الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن/ الجزء السادس

 

تدهور حال الكنيسة بعد رحيل مارآبا الكبير

نظراً لعدم ظهور المقطع الأخير من الجزء الخامس لهذا البحث التاريخي المتسلسل والذي تناول حياة مار آبا الكبير جاثاليق كنيسة المشرق الكلدانية 540-551م، ولم نعلم السبب في ذلك، ولكي تعمَّ الفائدة قرَّاء هذه التسلسلات التاريخية، نُدرج هذا المقطع في مستهل الجزء السادس

 

مارآبا جليس الملك

ويذكر المؤرخ الكلداني (ماري في المجدل ص49 – 50  والتاريخ السعردي ج2 ص 76 – 77) بأن الجاثاليق مارآبا غدا مواظباً على حضور مجلس الملك بإنتظام، وكان أن رأى الملكَ يوماً مَهموماَ وقد بدا الحزنُ على مُحَيّاه وفيما كان غائصاً في تفكير عميق إستأذَنَه مارآبا قائلاً: هَل لي سماحكم بأن أسأَل حَبرَكم (كبير المجوس) تفسيراً لهذه المقولة؟ فرَدَّ الملك بالمُوافقة! فتحَدَّثَ الجاثاليق قائلاً: هنالك أتّون وفي داخلِه حَطَبٌ يشتَعِل ويتحَوَّل الى نار، وفوق هذه النار وُضعَ قِدرٌ مِن الفخار مَملوءة بالماء وهو يَغلي! بماذا يَعتَبُ الماءُ على القِدر؟ وبماذا تَعتَبُ القِدرُ على الحَطَب؟ وبماذا تَعتبُ النارُ على القِدر؟ أصابت الدهشة حَبرَ الملك (كبير المجوس) بينما إستَغرَقَ الملكُ في الضِحكِ، وبعد مرور بضعةِ أيام على طَرح الجاثاليق مارآبا مقولتَه التي إستعصى على كبير المجوس حَبر الملك تفسيرُها، قال الملكُ للجاثاليق مارآبا: ليس بين حاضري مَجلِسِنا أجزَلَ عِلماً مِنكَ، فنطلُبُ مِنكَ تفسيراً للمقولة، فأجاب الجاثاليق: سيعتَبُ الماءُ على القِدر بالقول: أليس الطينُ الذي صُنِعتِ مِنه بي جُبِلَ؟ ولولايَ لَما كان بلإمكان صُنعكِ فما بالُكِ تؤذينَني؟ وتَعتَبُ القِدرُ على الحَطَبِ قائلة: أليس بالماء نَبُتَ شَجَرُكَ ونَمَت أغصانُكَ فبأيِّ ذَنبٍ قُمتَ تُحرقُني؟ وبسببِ ظُلمِكَ إضطرَرتُ لإيذاء الماء الذي بواسطتِه أُعِدَّت جُبلتي! وسيعتَبُ الحَطَبُ على النار ويقول: أنتِ وحدَكِ التي أجرَمتِ بحَقِّ هؤلاء، لأَنَّكِ أنتِ التي تُحَمِّلينَنا وِقرَ إيذاء آبائنا! وكانت غاية الجاثاليق مارآبا أن يُفهِمَ الملك بأن الآباء ليسوا بمَنجىً مِن إعتداء الأبناء. إنشرحَ الملكُ بتفسير مارآبا للمقولة وأثنى على حلاوةِ حديثِه.  يَروي (التاريخ السعردي ج2  ص 78 أيضاً) بأن ما رَفَعَ شأن مارآبا لدى الملك كسرى الأول أنوشِروان أكثر هو قيامُه برسمِ كاهن أرسلَه ملكُ الهون اسقفاً لبِلادِه، فجرَت رسامتُه في كنيسة كوخي الكبرى بناءً الى الوساطةِ التي تقدمَ بها ملكُ الهون لدى الملك الفارسي.

 

في عام 551 م طلبَ الملكُ كِسرى الأول أنوشِروان مِن مارآبا الجاثاليق السفر الى الأهواز لكي يأمُرَ النصاري المُتواجدين في تلك المنطقة بعدم التعاون مع العُصاة الذين كانوا يُثيرون الفوضى والبلبلة ويُمارسون أعمالاً إجرامية، وكان مارآبا قد كَتَبَ إليهم وهَدَّدهم بالحَرم إذا مالوا الى العصيان أو تعاونوا مع العُصاة  ٌقبل أن يطلب مِنه الملك السفر الى هناك، وبالفعل إمتثلَ النصارى لأوامر مارآبا، وفرح الملك بالدور الذي أدّاه الجاثاليق وازدادَت لديه مَنزلتُه، ومنحه كامل الحرية وأمر بتشييد مَنزل له بالقرب مِن كنيسة نَرقوس، وتقول المصادر التالية( ماري في المجدل ص52 ، عمرو ص 41 ، كتاب المجامع ص 96 والتاريخ السعردي ج2 ص 78) ولكنَّ هذه الحرية جاءَت متأخرة لمارآبا، حيث داهمَه المَرضُ كنتيجةٍ طبيعية لِما قاساه مِن نفيٍ وسَجنٍ وأسفار شاقة ومُتعبة أثَّرَت سلباً على قِواه البدنية بحيث لم يقوَ على مُقاومة المرض بالرغم مِمّا بذله أطِبّاءُ الملك الذين أرسلهم لمُعالجِته، فعاجلته المَنيّة في التاسع والعشرين مِن شهر شباط عام 552 م، وجرى تَوديعُه الوداعَ الأخير برحيلِه الى رَبِّه بإحتفال مَهيب شاركَ فيه الإكليروس بكُلِّ مراتبِه والى جانبِهم كبار رجال الدولة الرسميين وجمهور لا يُحصى مِن المؤمنين وحتى الوثنيين، ألقى الكثيرون مَناديلَ وثياباً فوق تابوت جَنازَتِه للتَبَرُّك إذ كان الكُل يَعتبرونه قديساً، حتى أن قسماً مِنهم كَسروا نعشَه وقَطَّعوه قِطعاً وتقاسموها واحتفظوا بها كذخائر، وتَمَّ دَفنُه في دير ساليق، ولكن ما ذكره التاريخ السعردي يُفيد بأن تِلميذَه قَيّورا وبعد فترةٍ قصيرة نقلَ جُثمانَه الى مدينة الحيرة ودَفنَه فيها وشيَّدَ فوق قَبره ديراً، وهكذا انتهى هذا الحبر الجليل والرَجُل العظيم والجاثاليق الكبير!

 

أشادَ المؤرخ الأب لابور بعَظَمةِ الجاثاليق مارآبا الكبير قائلاً: ” بهذا الشكل إنتهت حياة هذا المُعتَرِف الجليل نور الكنيسة الفارسية، الذي ملأَها مِن كنوز التعليم الحق بسيرَتِه الخالية مِن أيَّةِ شائبة. ومآثِرُه ستبقى خالدة، بِهِمَّتِه وغَيرَتِه بَقيَت القوانين الكنسية مُصانة وراسخة ” أسبَغَت عليه الكنيسة الكلدانية صِفاتٍ سَنِيَّة فهو لديها (مارآبا الكبير، المُعتَرِف الجليل، ملفان الملافنة) يقع تذكارُه في الأول مِن آذار بحسب تقويم القديسين، وفي كتاب الحُوذرا المعروف بكتاب صلاة الكهنة في الجمعة السابعة مِن الدنح.  يقول المؤرخان في(المجدل/ماري ص 50 وعمرو ص41 والتاريخ السعردي ج2 ص 67) بأن الفضلَ يعود لمارآبا في إبطال عادة الزواج التي أدخلها برصوما مطرانُ نصيبين الى الكنيسة الكلدانية النسطورية إبنةِ (كنيسة الشرق) ووريثتِها، وحَظَرَ على الجاثاليق والأساقفة الزواجَ قطعياً، وقد كُتِبَ هذا القانون ضِمن رسالتِه السادسة مِن جُملةِ رسائلِه الشهيرة .

وما عدا رسائله الست الشهيرة، شَرَّع مارآبا الكبير أربعين قانوناً، تضَمَّنت الوسائل العملية لتنظيم شؤون الكنيسة، وعَدَّدَت واجبات رُعاتِها، وأرشدت المؤمنين الى السلوك المُلتزم والرصين. وللمزيد عن أعمال مارآبا بالإمكان الإطلاع على (قصة حياتِه التي نشرها الأب بيجان عام 1895 م مع قصة حياة مار يهبالاها الثالث ص 206 – 274 وفي نهايتها رسالة مارآبا ص 274 – 287). وبعد وفاة مار آبا الجاثاليق الكبير، تدهورت أوضاع الكنيسة الكلدانية النسطورية على عهد الجاثايق يوسف المكنيس:

الجاثاليق يوسف المكني 552 – 567 م

لقد ذكرنا فيما تقدَّم بأن المملكة الرومانية كانت تسمح لأبناء الكنيسة الكلدانية النسطورية بالدراسة في معاهدها، فتقول المصادر التاية: (المجامع/ الترجمة ص 352 – 367 ، السمعاني3 / 1 ص 432 – 435 ، عمرو ص 41 – 43 ، ماري ص 53 – 54 ، التاريخ السعردي2 ص 84 – 94 ، الأب لابور ص 192 – 197) بأنَّ يوسف كان أحد هؤلاء حيث أكمل دراسة الطب في بلاد الروم وأن الإحتمال كبير بتَلقّيه الدروس الدينية والكنسية لدى سركيس الرشعيني العالِم اللغوي الكبير. عاد بعد ذلك الى مدينة نصيبين واختار حياة الرهبنة فدخل الى أحد الأَديُرة هناك. وبحُكم تَمَكُّنِه مِن عِلم الطب تَعرَّفَ عليه حاكمُ نصيبين، وصادَف أن الملك الفارسي كِسرى الأول أنوشِروان إعتَلَّت صحتُه، فجاءَه حاكمُ نصيبين وأخذ يُطري أمامَه على مقدرة يوسف الطبية، فطلب مِنه الملك الإتيان به ليُعالجَه، وإذ تَمكَّن يوسف مِن شفاء الملك كان ذلك بالنسبة ليوسف فاتحة خير له، حيث حظيَ بمكانةٍ كبرى لدى الملك .

وتُضيف المصادرالآنفة الذكر بأن الملك كسرى الأول أنوشِروان وبعد وفاة الجاثاليق مارآبا، أوعز الى آباء الكنيسة مِن المطارنة والأساقفة بإنتخاب يوسف جاثاليقاً خلفاً له، فلم يكن بوسع الآباء إلا تنفيذ أمر الملك، فتَمَّت رسامتُه في شهر أيار عام 552م، وكان تقليد الكنيسة يقضي بأن يقوم الجاثاليق الجديد بعد فترة قصيرة مِن رسامته بعقد مَجمَع كنسي  برئاسته للنظر في شؤون الكنيسة، بيدَ أنَّ يوسف شَذَّ عن الحِفاظ على هذا التقليد ولم يستَجِب لطلب الأساقفة لعدم رغبته التقَيُّد بنُظم وقوانين المجمع، حيث يرى فيها الحَدَّ مِن استفراده بإمور الكنيسة وانتقاصاً مِن هَيبَتِه لكونه مُتَّصِفا بالكبرياء والإستبداد بالرأي، وما ساعده على إتِّباعِه هذا السلوك الإستبدادي كان الموقع الذي يحظى به لدى الملك بالإضافة الى الدعم الذي يَلقاه مِن كِبار رجال المملكة  والنصارى المُقرَّبين مِن الملك، حيث كان لأهوائهم صدى كبير لدى يوسف الجاثاليق مِن حيث رسم الأساقفة والكهنة والكثير مِن الامور الكنسية الاخرى.

 

مجمع ساليق الثامن 554 م

ولدى تَدَهور امور الكنيسة الى حَدٍّ لا يُمكن الصبرُ عليه، أجمَعَ المطارنة والأساقفة على مُخاطبة يوسف الجاثاليق بإلحاح شديد، بأن الوضع الكنسي لا يتحَمَّلُ المزيدَ مِن التغاضي ولا بُدَّ مِن إصلاحِه، فما كان مِن يوسف إلا الرضوخ لمطلبهم بعد مُماطلة دامت سنتين، وتَمَّ عقد المَجمَع في المدائن في شهر كانون الثاني لعام 554 م وهو مجمع ساليق الثامِن.

إن أهم ما تَمَيَّز به مَجمَع ساليق الثامن هو تَثبيتُه قانون الإيمان على النحو التالي” بأن للمسيح طبيعتين إلهية وبشرية لا اختلاطَ فيهما ولا بَلبَلة ” كما إتَّخذَ المَجمَعُ ثلاثة وعشرين قراراً تنظيمياً بشأن إصلاح الإكليروس وتحسين سلوك المؤمنين، حيث كان بعضُ الكهنة والأساقفة يتوسطون لدى رجال الدولة مِن أجل ترقيةٍ لمَنصبٍ أعلى أو ليُرفَعَ عنهم الحرمُ المُرشَقين به، وكان ذلك مِن أشَدِّ المُخالفات التي تُعاني مِنها الكنيسة، ولذلك إنصَبَّ اهتمامُ آباءِ المَجمَج لعِلاجِها، وورد ذلك في القرار الأول والثاني عشر مِن قرارات المجمع حيث تَضَمَّنا الحرمَ لكُلِّ مَن تُسَوِّلُ له نفسُه العمَلَ على تَدَخُّل الدولة في امور الكنيسة، وتَضَمَّنت القراراتُ السابع والرابع عشر والخامس عشر والثامن عشر الحَدَّ مِن إستفراد البطريرك يوسف بإصدار القرارات الكنسية دون استشارة الأساقفة ومِن ثمَّ إجبارهم على توقيعِها، وإذا امتنع أحدٌ مِنهم تَعَرَّضَ للرشق بالحرم. ولحُصول يوسف على المنصب الجاثاليقي بطريقةٍ غير قانونية، والمُخالف لكُلِّ الإصلاحات التي إستحدثها مارآبا الكبير في الكنيسة الكلدانية المشرقية، والقوانين الصائبة التي شَرَّعها لتفادي كُلّ اضطرابٍ وبلبلة على صعيد الرئاسة العليا. رأى آباء المجمع التركيز على إيجاد ضوابط  شتّى لمنع تَكَرُّر مثل هذه الطريقة الشاذة وأُدرجَت تلك الضوابط ضِمن قرارات المجمع، وهي اعتماد عملية إنتخاب الجاثاليق بغالبية أصوات المطارنة والأساقفة وتَحديد صلاحياتِه وكيفية تدبيره لشؤون الكنيسة، ومِن القرارات المُهمة الاخرى هو تأييد وتثبيت قانون الزواج الذي أصدره الجاثاليق مارآبا الكبير والكثير مِن الامور الاخرى.

الجاثاليق يزداد تكبُّراً وطغياناً

وبالرغم مِن موافقة الجاثاليق يوسف على قوانين المجمع وتوقيعِه عليها، إلاّ أنه لم يتقيَّد بها حتى بحَدِّها الأدنى بل ازدادَ تَكَبُّراً واستبداداً بحسب ما رواهُ عنه (التاريخ السعردي2 ص 85 – 86 وماري في المجدل ص 53 وعمرو ص 42 وابن العبري2 ص 97) مُستغِلاً قُربَه مِن الملك والدعم الذي كان يلقاه مِن قبل كبار رجال الدولة وفي مُقدِّمَتِهم الحاكم الكبير “رادانفروح”، فمارسَ قساوة بالغة ضِدَّ الأساقفة والكهنة الذين كانوا يُبدون امتعاظاً مِن تَصرُّفاتِه الإستبدادية مُعترضين عليها بجَرأة، فكان يستدرجهم للقدوم إليه ثمَّ يُلقي بهم بما يُشبه السجن ويربط أعناقهم بِرِسَنٍ كما تُربط الحيوانات ويبني لهم معلفاً ويملأَه تبناً وينادي عليهم قائلاً :

“إليكم بالعلف يا أشباه الحيوانات عديمي الفهم والتمييز” ولم يكن يتورَّع مِن حَلقِ شعر رؤوسهم وصفعِهم. وورد في(السمعاني3 ص 79) ومِن بين الأساقفة الذين عاملهم بصرامةٍ متناهية: ميهرنَرسا اسقف زابي، ومَلكا اسقف دارأبجرد،  وشمعون اسقف فيروز شابور الذي قام بسجنِه، وإذ رأى شمعون أن مدة سجنه قد طالت، فَكَّر بإقامة مذبح بسيط  ليُقَدِّسَ عليه أيام الآحاد والأعياد، وفي ذات أحدٍ فاجأَه يوسف في سجنه وهو يُقدِّس ويُشاركُه الرهبان الخدمة، فاستشاط غَضباً وهجم على الاسقف وأشبَعَه ضرباً ورفصاً، وفي غَمرة غَضَبِه وبمُنتهى الوقاحة قَلَبَ المذبح بكُلِّ ما عليه مِن آنية التقديس ووطيءَ عليها بقدميه دون خوفٍ أو خجل، وأبقى شمعون الاسقف في السجن حتى وافاهُ الأَجَل. أما بالنسبة لميهر نَرسا اسقف زابي فقد عَزلَه مِن كُرسِيِّه وطرده وأجلسَ عليه الاسقف حزقيال تلميذ مارآبا المُتمَيِّز بالذكاء الحاد واللطف المُحَبَّب أثارا إعجابَ الملك كسرى الأول أنوشِروان فأدناهُ مِنه ومَنَحَه مكانة كبرى لديه، ولما سأَله يوماً زَميلُه مَلكا اسقف دارأبجَرد أن يستحصلَ له أمراً مِن الملك لوقف الإضطهاد المُمارَس ضِدَّ أفراد رَعيَّتِه، إستجاب الملكُ لطلبه وزَوَّده بكتابٍ لهذه الغاية وأعطاه بدوره لزميله مَلكا، فثَقُلَ الأمرُ على يوسف بسبب عدم إستحصالِه عن طريقه، فأخذ الكتابَ مِن مَلكا عنوةً، وعندما عَلِم أبناءُ أبرشية فارس بالخبر ثاروا على يوسف وأعلنوا العصيان عليه وعدم الإعتراف برئاستِه (التاريخ السعردي ج2 ص 85 /ماري في المجدل ص53).

عزل يوسف الجاثاليق 567م

يتحدَّث(التاريخ السعردي2 ص 86 – 87) بأن يوسف إستَمَرَّ مُتمادياً في إتِّباع نَهجِه الظالم الذي لا يليق بمَنصبه الرفيع، فأجمَعَ الأساقفة على إرسال وَفدٍ إليه مُكَوَّنٍ مِن ثلاثة أفراد لكي يدفعوه للعدول عن المُضيِّ في مُمارسة مَسلكِه الجائر، فلم يَرَ الوفدُ منه إلاّ الإهانة والإستخفاف، ولكنَّ الإساقفة لم يَيأَسوا فكَرَّروا إرسال وفدِ ثاني وثالث، بيدَ أنَّ نصيبَهما لم يكن بأفضل مِن نصيب الوفدِ الأول، أخيراً أرسلوا إليه عدداً مِن المطارنة والأساقفة برئاسة سكرتيره بولس مطران نصيبين وكانت النتيجة أسوأ حيث ازدادَ غروراً وعِناداً، فلم يبقَ أمام آباء الكنيسة مِن المطارنة والأساقفة غير إيجاد مخرج للخلاص مِنه، فقرَّروا عقدَ اجتماع طاريءٍ أجمعوا مِن خلالِه على تجريدِ يوسف مِن الدرجتَين الاسقفية والكهنوتية وعزلِه عن كُرسيِّ الجثلقة، مُستغِلِّين إمتعاظ الملك مِنه بسبب إدائه شهادة كاذبة ضِدَّ رَجُل نصراني مُتَّهِماً إياه بسرقةِ خاتم نفيس باهض الثمن مِن خِزانة الملك، ولدى التحقيق الدقيق ظَهَرَت براءَة الرَجُل الذي أسندت إليه تلك التُهمة! ولكنَّ الملك أنوشِروان وبالرغم مِن البرود الذي شابَ علاقتَه بيوسف لم يُصدِر تأييداً صريحاً بقرارعزلِه مِن قبل آباء الكنيسة، فاستَنجَدَ الآباءُ بموسى طبيب الملك الخاص وكان ذا مَنزلةٍ رفيعة لدى الملك، وتَحَدَّث موسى الى الملك ضارباً له المَثَل التالي:

 

“لقد جرى أنَّ ملكاً عظيماً مالَ الى رَجُل مسكين فقرَّبَه إليه وجعل مِنه أنيساً له، ثمَّ أهداهُ يوماً فيلاً مِن أفيالِه، فذهب الرَجُل بالفيل الى داره، ولكون باب الدار لم يكن واسعاً ليَمُرَّ الفيل ُ مِن خلالِه، بقي الفيلُ خارجاً ولم يعرف سبيلاً لإطعامِه فأخذت المسكينَ الحيرةُ مِن أمره، وراح يُفكِّر مليّاً لعَلَّه يجدُ حلاً لمُشكلة الفيل، وبعد تفكير طويل لم يَرَ أفضل مِن العودة الى الملك صاحب الفيل، فطلب مِن أعوان الملك إبلاغَه عن اعتذاره وإعفائه عن قبول الفيل ” فلما انتهى موسى النصيبيني مِن سرد المَثَل على مَسمع الملك، إبتسم الملكُ وأدرك المغزى مِن المَثَل، ثم أردفَ موسى قائلاً: ” إننا أيها الملك اؤلئك المساكين الذين أهدانا الملك هذا الفيل، لقد خابَ أمَلُنا فيه وفي رئاستِه، فليتكَرَّم علينا الملكُ بإعفائِنا مِن قبوله ونحن للملك شاكرون” فأيَّدَ الملك كِسرى الأول أنوشِروان قرارَعزل يوسف وكان ذلك في شهر شباط لعام 567 م بعد مُضيِّ خمسة عشر عاماً على تَوَلِّيه المنصب الجاثاليقي.(كتاب المجدل عمرو ص 42 ماري ص 53).

 

عزل يوسف

ويُضيف(التاريخ السعردي2 ص 88 – 89 ويؤَيِّد عمرو ص 42 وماري ص 53) وإنَّ فقدَ يوسف لمنصبِه البطريركي لم يُفقِده مكانتَه لدى الملك كسرى الأول أنوشِروان، إذ بقيَ الرَجُل الثاني في مجلس الملك بعد عظيم أحبار المجوس بحسب قول لاند في كتاب (النصوص السريانية 3 ص 339)، ولذلك استطاع التأثير على الملك ليُصدرَ أمراً بعدم انتخاب جاثاليق جديد إذا لم يحصل المُرشَّح على آراء كُلِّ المسيحيين وبالإجماع على انتخابِه، وبذلك تَمَّ وضعُ حَجَرالمنع أمام تنصيب الاسقف حَزقيال الذي اختاره الآباء المطارنة والأساقفة بالرغم مِن مكانتِه الكبيرة لدى الملك، فاضطرّوا الى تكليف ماري اسقف كُشكُر للقيام بأعباء الجاثاليق، ودام هذا التكليف مدة ثلاثة أعوام أي حتى وفاة يوسف عام 570 م ودُفِن في فيروزشابوربحسب قول(ايليا ص 52).

سنوات يوسف الأخيرة

يقول(إيليا الدمشقي/ السمعاني3 /1 ص 434 – 435) عن يوسف بأنه في السنوات الثلاث الأخيرة بعد عَزله ألَّفَ كُرّاساً عن بطاركة الشرق، ورَكَّزَ أقصى جُهده للدفاع عن منصبه بكتابات، موضِّحاً بأن سُلطة كُرسي ساليق هي الثابتة بشخص الجالس عليه، وقد أشار الى ذلك المؤرخ الأب(لابور ص 197) بأن يوسف استند بذلك الى الرسائل التي وجهها ماريعقوب اسقف نصيبين وتلميذه مار افرام الى بابا بن عكّاي اول جاثاليق لكنيسة المشرق في صراعه مع الأساقفة المُناوئين له، ولم يكن يوسف أول مَن أشار الى هذه الرسائل لأن الإشارة الى بعضها قد تمت قبل عهد يوسف، ولكنّ كتابات يوسف كانت عديمة الجدوى، لأن الكلدان النساطرة شطبوا اسمَه مِن سِجِل البطاركة واعتبروا فترته عصيبةً على كنيستِهم، إذ لم يُسَجَّل له ذِكرٌ جميل ما عدا اهتمامه بدَفن موتى الوباء الذي وصفه (التاريخُ السعردي ج2 ص 90 – 94 وماري ص 54) بأشدِّ الأوبئةِ الفتّاكة التي ضربت المنطقة زَمَن رئاستِه، وعُرِفَ ذلك الوباء بعلامةٍ خاصة هي ظهور ثلاث نقاطٍ سوداء داخل لحم كَف الإنسان، وحدث مَرَّتَين في مُنتصف القرن السادس، كانت اولاها في سنة 544م والثانية في سنة 562م، ويُقال بأن الوباء طالت مدته كثيرا، وفتك بالسكان فتكاً ذريعا حتى أنَّ بعض المدن والقرى فَرُغَت مِن ساكنيها، ومِن بين ضحاياه الذين لا يُحصون، كان استاذ أكاديمية نصيبين يوحنان دبيث رَبّان حيث إختطفه عام 567م.

                                                                                                                                                                                                                                   كان يوسف يتمتع بحظوةٍ لدى الملك كِسرى الأول أنوشِروان كما مَرَّ ذكرُه، فلم يحدث إضطهاد رسمي وسافرٌ ضِدَّ المسيحيين في عهدِه، بيدَ أنَّ حظر التبشير بالمسيحية بين الوثنين كان صارماً ولا سيما بين أبناء الأُسر الفارسية العريقة، والمُخالف يتعرَّض لعذابٍ شديد. وقتل العديد مِن أبناء هذه الأُسر لإعتناقهم المسيحية ومِن جملتهم الشريفة الكرخسلوخية الشهيدة “شيرين” التي إعتنقت المسيحية واعتمذت مِن يد يوحنا الاسقف، واستشهدت في ساليق في 26 شباط عام 559 م، ولكن وللأمانة التاريخية لا بدَّ مِن القول بأن ملوك فارس ومنذ انفصال الكنيسة الكلدانية عن الكنيسة الغربية الجامعة بإتِباعها مذهبَ نسطور لم يعودوا يَشكُّون بإخلاص رعاياهم لهم ولذلك بسطوا عليهم حمايتهم، واقتصر اضطهادُهم تقريباً وبشدة على كُلِّ مجوسي يُجاهر بإعتناقه الديانة المسيحية.

 

الجاثاليق حزقيال 570 – 581م

يروي(التاريخ السعردي ج2 ص 86) بأنَّ حزقيال كان أحد تلامذة مارآبا الكبير المُمَيَّزين، وحيث تَوَسَّمَ فيه الذكاءَ والحزم رسمَه اسقفاً على زابي (النعمانية اليوم) إلا أن مؤلف كتاب (تاريخ كلدو وآثور2 ص 198) يقول بأن الذي رسم حزقيال اسقفاً هوالجاثاليق يوسف وليس مارآبا الكبير. والى جانب إتقان حزقيال اللغتين الكلدانية والفارسية وتضلُّعه بالعلوم الكنسية واللاهوتية، تعلمَ الطب أيضاً، ويُضيف (نفس المصدر أعلاه ص 100 وعمرو في المجدل ص 43) بأن حزقيال قامَ برحلةٍ الى جزيرتي البحرين واليَمامة بناءً الى رغبة الملك كِسرى الأول أنوشِروان، مُستصحباً معه غَوّاصين ماهرين لإستخراج نوع نفيس مِن الجواهر باهض الثَمَن مُتوَفِّر في تلك المَنطقة، وكان التوفيقُ حليفَ مارحزقيال في مُهِمَّتِه، حيث استطاعَ غَوّاصوه مِن التقاط عددٍ كبير مِن تلك الجواهر النادرة، فجلَبَها للملك الذي اغتبَطَ  بها جداً فأثنى على جُهدِ مارحزقيال و عَزَّزَ مِن تَقَرُّبِه إليه وجعلَه مِن أوائل الحاضرين الى مَجلسه، ولكن هذه المصادر لم تُحدد الزمن الذي تَمَّت به الرحلة، إن كانت على زمن اسقفيته أم جثلقتِه، ويُرَجَّح زمن الاسقفية.

 

لقد ذكرنا بأن الكرسي الجاثاليقي بقي شاغراً لمدةِ ثلاثِ سنوات بسبب اعتراض يوسف الجاثاليق المخلوع على تنصيب حزقيال اسقف زابي جاثاليقاً والذي تَمَّ ترشيحُه مِن قبل غالبية المطارنة والأساقفة في اجتماع خاص عقدوه لهذه الغاية، وكان موقفُ يوسف الرافض مدعوماً مِن قبل الملك كِسرى الأول أنوشِروان، حيث امتنع عن إصدار الأمر لإنتخاب جاثاليق جديد إكراماً له، فاضطرَّ آباءُ الكنيسةِ الى تكليفِ ماري اسقفِ كُشكُر للقيام بأعمال الكُرسي الجاثاليقي. وعندما وافت المَنِيَّة يوسف الجاثاليق المعزول، زال المانعُ الحائلُ دون أجتماع الآباء المطارنة والأساقفة لإختيارخلفٍ جديد له. وخلال الإجتماع ظَهر على الساحة مُرَشَّحان هما الأسقف حَزقيال وإيشاي المَلفان وكلاهما مِن تلاميذ الجاثاليق مارآبا الكبير، وقد أحدثَ ذلك انقساماً في آراء الآباء المُجتمعين، حيث أبدى عددٌ مِن الآباء عن تَرشيحِهم لإيشاي المَلفان، بيدَ أنَّ العددَ الأكبرَ مِنهم بزعامة بولس مطران نصيبين جَدَّدوا تَرشيحَهم السابق للأسقف حزقيال وأصَرّوا على عدم التراجع عن قرارهم الذي أجمعوا عليه بإختيارهم له قبل ثلاث سنوات أي في عام 567 م، وهكذا رَجَحَت كَفَّة الاسقف حزقيال، ونقل صديقِ حزقيال الحميم نوروزي المروزي رئيس أطبِّاء الملك أنوشِروان رغبة الآباء بإختيار حزقيال الى الملك، فأبدى إرتياحه للإختيار وأذن برسامته التي تَمَّت في المدائن العاصمة عام 570 م بحَسَبِ ما ما ذكره ( إيليا بَرشَنّايا في تاريخِه ص 52).

 

وأورد المؤرخان الكلدانيان فيالمجدل (عمرو ص 44 وماري ص 54) وصفاً لمار حزقيال حيث قالا <… وكان عارفاً بامورالعالَم، فَهِماً بالعلوم. واستقامت الامور على يديه، ورضيَ به سائرُ الناس، وسامحَ القُسّان والشمامسة الذين أسامهم يوسف، وتوفرت لديه قناعة بعدم إعادة رسامتهم مكتفياً، بأن أقامهم قدام المذبح وثَنّى عليهم صلاة الإستغفار والتمحيص ويستطردان بالقول: ” ثمَّ خلط بعد ذلك بعض التخليط مع الآباء واستعمل الجفاء في أخلاقه معهم> ويعزوان إبتلاءَه بالعمى في السنتين الأخيرتين مِن حياتِه الى عقابٍ مِن الله، بسبب تعييره للآباء وتسميته إياهم بالعميان. ومِن الأحداث المُهمة التي تزامنت مع عهد مارحزقيال الجاثاليق، يقول(عمرو في المجدل ص 43 – 44) بأنَّ مطران بيث كرماي واسقف نينوى حَثّا المؤمنين على إقامة الصلاة والصوم لمدة ثلاثة أيام، لكي يُزيل الله عنهم الوباءَ الذي كان متفشِّياً في المناطق الشرقية، وفاتحا الجاثاليق مارحزقيال بما عزما عليه، فلقيا منه الإستحسان والتشجيع. وسَميا صلاتهم وصومهم (باعوثة نينوى) أي (تضرُّع نينوى) تَيمُّناً بصوم أهل نينوى القدامى ليس إلا،(وخطاً يعتقد الناس بأنه إعادةً لصوم نينويِّي التاريخ الوثنيين، وإنّما تُتلى الصلوات التي ألَّفها آباءُ كنيسة الشرق الكدانية التي أفرزها خيالُهم الخصب لتلك الحالة). فقبل الله إلتماسهم ودعاءَهم وأزالَ الوباءَ عنهم.

بعد انتهاء الملك كسرى الأول أنوشِروان مِن حَملتِه العسكرية عاد الى المدائن وكذلك عاد الجاثاليق حزقيال، وقد أدّى غياب الجاثاليق الطويل عن مَقَرِّه وعدم قدرتِه على مُتابعة الشؤون الكنسية لإنشغالِه الكبير مع الملك، الى تفاقم الفوضى لتَعُمَّ الكنائس في مُختلف أنحاء المملكة، فالكثير مِن الكنائس قد خَرَجَت عن طاعة الجاثاليق وتجاهلت ذِكرَ اسمِه في صلاة الفرض، وإنَّ الخلافات القائمة بين مطارنة وأساقفة الكنيسة وصلت بعنفها الى التطاول وانتهاك حقوق بعضهم البعض، وما زاد في الطين بَلَّة انتشار هَرطقة المُصَلِّين التي ساهَمَت في فساد الأخلاق بشكل كبير، فهي تدعو الى إطالة الصلوات، حيث بإطالتِها حسب رأيهم تزول كُلُّ الموبِقات التي يَرتكبُها الإنسانُ في حياتِه مَهما تَضَخَّمَت وتنوَّعَت، وإزاء هذا الوضع المُزري لم يَجِد مار حزقيال الجاثاليق مَفرّاً مِن عقد مجمع لبحث مسار الكنيسة المُتدهوِر جداً، فبادر الى إرسال دعواتٍ الى جميع مطارنة وأساقفة المملكة للحضور الى المدائن، فلَبّى الدعوة مِن المطارنة ثلاثة ومِن الأساقفة سبعة وعشرون.

تَمَّ عقدُ المَجمَع في عام 576 م برئاسة الجاثاليق مارحزقيال، وبعد مُشاوراتٍ ومُداولاتٍ طويلة شابتها مَشاداتٌ حادة وانتقاداتٌ مُفيدة، تَوَصَّلَ الآباءُ المُشاركون في المقام الأول الى تثبيت قانون الإيمان مُصاناً مِن تَخَرُّصات التعاليم الهرطوقية المُضَلِّلة التي إبتدعها أشهر الهراطقة الذين ظهروا في كنيستنا الكلدانية في القرنين الثاني والثالث كما يذكُرُهم العلامة المطران أدي شير وهم: طِطيانوس، وبَرديصان، وماني، وقوقا. والذين ظهروا خلال القرن الخامس وما بعده وهم مَرقيون، وآريوس، وإِورنيميس، واوبليناريس، واليعاقبة المونوفيزيون، والرهبان المُصَلّون. ثمَّ شَمَلَت أعمالُ المَجمَع إتِّخاذ تسعةٍ وثلاثين قراراً وتوصية تناولت مَهام وواجبات الإكليروس بكُلِّ مراتبِهم كما تطرَّقت الى السُبُل المُثلى لسلوك المؤمنين العلمانيين نُشير فيما يلي الى أهَمِّ ما جاءَ في هذه القرارات :

 

1 – إعادة تحديد صلاحيات وواجبات الجاثاليق والمطارنة والأساقفة، ووجوب ذِكر اسم الجاثاليق عند تِلاوة صلاة المُناداة (الكاروزوثا ܟܪܘܙܘܬܐ) في كافة كنائس المملكة الفارسية .

2 – وجوب عقد مجمع كنسي عام يحضرُه مطارنة وأساقفة الكنيسة تحت رعاية الجاثاليق كُلّ أربع سنواتٍ مرة، وأن يجريَ عقدُه قبل حلول الصوم الكبير .

3 – إمتناع المطارنة والأساقفة التام عن المساس بصلاحيات الجاثاليق مِن حيث رسامة وتنصيب المطارنة والأساقفة، وعلى المطارنة والأساقفة احترام حقوق بعضهم البعض وعدم التَدَخُّل بشؤون واحدهم الآخر .

4 – على المطران (الميطرابوليط) القيام بدعوة الأساقفة التابعين له لعقد اجتماع برئاستِه مرة في كُلِّ سنة وبالتحديد في شهر أيلول .

5 – يُحظَر على المطارنة والأساقفة والكهنة القيام ببيع أو رَهن الأوقاف الكنسية وأوقاف الأَديُرة، كما لا يَحُقُّ لهم أن يَهِبوا مِن ايراداتِها لأقاربهم .

6 – إذا قام المطران أوالأسقف أو الكاهن بشراء أملاكٍ للكنيسة باسمِه، عليه إعلام الإكليروس وبعض المؤمنين العِلمانيين بذلك مُسبقاً، وعند شعوره بقرب وفاتِه عليه التنازل عن مُلكيتِها لخلفِه ضماناً لعدم ضياع أيِّ شيءٍ مِن ممتلكات الكنائس والأَديُرة. صادق الجاثاليق على أعمال ومُقرَّرات المجمع ووَقّعها الى جانب ثلاثين مطراناً واسقفاً ذيَّلوها بتواقيعهم، وبعث بموافقاتهم أربعة مطارين عن طريق وكلائهم، كما أنَّ أساقفة آخرين لم يتمكنوا مِن الحضور نظراً لبعد أماكنهم وصعوبة السفر، وربما لم تصلهم الدعوى لحضور المجمع في الوقت المناسب .

وقد جاءَ في كتاب (المجامع الشرقية / الترجمة ص 368 -389) بأنَّ قوانين هذا المجمع قد حُفظت في المجموعة التي نشرها الأب شابو. ويذكر المؤرخ (ماري في المجدل ص 54  والتاريخ السعردي ج2 ص 101 – 103) بأن فترة جلوس الجاثاليق حزقيال على كُرسي المدائن إمتَدَّت أحد عشر عاماً، وفي عامَيه الأخيرين شعر بمرارةٍ نتيجة فُقدانِه البصر، وكانت وفاتُه عام 581 م.

 

الجاثاليق ايشوعياب الأول الأرُزُنّي 582 – 595م

وبحسب ما أوردَه المؤرخُ (ماري في المجدل ص 55 والتاريخُ السعردي2 ص 44) بأنَّ بعض الأساقفة بعد وفاة الجاثاليق حزقيال رَشَّحوا أيّوبَ المُفَسِّر لتوَلّي الكُرسي الجاثاليقي، بيدَ أنَّ عدداً آخر أكبر مِن الأساقفة اختاروا ايشوعياب الذي كان مُتمَيِّزاً بإعتدال القامة وجمال المَنظر وقد تَلقَّى علومَه في مدرسة نصيبين الشهيرة على عهد مُديرها القدير أبراهام دبيث رَبّان، وتَسَلَّمَ إدارتَها مِن بعده لمدة سنتين مِن 569 حتى 571 م حيث رُسمَ اسقفاً على أرزون فلُقِّبَ بـ (اوروزنايا ܐܘܪܘܙܢܝܐ) أي الأُرُزنّي وإن كان أصلُه مِن بيث عربايي، وكان متضلِّعاً بشتى العلوم ومُختصّاً بالشؤون القانونية والليتورجية، وما أكَّدَ تَبَحُّرَه بهذا المجال، الشروح البليغة التي أودعها برسالتِه المُسهبة المُوَجَّهة الى يعقوب اسقف”داراي” في الخليج العربي، وقد أُدرجَت في مجموعة القوانين الشرقية (ص 424) ويُضيفُ المصدران الآنفان بأن الملك هرمزد الرابع أوعزَ بإنتخاب ايشوعياب للمنصب الجاثاليقي وفاءً لإخلاصه للمملكة، حيث كان يَبعثُ برسائل للملك يُبلِغُه بها عن تحَرُّكات الجيوش الرومية في فترة تَوليه كُرسيَّ اسقفية أرزون الحدودية، فتَمَّت رسامتُه في عام 582 م وبعد الرسامة يقول(ايليا بَرشِنّايا ص 52 وكتاب المجامع ص131 و391 ج3) تَوَجَّهَ الجاثاليق ايشوعياب بصحبة الأساقفة الى القصر الملكي للسلام على الملك والدعاء له، فرَحَّبَ بهم الملكُ وشَمَلَهم بكَرَمِه، وبعث برسائل الى حُكّام المملكة ليأخذوا برأي الأساقفة عند إصدار القرارات والأَحكام وسائر الامور الاخرى.

مجمع ساليق العاشر 585م

ويَظهر أن التقليد الذي كان مُتَّبَعاً بأن يقوم الجاثاليق وبأقرب فرصةٍ بعد رسامَتِه بعقد مَجمَع يحضرُه المطارنة والأساقفة تحت رعايتِه قد أُهملَ العملُ به منذ عهد الجاثاليق يوسف المكني الذي عقده بعد مرور سنتين مِن انتخابِه، والجاثاليق حزقيال في السنة السادسة لرسامتِه، وهكذا فعل الجاثاليق ايشوعياب الأول الأرُزوني حيث قام بعقده في السنة الرابعة مِن رسامتِه وهي سنة 585 م. وقد شاركَ في أعمال المَجمَع مطرانان وعشرون اسقفاً.

 

لقد إفتتح المجمع أعمالَه بتقديم الشكر لله الذي منحهم فرصة الإجتماع، وبالثناء على مناقب الملك الفارسي هرمزد الرابع لِما أحاط به المسيحيين مِن اللطف والرعاية. ثمَّ إستعرضَ آباءُ المجمع قانون الإيمان، ودافعوا عن تعاليم تيئودوروس اسقف مصيصة المُفسِّر. وبعد ذلك إتخذ آباءُ المجمع واحداً وثلاثين قراراً أو قانوناً، وأغلبُها مُقتبس مِن مجامع ساليق السابقة التي أتينا الى ذِكرها، إلاَّ أنَّ مُحتواها كان أشملَ وضوحاً وأبلغَ صياغة مِمّا يَدُلُّ على أن أعضاء اللجنة التي كُلِّفت بإعدادِها كانوا يتمتعون بباع طويل مِن العِلم والفضيلة، ودِرايةٍ تامة بما يُدَبَّرُ مِن مؤامراتٍ ضِدَّ كنيستهم الكلدانية النسطورية التي لم يكن إستهدافُها مُقتصراً على المجوس فحسب، بل هنالك بالإضافة إليهم ثلاثُ مجموعاتٍ عِدائية عاتية هي:المونوفيزيون، والمُصَلّون، والحْنانيون، حيث استطاع اليعاقبة المونوفيزيون تنصيب مطران في تكريت منذ عام 559م وهو (أحودإمّه) الذي رُسمَ مِن قبل يعقوب البراذعي أقوى داعيةٍ مونوفيزي على الإطلاق، بذل جهوداً مُضنية في نشر الضلالة المونوفيزية بين أهالي الديار السورية وبلاد ما بين النهرين، وبالرغم مِن قيام بَرصوما مطران نصيبين الشهير بدحر المونوفيزيين وطردهم مِن كافة أنحاء المملكة الفارسية، إلا اَنهم استطاعوا التَشَبُّثَ بتكريت وظلوا يُشكِّلون خطراً في مُواظبتِهم على بذل أقصى جهودِهم لنشر تعاليم بِدعتِهم المُضَلِّلة في أوساط الكنائس الكلدانية النسطورية.

 

كما أن تَغَلغُل المُصَلِّين في الأديُرة أصبحَ ظاهرة تخريبية مُريبة ومُقلقة للكنيسة، أمّا الحنانيون فهم بنظر أساقفة الكنيسة الكلدانية المتزمتين بالنسطرة الأسوأ والأخطر مِن المونوفيزيين والمُصَلِّين نظراً لقوة براهينهم اللاهوتية الداحظة لتعاليم البِدعة النسطورية، لأن حنانا الحديابي وأتباعَه كانوا وطنيين مُثقَّفين وعلماءَ بارزين، فقد كان حنانا كاثوليكياً مِن مواطني حِدياب وتخرَّجَ مِن مدرسة نصيبين وكان موسى المقريان أي المعلِّم أبرز مُعلِّميه، ويُعتقَد أن موسى هو ذلك التلميذ النصيبيني الذي عن طريقه إهتدى مارآبا الكبير مِن الوثنية الى المسيحية. إنقلبَ حنانا على تفسير تِئودوروس الذي يعتبِرُه الكلدان النساطرة الركن الأساس لإيمانِهم ففنَّده مُظهِراً أخطاءَه، ومِمّا ساعده على نشر تَعليمه هو تَسَلُّمُه إدارة مدرسة نصيبين عام 572 م ومُمارسة دور المُفسِّر الأول فيها كما تقضي قوانينُها ويُؤَكِّد ذلك المؤرخ بَرحذبشَبّا.

ولذلك فقد طلبَ الجاثاليق ايشوعياب الأول الأرزونّي مِن آباء المجمع التركيز على إتِّخاذ قرارات وإصدار قوانين حازمة وصارمة ضِدَّ هؤلاء الخارجين على الإيمان الحق المستقيم المتمثل برأيه وراي أساقفته بتعاليم البِدعة النسطورية، ولو عُدنا الى قراءة هذه القوانين في كتاب المجامع فنرى أنَّ القانون الأول الذي تَصدَّرَها كان: 

                                                                                                                                                                                                                                                              1- تثبيت قانون الإيمان الذي يستند الى ما أثبتَه مجمعا نيقية والقسطنطينية، وهو موجَّه ضِدَّ المُعتقدات المُعارضة ويفضح فحوى تعاليم البِدَع التي نَشرها هؤلاء المُخالفون وبخاصةٍ اليعاقبة المونوفيزيون .

2 – إطراء فضائل المُفَسِّر تِئودوروس والإقرار بصحة تعليمِه وتفسيره وحَرم كُلِّ مُخالفٍ له. وهو بذلك يُعارض تعاليم حنانا الحِديابي رئيس مدرسة نصيبين، وبذات الوقت مناقض لتعليم مجمعي نيقية والقسطنطينية.

وقد تَضَمَّن القانونُ الثامنُ تفنيد هرطقة المُصلّين والإحتراز مِن الوقوع في حبائلهم، أما القوانين الاخرى فقد تَناولت حقوق وواجبات الجاثاليق والمطران والاسقف والأركِذياقون وبقية مراتب الإكليروس، وتطرَّقَت الى فوائد التشريعات الكنسية  وتنظيم حياة الرهبان والراهبات، وشمَلت قضايا الزواج الشرعي ومُحاربة الرِّبا. صيانة ايرادات الأوقاف وأموال الأيتام، النهي والإبتعاد عن الإعتقادات الباطلة، إمتناع المؤمنين مِن الزواج بالمجوسيات أو بنات الهراطقة، وعدم مُشاركة  الوثنيين والهراطقة واليهود بأعيادهم ومناسباتِهم.

 

وعلاوةً الى القوانين التي أصدرها المَجمع أصدرَ الجاثاليق ايشوعياب الأول الذي وَصَفه المؤرخ الأب(لابور ص 202) بالعالِم الجليل، عشرين قانوناً إضافياً بناءً الى طلب مار يعقوب اسقف جزيرة داراي في بيث قَطرايي وهي مطبوعة في كتاب المجامع أيضاً، تَتَضَمَّن شرحاً لتقدمة الذبيحة الإلهية وسِرَّي العَماذ والإعتراف وحِفظ يوم الأحد وتقديسه والكثير مِن الحقائق الاخرى، وهي أجوبة على الأسئلة العديدة التي وجَّهها إليه اسقف الجزيرة المُشار إليه، يشرح له فيها الامور الليتورجية، طالباً مِنه التصرُّف بعطفٍ ورحمة تُجاه الجميع، وحل مشاكلهم وفق ما جاءَت به الكُتُب المقدسة وكتابات الآباء، ويوصيه بالسهرالمُتواصل على قطيعه، ويُعلمُه بأن أجوبته قد إستخلصها مِمّا كان قد دَوَّنه مِن المُلاحظات والمُناقشات القانونية التي كانت تدور في أروقة مدرسة نصيبين عندما كان طالباً فيها ثمَّ استاذاً. وفي جوابه للسؤال الثامن عشر مِن مجموع الثلاثة والثلاثين سؤالاً، ضَمَّنَه تعليمات تتعلَّق بالوزنات أو الهِبات التي تُمنح في الرسامات الكهنوتية لخدام المذبح، حيث يقول ايشوعياب: إن الشماس الإنجيلي ينال وزنة واحدة. الكاهن ثلاث وزنات. الاسقف خمس وزنات. وهو مُنتهى الكمال وملء الكهنوت. ويقول مار ايشوعياب بأنه أدمج أسئلة يعقوب ببعضها، ورأى مِن ناحيته الضرورة في إجابة العشرين مِنها، أما البقية فترك جوابَها لفطنة سائلها وحُكمِه . . .!

                                                                                                                                                                                                                                                                 كانت سنوات جثلقتِه الاولى على عهد الملك هرمزود الرابع مليئَة بالفرح والهدوء وزاخرة بالعمل، بيدَ أنَّ وفاة هرمزد الرابع وجلوس إبنه كِسرى الثاني أبرويز على العرش الفارسي، ساءَت الامورُ بالنسبة لمار ايشوعياب حيث عاداه الملك الجديد لأسبابٍ أتينا الى ذِكرها أعلاه في معرض الحديث عن هذا الملك. ولما كانت العلاقة غيرَ ودية بين كسرى والجاثاليق فمِن غير المعقول أن يُسافر الجاثاليق الى بلاد الروم كما يقول في (المجدل صليبا ص 45 وماري ص 56) فإن المقصود بالسفر هو الجاثاليق ايشوعياب الثاني الجدالي وليس ايشوعياب الأول الأرزُنّي. والى الجزء السابع قريباً

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 5/1/ 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *