيهما الى مؤتمر السلام عام 1919م في باريس للمطالبة بتنفيذ الوعود، لم يكن وفدهما موحداً، بل حضروا مختلفين منقسمين وبأربعة وفود هم: وفد الكلدان النساطرة المُقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية المُتسَمَّين بالآثوريين. وفد الكلدان الكاثوليك المُرسَل من قبل البطريرك مارعمانوئيل الثاني. وفد نساطرة اورميا الكلدان. وفد مُهجَّري القوقاز، وكُلٌّ منهم يُقدِّم طلبه للحصول على وطن مستقل، وبالإضافة الى الوفود الأربعة قام بطريرك الكلدان النساطرة شمعون العشرون بولس بتقديم مذكرة من مقر إقامته في بعقوبة وقتذاك وبعث بها الى مؤتمر السلام. كانت بعض مُقترحات تلك الوفود تتسم بالعقلانية والمنطق، وبعضها الآخر كانت مِن نسج الخيال الجامح، هذا إذا أُخِذ بنظر الإعتبار، أنَّ الكلدان بشقيهم النسطوري والكاثوليكي، لم يُشكِّلوا يوماً أكثر من ثلث سكان المناطق المقيمين فيها والمُطالبين بها. يبدو انَّ الإقترح الذي قدَّمَه وفد البطريرك الكلداني مارعمانوئيل الثاني حظيَ بقبول أعضاء مؤتمر باريس، حيث طالب بمناطق واسعة تشمل ولاية الموصل بالعراق وبمُقاطعة اورميا في فارس وبجنوب تركيا مع منفذٍ في خليج الإسكندرية وآخر في الخليج الفارسي.

 

 

إلا أنَّ توقيع معاهدة الصلح مع الإمبراطورية العثمانية أُجِّلَ جرّاء خلافٍ بين الفرنسيين والإنكليز حول ولاية الموصل التي اكتُشف فيها النفط مؤخراً، وإن الإنكليز لا يقبلون أن يُنافسهم أحد على احتكارهم للذهب الأسود، ولذلك فإنَّ اتفاقية النفط بين الإنكليز والفرنسيين وُقِّعت برعاية عصبة الأمم في سان ريمو ما بين 19- 26 نيسان 1920م، تضمَّنت منح منطقة الموصل للإنكليز خلافاً لمصلحة الكلدان بشقيهم ورغماً عنهم. وفي 12 تموز من نفس العام أعلن المندوب السامي الفرنسي الأعلى الجنرال غورو، بأنَّ مؤتمر سان ريمو، منح فرنسا الإنتداب على البلاد الواقعة غربيَّ نهر دجلة الحاضنة لمُدُن جزيرة بن عمر وماردين والرُّها والمناطق الواقعة الى الجنوب منها والتي ضمنها تقع الأراضي العائدة تاريخياً للكلدان بشقيهم. فإذا رغب سكان هذه المناطق في العودة الى الأماكن التي كانوا يستوطنونها سابقاً، فإنَّ فرنسا ستُشجِّع عودتهم ليسكنوها وتتعهَّد بإحلال السلام في ربوعها، وهي على استعدادٍ مُسبق لمنح الإستقلال للكلدان بشقيهم في المناطق المُقيمين فيها والخاضعة للإنتداب الفرنسي، كما تتعهَّد بحماية الأقليات المقيمة فيها والخاضعة كذلك للإنتداب الفرنسي.

 

 

بعد انهاء الحليفَين الإنكليز والفرنسيين الإتفاق بينهما، أصبحت الطريق مُمَهَّدة لوضع شروط السلام مع تركيا في سيفر، بعد سنتَين من تذليل النزاع معها، بيدَ أنَّ الأوضاع السياسية تطوَّرَت والعقليات تغيَّرت خلال هذه الفترة، فالمعاهدة الموقعة في العاشر من آب لعام 1920م، غدت غير مؤاتية لطموحات الكلدان بشقيهم، والقرارات كُلُّها اتُّخِذَت من دون الرجوع إليهم، ولم يأت ضمنها أيُّ ذِكر لدولة يتمتعون من خلالها بالإستقلال الذاتي، ومع كُلِّ الإجراءات التي أدرجت في المعاهدة حُرِم الكلدان بشقيهم من فوائدها، وتُركوا تحت رحمة الأتراك والأكراد الذين قاموا بنحرهم وتهجيرهم قبل ذلك بخمسة أعوام.

إنَّ كُلَّ تأخر زمني وعلى الأغلب يكون بغير صالح صاحبه، فتلكّؤ الحليفَين المنتصرَين على السلطنة العثمانية في إبرام مُعاهدة الصلح مع سُلطانها المدحور، خلق فرصة مؤاتية لظهور حركةٍ متطرفة قلبت الوضعَ السياسي رأساً على عَقِبٍ في منطقة مسرح أحداث الحرب العالمية الأولى، فقد هَبَّ الجيش التُركي لإنتشال بلاده من الفوضى شاعراً بالعار من النزاع الداخلي المُستحكم، حيث اعتبره سبباً في تغلغل اليونانيين الى آسيا الصغرى، فثار قادتُه بزعامة مصطفى كمال أتاتورك على السلطة العثمانية الهرمة الواهنة، وأقاموا دولة تركية حديثة، واضعين نهاية للإمبراطورية العثمانية. رأى القادة الجُدُد بأن معاهدة سيفر قد حشرت تركيا في زاوية، فنقضوها وتعهَّدوا باستعادة جميع أراضي الأناضول المُنتزعة الى الدولة التركية الحديثة. أوقفوا الزحف العسكري اليوناني وأحرقوا ازمير وأخرجوا الأرمن العائدين إليها، وأعلنوا بعدم القبول باستقطاع جزءٍ مهما كان صغيراً لصالح كائن مَن كان. لم يقف الحليفان الفرنسي والإنكليزي ضِدَّ قيام جمهوريةٍ تركية، بل ساندا قيامَها الى حدِّ قيامهما ببيع الأسلحة لها.

 

نقض معاهدة سيفر

 

ونتيجة عدم اعتراف القابضين على زمام الحكم في تركيا بمعاهدة سيفر، اضطرَّ الحليفان باستبدالها بمعاهدة جديدة  وُقِّعَت في لوزان في تموز عام 1923م، اعترفت المعاهدة بقيام دولة تركية حديثة وهي بذاتها خَطَّطت حدودَها في المؤتمر التحضيري. أُدرجَت قضية الكلدان بشقيهم النساطرة والكاثوليك على جدول الأعمال، ولكنَّ أثناء احتدام الجدال لم يكن أيُّ ممثل لهذا الشعب حاضراً. فأعلن وزير الخارجية البريطاني اللورد كورزو أمام حاضري المؤتمر: <ستعمل الحكومة البريطانية كُلَّ ما بوسعِها لمساعدة الكلدان بشقيهم المُقيمين في المناطق الواقعة تحت نفوذها> وبالفعل قام ببادرة نحوهم في جلسة التاسع من شباط 1924م مطالباً ممثل تركيا اسماعيل باشا بأن تحترم حكومته لغتهم ومدارسهم ودينهم، ولكنَّ الممثل التركي رفض منح الإستقلال للكلدان بشقيهم ولا للأرمن، مدَّعياً بأنَّ ذلك يطعن بالصميم وحدة تركيا، وعلى المدى البعيد يؤدي الى تقطيع اوصال البلاد. واستطرد بالقول: بأن المسيحيين المُقيمين في هذه المنطقة ويعني بها ولاية الموصل هم في غالبيتهم كلدان كاثوليك وكلدان نساطرة المُطلق عليهم اسم”الآثوريين” كان المفروض أن تُعطى ولاية الموصل لتركيا، ولكنَّ الإنكليز غيَّروا رأيهم ليتمكَّنوا من السيطرة على انتاج النفط من آبار كركوك ولذلك ضموها الى العراق. لقد اشترك الكلدان النساطرة”الآثوريون” مع الروس لدى اجتياح جحافلهم “وان” في أعمال عنف بشعة ضِدَّ مُواطنيهم المُسلمين الذين تعايشوا معهم قروناً طويلة دون أن يُزعجزهم أحد، ومن تلقاء أنفسهم فضلوا الإلتحاق بالروس عند تقهقرهم. <إن الفقرة الأخيرةغير صائبة، إذ لم يُعامَل الكلدان النساطرة”الآثوريون” ولا أيٌّ من المسيحيين الآخرين بالحسنى من قبل مسلمي الدولة العثمانية على مَرِّ القرون.>.

 

 

على أية حال، فقد استطاع المتطرفون القوميون الأتراك المستولون على حكم البلاد عنوةً ابتزاز الحلفاء بدليل قبولهم لبرنامجهم بالكامل تقريباً، حيث جرى تعديل الحدود وتوسيعها في شرق البلاد، وغدت بعض مدن الجنوب كالرُّها وماردين ونصيبين تابعة لتركيا بدلاً من سوريا، وكُلّ التدابير المتعلقة بشأن حماية الكلدان بشقيهم اختفت من المُعاهدة، واعتُبِروا ومعهم الأكراد والأرمَن أقليات تحت وصاية وبحاجةٍ الى حماية. وقد تضمَّنت معاهدة لوزان البنود 36- 45 لحماية الأقليات المُقيمة في الأراضي التركية وهي: < تتعهَّد السلطات التركية بمنح جميع سكان تركيا حماية شاملة كاملة لحياتهم وحريتهم، وأن لا تُميِّز بين القومية واللغة والعِرق أو الدين لجميع سكّان البلاد، وبمنح الحقوق التامة في ممارسة الحرية العامة والخاصة، ممارسة شعائر ايمانهم وديانتهم ومُعتَقدِهم، ويحق للأقليات غير المسلمة أن تنعم كلياً بحرية التنقل والهجرة، وأن يكون لها حقوق ثقافية وسياسية، وبنوع خاص شغل الوظائف العامة والتقلُّب فيها… وممارسة المِهَن الحرة… وكذلك الأمر بالنسبة الى حرية اللغة بحيث لا يصدر أيُّ منع أو تحديد ضِدَّ أيِّ مُواطن تركي في استعمال أية لغة يشاء حتى أمام المحاكم، ويُعطى التعليم بلغة الأم لأطفال الأقليات في مراحل التعليم الإبتدائي، وأخيراً في مجال الوضع الأسري، تُحترَم عادات وتقاليد جميع الأقليات >. لكنَّ شيئاً من هذه البنود لم يدخل طور التنفيذ مطلقاً، بالأخص حرية النطق بلغةٍ اخرى غير اللغة التركية.

 

مؤتمر اسطنبول

في مؤتمر اسطنبول الذي عُقِد في حزيران عام 1924م، كان المندوب السامي البريطاني على العراق بيرسي كوكس وفيّاً لمبدأ منح وطن قومي للكلدان النساطرة”الآثوريين” في هيكاري، والذي بالأصل يكون ضمن دولة العراق، ومما قاله بهذا الخصوص: < إننا نشعر أنَّه من الواجب علينا أن نضمن للكلدان النساطرة”الآثوريين” استعادة الأمتيازات التي كانت لهم في الواقع، ومن حيث الحقوق قبل الحرب، لا فرق مَن يكون الحاكم، يجب منح الكلدان النساطرة ” الآثوريين” نوعاً من الحكم الذاتي المحلي، والإعتراف لهم بحقِّهم باختيار ممثلهم الخاص والإكتفاء بأخذ الجزية منهم عن طريق البطريرك >. ولكنَّ عصبة الأمم في 16 كانون الأول 1925م إتخذتْ قراراً بضم ولاية الموصل الى العراق وليس الى سوريا رغم احتجاجات مَن يُدعون بالآثوريين، فيما عادت جبال هيكاري الى تركيا وليس الى العراق، خلافاً لِما كان مقرَّراً في اتفاقية سايكس- بيكو. وقد قال عالم الإجتماع جوزيف يعقوب مُلخصاً ما جرى: < بأنَّ شعبه تعرَّض للخيانة والظلم والإهمال، وضُحيَ به عل مذبح المصالح السياسية والإقتصادية الإنكليزية، ورغبةً منهم في التوفيق بين رضا حكام تركيا الجُدُد وبين الدول العربية، وهم مستمِرّون في استغلال حقول النفط في شمالي العراق>.

 

 

وإضافة الى ما قاله جوزيف يعقوب يُعقب نفسُه قائلاً: < بالنسبة الى تركيا الكمالية، لم يبقَ هناك شيءٌ إسمُه القضية الآثورية، فإنَّ هيكاري قد أُفرغَت تماماً من سكانها الآثوريين، مِئة ألفٍ منهم نزحوا الى القوقاس أو الى اورميا ببلاد فارس. والإنكليز احتلّوا بلاد ما بين النهرَين، وحكام تركيا المتطرفون الجُدُد لم يدعوا المجال أمام الآثوريين للعودة الى بلاد جدودهم، لم يُسامحوهم لأنهم قاتلوهم في الحرب > وبهذا الصدد صرَّح القنصل العام التركي في بغداد علناً في 25/12/1928م: < إنَّ قانون العفو العام لا يشمل الآثوريين، ولن يُسمَح لهم مُطلقاً للعودة الى تركيا، وكل عنصر آثوري يُحاول اختراق الحدود التركية يُعاقَب>. وهكذا تبخَّر كُل أمل لجزءٍ من مسيحيي الكنيسة الكلدانية النسطورية الإنعزاليين، أن يروا يوماً البقعة التي كانت ملاذاً لهم طيلة قرون من الزمن.

 

الكنيسة النسطورية

 

لقد أتينا على ذِكر معظم المصائب والنكبات التي مَرَّت بها الأمة الكلدانية بشقي أبناء كنيستها الكاثوليك والنساطرة، ورغم عنفها ومرارتها، لم تدفع بقادة فرعيها الكنسيين للتقارب والإتحاد تحت راية رئاسةٍ واحدة تكفل لهم زخما بشرياً قوياً وعُمقاً روحياً مُتجدِّداً. فالفرع النسطوري الإنعزالي صرف قدرات أبنائه منذ مُنتصف القرن السادس عشر في صراعٍ عبثي مع عِدة جهات كثيراً ما انقلب الى تصادم دموي لم يجلب له غير الذل والهوان. والنفي الذي تعرَّضَ له بطريرك كنيسته النسطورية جعله يستطيب الإقامة في العالم الجديد، ولم يعبأ بإقصائه عن معرفة أوضاع الشرق الأوسط، وبسبب خلاف ليتورجي واهي نجم عنه انشقاق آخر في منتصف ستينات القرن العشرين، فانقسمت كنيستُه الى قسمَن يدين احدهما بالطاعة للبطريرك المُقيم في أميركا والثاني يدين بالولاء للبطريرك الجالس في العراق.

 

 

ومنذ أن نُصِّب الفتى اليافع ذي الستة عشر عاماً بطريركاً للكنيسة النسطورية عام 1903م بجهود البعثة التبشيرية الأنكليكانية الإنكليزية، كان توجُّهُه سياسياً أكثر منه روحياً، ففي عام 1915م، اتَّخذ قراراً بإعلان الحرب على تركيا، والإنسحاب من مدينة اورميا المحمية من قبل القوات الروسية، ونتيجة مؤامرةٍ دبَّرها ضِدَّه أطراف ثلاثة الإيرانيون والإنكليز والكُرد، استُدرج للإجتماع بعدوِّه اللدود اسماعيل أغا الشكاكي الكُردي، الهدف المُعلن منه إزالة العداء المزمن بين الزعيمَين واستبداله بالصلح، ولكنَّ المبطَّن كان الغدر الذي اقترفه الزعيم الكردي بحق البطريرك شمعون التاسع عشر بنيامين وأفراد وفده الذي جرى في عام 1918م أدّى الى استشهاده!

 

 

بعد اغتيال مارشمعون بنيامين أقيم خلفاً له شقيقُه بولس باسم “مارشمعون العشرون بولس” وهو في الرابعة والعشرين مِن عُمره، نزح الى همدان مُضطرّاً، وتعرَّضَ لشبه إقامةٍ جبرية في مُعسكر بعقوبة في العراق، ومن هناك أرسل موفدَه الى مؤتمر باريس مُحمِّلاً إياه مُداخلته التي تضمَّنت المطالبة بفرز مقاطعةٍ حُرة للكلدان بشقيهم النساطرة “الآثوريين” والكاثوليك، ولكنَّ الإنكليز قرَّروا ضمَّ المُقاطعة التي أرادها وطناً بديلاً لشعبه في العراق، وأخرجوا البطريرك شمعون بولس من الموصل، فانتابه حزن قاتل أودى به الى الموت عام 1920م.

 

 

أختير خلفاً له إبن شقيقِه داود الصبيُّ ايشاي باسم “ايشاي شمعون الحادي والعشرون” وهو في عمر لا يتجاوز الإثني عشر عاماً، ولصغر سنِّه أقيم وصياً عليه مطران الهند مارطيماثئوس للقضايا الروحية والكنسية، أما القضايا المدنية والسياسية، فعُهِدَ أمر تدبيرها الى والده داود وعمَّتِه سُرمة التي كانت لها اليد الطولى بهذا الصدد. دَبَّر له مار طيمثاثئوس مقعداً دراسياً في بريطانيا، فأرسل الى لندن في 15 نيسان عام 1925م حيث أمضى سنتين في الدراسة في كانتيربري وكامبريج. بعد عودته الى العراق عام 1927م، اعترفت به الحكومة العراقية زعيماً روحياً ومدنياً لطائفته الكلدانية النسطورية المعروفة بـ”الآثورية” وبسبب تعاطفِه مع المذهب الأنكليكاني خلق استياءً وعدم القبول لدى بطانته، كما أوجد توتُّراً في أوساط الكنيسة النسطورية.

 

وما إن طالب شمعون الحادي والعشرون بالإستقلال لشعبه حتى قامت الحكومة العراقية بإسقاط الجنسية العراقية عنه عام 1933م وسيق عنوةً منفياً الى قبرص، وعقبَ سبع سنين غادرها عام 1940م الى الولايات المتحدة الأمريكية واستقرَّ في شيكاغو في ولاية الينويس، وبعد مرور عقدين من الزمن انتقل الى سان فرنسيسكو عام 1960م المقرالأخير لإقامته وفيها تمَّ اغتياله عام 1975م من قبل أحد اتباع كنيسه المُعادين لتوجُّهاته.

 

 

في شهر تشرين الثاني لعام 1961م حضرالبطريرك النسطوري ايشاي شمعون الحادي والعشرون الى مجمع الكنائس المسكوني المنعقد في نيودلهي، فانتهزها فرصة مؤاتية لزيارة أتباعه في جنوبيِّ الهند، ثمَّ توجَّهَ الى ايران وحظيَ باستقبال رسمي من قبل الشاه، وأمضى زمناً غير قصير بين أتباعه من الكلدان النساطرة “الآثوريين” المُقيمين في ايران، ثمَّ غادر ايران قاصداً بيروت ومنها توجَّه الى دمشق، وبالرغم من تلقّيه الإحتفاء من قبل الرئيس السوري حافظ الأسد، إلا أنَّ الرئيس لم يسمح له بزيارة أتباعه النساطرة المُقيمين في منطقة الخابور المُحاذية للحدود العراقية. كما رفض تزويده بسمة دخول لزيارة العراق، وكانت حجة للحكومة العراقية في منعه، بأنَّه قد شارك الأكراد في التآمرعليها أثناء وجوده بايران.

في عام 1870م وُجِّهت دعوة للكنيسة النسطورية لحضور ممثلين عنها الى المجمع الفاتيكاني الأول، لم يُلبِّ الدعوة بطريركُها آنذاك شمعون روبين الثامن عشر تجنُّباً لعدم جرح شعور الإنكليز الأنكليكان، إذ كان بحاجة ماسة إليهم. أما لدى دعوة البابا يوحنا الثالث والعشرين جميع الكنائس غير الكاثوليكية لحضور المجمع الفاتيكاني الثاني كمُراقبين، استجاب البطريرك ايشاي شمعون الحادي والعشرون للدعوة بترحابٍ، حيث أوفد الى ايطاليا مُواطنَين امريكيَين من أتباعه أحدهما كاهن والآخر استاذ علماني حضرا الجلسة الثالثة كمُراقبين عام 1964م. تجلَّت اهمية هذا الحَدَث لكونها غير مسبوقة بأن يحضر مسيحيون نساطرة مجمعاً مسكونياً منذ مجمع افسس الأول عام 431م الذي فيه تمَّ حرم نسطور وتعاليمه وكُل مَن يتبنّاها. لقد استُقبل موفدا البطريرك النسطوري ايشاي الحادي والعشرين بحفاوة كبيرة في روما، ولا سيما من قبل الأساقفة الكلدان المُشاركين في المجمع، وقد أشار الى ذلك الموفدان في تقريرهما الذي قدَّماه بلغة السورث وورد فيه إطراء بالحفاوة التي تلقياها.

بعد نكبة 1933 المشؤومة بقي اسم الكنيسة واحدا ولكن في الحقيقة كانت هناك على أرض الواقع كنيستان مستقلتان من ناحية الولاء، فالمُوالون لمار شمعون بشخص وكيله في العراق المطران ماريوسف خنانيشو، استمروا على ولائهم والإئتمار بأوامره، أما المناهضون لمارشمعون والرافضون للهجرة فكانوا يُعارضون طروحات البطريرك ويدينون بالولاء لمار ياوآلاها ولمار سركيس، ولدى وفاة مار ياوآلاها استمرَّ الولاء لمار سركيس.

 


وكانت هناك شبه قطيعة بين الكنيسة النسطورية وفرعها في الهند في عهد المطران مار طيماثاوس حيث دَبَّ الخلاف بين مطرانية فرع الهند والسدة البطريركية ولم تلبث أن تطوَّرت الى الأسوأ في عهد المطران مار توما درمو خلف سلفه مارطيمثاوس بسبب رغبة مارشمعون الاستحواذ على واردات الكنيسة في الهند، فلم يرضخ المطران مار توما درمو لهذا الطلب نظراً لحاجة ابرشيته الى بناء الكنائس والمدارس والمطبعة التي كانت تجهز الكتب المقدسة لكل فروع الكنيسة في العالم …. لقد كان وضع الكنيسة النسطورية بجناحيها المؤيد والمعارض لمارشمعون في حالة يرثى لها، حيث كانت الكنائس تفتقر لابسط الامور من ناحية البناء والكهنة الشبه اميين والشباب والشابات الذين لا يعرفون ارتياد الكنيسة إلا في ايام المناسبات، حيث يذهبون الى الكنائس ليسمعوا ما يردده القسيس من عبارات طقسية لا يفهمون منها شيئا وينتظرون بفارغ الصبر انتهاء هذه الطقوس حتى يتناولون القربان المقدس ومعظمهم لا يعرفون معناه.

 

 

في الحقيقة كانت الكنائس النسطورية سياسية اكثر من ان تكون دينية، فكل كنيسة بقسيسها كان محسوبا على طرف من اطراف النزاع، وفي بعض المدن كانت هنالك كنيستان واحدة لمؤيدي مار شمعون والاخرى لمناهضيه … استمرت هذه الحالة حتى عام 1964 عندما وصلت رسالة من مارشمعون والتي يامر فيها كل الابرشيات بان يكون الاحتفال بعيد الميلاد المجيد حسب التقويم الغربي. فكانت هذه الرسالة الرعوية الصادرة في 28/3/ 1964م بمثابة قنبلةٍ انفجرت فاهتز لهولها أركان الكنيسة النسطورية، أسفرت عن حدوث انشقاق بين أتباعها في العراق والهند. أصدر البطريرك رسالته هذه بناءً الى ضغطٍ وإلحاح من عددٍ كبير من أتباع مار شمعون الذين أعربوا عن رغبتهم في الإحتفال بالأعياد الكبرى على غِرار الكاثوليك والبروتستانت.

عارض قرار البطريرك المُناوئون له بزعامة كاهن واحد بدعمٍ من عشيرة الزعيم ملك خوشابا الخصم الأبرز للبطريرك ايشاي شمعون، وحظي موقف المعارضة بتأييد حكومة عبدالسلام عارف وأخيه عبد الرحمن، كما أيَّدها رئيس أساقفة تريجور الهندية مار توما درمو الذي كان غير موافق على اسلوب إناطة المنصب البطريركي بالصبي ايشاي بحكم قانون الوراثة. أعلن المطران توما درمو انشقاقه وبادر الى رسم ثلاثة أساقفة الواحد لبغداد والثاني للهند والثالث للولايات المتحدة الأمريكية، وأعقب ذلك رسم اسقفين واحدهما للموصل والآخر لكركوك. وفي عام 1968م عقد مار توما درمو مجمعاً اسقفياً برئاسته وأصدر المجمع قراراً بتنحية ايشاي شمعون عن الكرسي البطريركي وانتخاب بطريرك بديل عنه، فاختير مار توما درمو، ولكن الأجلَ وافاه بعد فترةٍ قصيرة حيث توفي في ايلول عام 1969م، وخلفه مار أدّي الثاني المُعيَّن رئيساً لأساقفة بغداد.

اعترف رئيس جمهورية العراق احمد حسن البكر بالكنيسة الجديدة البالغ عدد أتباعها بحدود الخمسين ألف مؤمن بما فيهم هنود من ملابار وكيرالا، وجرَّد أتباع مار شمعون الواحد والعشرين من كنائسهم وأهداها لأتباع الكنيسة الجديدة بموجب مرسوم رئاسي مُبرِّراً هذا الإجراء تحت ذريعة: < إنَّ حركة مار شمعون الواحد والعشرين وأتباعه، حركة سياسية، تُشكِّل خطراً على سلامة الدولة والمُواطنين، ولهذه الحركة علاقة بالأجنبي >.

 

 

ولكنَّ المُفاجأة غير المُتوقعة كانت تغيُّر الوضع رأساً على عقبٍ، عندما أصدر البطريرك مارشمعون الواحد والعشرون بعد مرور سنة وبالتحديد في 17/1/1970م رسالة بل وثيقة يُعلن فيها البطريرك خضوعه التام للسلطات الحاكمة في بغداد، مِمّا حدا بالحكومة الى دعوته لزيارة العراق، فنزل ضيفاً مكرَّماً عليها. وفي غضون إقامته في بغداد القى خطاباً شَدَّدَ فيه على الطاعة للسلطات العراقية، فقامت الحكومة بدورها بإعادة الجنسية العراقية إليه، كما أعادت لأتباعه الكنائس التي كانت قد أهدتها لخصومه، وتمَّ سحب الإعتراف بمار أدّي الثاني بمرسوم جمهوري صدر بتاريخ 21/5/1970م والإعتراف بمار شمعون21 زعيماً أعلى للكلدان النساطرة “الآثوريين” بمرسوم آخر.

 

 

وفي عام 1973م اجتاحت الكنيسة النسطورية عاصفة قوية هَدَّت كيانها، إذ في هذه السنة التي وصل العُمر بمارشمعون الى السابعة والستين سنة، أعلن زواجَه واستقالته معاً! تُرى كيف يُفسَّر هذا القرار الذي اتخذه البطريرك بهذا العُمر المتقدِّم ودون مُراعاةٍ لمركزه الديني العالي؟ وهنا علينا الرجوع الى خلفيته والتعمُّق فيها، فإن هذا البطريرك أرسل للدراسة في بريطانيا وهو بعمرٍ يُناهز الثالث عشر عاماً، درس في كانتيربري وكامبريج في مُحيطٍ انكليزي سكسوني، فتشبَّع بالثقافة المذهبية الأنكليكانية لكنيسة كانتيربري التي تُتيح لأعضاء إيكليروسها بالزواج بما فيهم رئيسها الأعلى. والكنائس المشيخية التي تأسَّست بعد الإصلاح اللوثري المشؤوم والذي كان في الواقع “إفساداً وليس إصلاحاً” المنتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يُقيم، كانت تسير على نفس المنوال تقليدياً. وقد عَنَّ على فكره بأنَّ مجمع لاباط الأسقفي برئاسة برصوما مطران نصيبين المنعقد في نيسان عام484م ونكاية بجاثاليق كنيسة المشرق بابوي، اتخذ قراراً بالسماح للرهبان والكهنة والأساقفة بالزواج في حالة عدم قدرتهم على ضبط أنفسهم، وكان برصوما أول مَن تزوج براهبة. ولئن أيد هذا القرار مجمع ساليق الخامس عام 486م إلا أنَّ الجاثاليق “مارآبا الكبير 540 551م” فرض نذر البتولية مُجدداً على الأساقفة. لقد انتابت الطائفة النسطورية صدمة كبرى بزواج البطريرك، مُعتبرة إياه عملاً مُشيناً واستنكرته بشدة، كما شجبه والدُه داود وعمَّته سُرمة اللذان قاما بتدبير شؤون الكنيسة أثناء مرحلة دراسته في لندن ونشرا هذا الشجب في رسالة نُشرت علناً.

بعد هذا الحدث التأم شمل الأساقفة النساطرة في لبنان وعقدوا مجمعاً في دير يسوع الملك، واتخذ المُجتمعون قراراً بتنحية البطريرك عن منصبه وتجريده من درجته الدينية وإحالته الى حالة العِلمانية. وحدَّدوا موعداً لعقد مجمع آخر بعد 6 أشهر لإنتخاب بطريرك جديد. تملَّك البطريرك مارشمعون غضبٌ شديد من جرَّاء قرار الأساقفة الذي اتَّخذوه ضِدَّه، وذكَّرهم بأنَّ البطريرك لا يُحاكم إلا أمام مذبح المسيح (مُشيراً الى القرار الذي اتَّخذه مجمع ساليق الرابع المعروف بمجمع داديشوع المنعقد عام424م) واعتمادا على ذلك القرار تراجع مار ايشاي شمعون عن استقالته من الكرسي البطريركي، ولكي يتجنَّب الأساقفة الذين اتخذوا قرار عزله وحرمِه حصولَ انشقاقٍ آخر، أجروا مباحثاتٍ فيما بينهم، فلم يجدوا سبيلاً سوى التراجع وطلب الإعتذار من البطريرك فسامحهم، وخصَّصوا لعائلته راتباً للعيش بكرامة. في عام 1975م تنكَّر مار ايشاي شمعون رسمياً لكُل علاقة تربط كنيسته بالنسطورية. في السادس من تشرين الثاني 1975م تعرَّضَ مار شمعون21 للإغتيال من قبل أحد أقاربه البعيدين بالمصاهرة هو داود ياقو مالك اسماعيل، ولا يُستَبعَد أن دافع مُنفِّذ الإغتيال كان الإنتقام لشرف العائلة، لإعتقاده بأن البطريرك لوَّث سمعتها بزواجه الذي لم يرضَ عنه  الكثيرون من أتباع كنيسته، ولعدم وجود إبن أخ للبطريرك المغدور، فلم يكن هناك أيُّ أحد مِن أتباعه قد فكَّر في توريث منصبه لإبنه وهو طفل صغير. وقد وضع هذا الإغتيال نهاية لرئاسةٍ سُلالية وراثية احتلَّت السدة البطريركية للكنيسة النسطورية لِما يقرب من خمسة قرون ونصف القرن.

 

 

بعد اغتيال شمعون ايشاي الواحد والعشرين، قرَّر أساقفة الكنيسة النسطورية عقد مجمع في لندن عند عَرّافيهم الأنكليكان منذ أن وطئوا ديارهم في منطقة هيكاري الجبلية في تركيا. فانعقد في 14 / 11/ 1976م مجمع لإنتخاب بطريرك جديد بحضور أساقفةٍ من الهند وايران ولبنان وسوريا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية، وتخلَّف عن الحضور أربعة من أساقفة العراق لعدم منحهم تأشيرة الخروج من البلاد. وقد لوحظ اشتراك اسقفين ايطاليين رُسما من قبل البطريرك شمعون ايشاي 21، شُكِّكَ في أمر رسامتهما بالمُقابل، بخلاف ما كان قد خطط له بعض الأساقفة بهدف توحيد شقّي الكنيسة النسطورية، فلم يُدعَ اساقفة الكنيسة الشرقية القديمة المدعوَّة بالمنشقة للإشتراك في المجمع . يُعتبر هذا المجمع أول مجمع انتخابي منذ أكثر من خمسة قرون أسفر عن انتخاب بطريرك بالتصويت، ففاز مطران طهران الإيراني الجنسية بالمنصب البطريركي واتخذ اسم دنخا الرابع خننيا. وقد عُقِد مجمع لاحق عام 1978م وغاب أيضاً عن حضوره أساقفة العراق. وفي عام 1985م تقدَّم البطريرك الجديد بطلبٍ الى مجمع كنائس الشرق الأوسط لقبول كنيسته عضواً فيه. قام مار دنخا الرابع بعد وضع الحرب العراقية الإيرانية أوزارها، بنقل كُرسيِّه الى بغداد، ولكنَّ إقامته لم تَطل فيها لأسباب غير معروفة، فانتقل للإقامة بشيكاغو في ولاية إيلينوي الأمريكية، ليكون حُرّاً في تدبير شؤون كنيسته كما قيل.

 

 

 نبذة قصيرة عن حياة ماردِنخا الرابع خننيا

 

ولد البطريرك دنخا الرابع خننيا في 15 أيلول عام 1935م في قرية “دربندوكيه”الواقعة بمنطقة حرير قرب اربيل في شمال العراق، ينتمي عِرقياً الى عائلة دِنخا اسقف الكنيسة النسطورية في اورميا الذي استشهد عام 1915م وهي عائلة نسطورية متدينة، أنجبت 17 اسقفاً للكنيسة النسطورية.

 

في عام 1957م وفي ذكرى انتقال العذراء مريم، رُسم أسقفا لأبرشية طهران في ايران، ليجلس على كُرسيِّها الشاغر لمدة 43 سنة، وهناك شَيَّد كنيسة على اسم مار كيوركيس الشهيد، ثم افتتح مدرسة دينية خاصة، بهدف تثقيف أبناء الرعية لتدب الحياة الروحية الغائبة عنهم زمناً طويلاً.


وعلى إثر اغتيال البطريرك شمعون الواحد والعشرين في السادس من تشرين الثاني 1975 في سان خوسيه، كاليفورنيا، وإذ لم يكن له إبن اخ أو إبن عمٍّ، اجتمع أساقفة الكنيسة النسطورية في لندن تحت رعاية كنيسة كانتيربري الأنكليكانية، وانتخبوا  دنخا مطران إيران ليكون جاثليقا وبطريركا للكنيسة، وتمت مراسيم التنصيب في السابع عشر من تشرين الأول عام 1976، ليصبح بذلك البطريرك الثاني والعشرين، وأول بطريرك منتخب بعد مرور أكثر من خمسة قرون على قانون توريث المنصب البطريركي من أبناء العائلة الواحدة المعروفة بـ(آل أبونا).

 

اتخذ دنخا من ولاية إلينوي الأمريكية للإقامة فيها فأنشأ له مقراً بطريركياً في مدينة شيكاغو عاصمتها بسبب احتوائها لأكبر جالية نسطورية، وكان من المفترض أن يكون المقرُّ مؤقتا. ولكن بالنظر لإستمرار الصراع الايراني العراقي، وعدم وضوح السياسات الداخلية في العراق، إضافة الى حرب الخليج والعقوبات التي فُرضت على العراق. أدَّت هذه الاحداث المتسارعة الى زيادة هجرة النساطرة، بحيث ارتفع عددُهم في الولايات المتحدة الاميريكية من ثلاثة آلاف الى خمسةٍ وثلاثين ألفاً عام 2008م حسب التقديرات، فيما تشير تقارير أخرى الى هروب عددٍ لا يتجاوز العشرين ألفاً بين عامي ألفين وثلاثة وألفين وتسعة. أمّا خلال السنوات الأربع الاخيرة، ونتيجة الأحداث في سوريا والعراق، وبخاصة ما تعرّضت له قرى الخابور في الشمال السوري فإنّ نسبة النساطرة المهاجرين الى الولايات المتحدة الاميريكية والدول الاوروبية واستراليا خفَّضت من وجود بقيتهم في هذين البلدين.

 

بالرغم من قيام البطريرك النسطوري في عام 2005م بإجراء محادثات مع الرئيس الكردستاني مسعود البرزاني حول عودة المقرّ البطريركي الى شمال العراق وبناء مقرّ جديد في عنكاوا، إلا أن تلك المُحادثات لم تُسفر عن واقع ملموس على الأرض وقد قيل بصدد ذلك بأن البطريرك عَدِل عن الفكرة مُفضِّلاً أن يكون مقرُّه في الخارج ليكون حراً في تدبير شؤون كنيسته.

 

ومن بين مهام البطريرك دِنخا الثانوية لذر الرماد في العيون تحرّك نحو توثيق العلاقات مع مختلف الكنائس، ولا سيما مع الكنيستين: كنيسة روما الكاثوليكية الأم والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، فقام بزيارة الفاتيكان عام الف وتسعمائة وأربعة وتسعين  والتقى بالبابا يوحنا بولس الثاني،  ووقع الطرفان البيان الكريستولوجي المشترك الذي شكل حجرًا أساسيًّا في المسيرة نحو الشركة الكاملة، ولكنه بقي حبراً على ورق لعدم تطبيقه من قبل الكنيسة النسطورية والسبب لم يُعلن …

في عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين وقّع البطريركان مارروفائيل الأول بيداويذ بطريرك بابل على الكلدان ومار دنخا الرابع البطريرك النسطوري اتفاقية تعاون نصّت على الشركة الافخارستية بين الكنيستين.

 

وفي خطوة إضافيّة في مسيرة القرب والشركة الروحية بين الكنيستين الكاثوليكية والنسطورية، زار دنخا الرابع الفاتيكان في تشرين الاول من العام المنصرم والتقى بالبابا فرنسيس، ولم تُعرف النتيجة؟

ورغم أنّ ماردِنخا عاش لعقود أربعة في الولايات المتحدة الاميريكية إلا أنّه لم يتوانَ يوما عن الدفاع عن حقوق الكلدان النساطرة المنقلبين اعتباطاً الى “الآشوريين”في أواخر القرن التاسع عشر بهمة وجهود بعثة التبشير الأنكليكانية الإنكليزية التي حرَّضتهم لتبني التسمية الآثورية في باديء الأمر بدلاً عن تسميتهم الأصيلة”الكلدان النساطرة”وبمرورالوقت وقبل نهاية العقود الأخيرة من القرن العشرين استبدلوا الآثورية بالآشورية، وكان المرحوم دِنخا الرابع أشدَّ المُغرمين بها الى حدِّ التزمُّت رغم زيفها، ويضعها في المقدمة عن مسيحيته! حيث لم يدع فرصة أو مناسبة ليتغنَّى بها ويشمل الكلدان والسريان ضمنها بجسارةٍ لا مثيل لها.

 

وفي السادس والعشرين من آذار 2015م تُوفي البطريرك النسطوري ماردنخا الرابع خننيا، بعد بطريركية طويلة دامت 39 سنة، وتميّز كزعيم عشائري وقائدٍ للجماعات النسطورية الوافدة الى العراق عقب الحرب العالمية الأولى التي خسرت قبلها وخلالها ما قُدِّر بنصف عددِها، فاضطرَّ خادعوها الإنكليز ومُسَبِّبو خسائرها ترحيل بقاياها الى العراق المُنتدب من قبلها، وفي العراق تعرَّضت لمأساة نتيجة للكارثة التي حلَّت بها في بلدة سِمّيل وضواحيها عام 1933م. وفي الثامن من نيسان 2015م تَمَّت مراسيم دفنه من كاتدرائية القديس مار كيوركيس للنساطرة في شيكاغو – إلينوي، ليتقبَّله الله برحمته الواسعة.

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *