الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء السابع والثلاثون

بطاركة الكلدان في دياربكر

 

وكما سبق أن ذكرنا بأن البطاركة النساطرة من آل أبونا قد إتخذوا من دير الربّان هرمزد مقرّاً لهم، وكانت ابرشية دياربكر ترتبط إدارياً بالبطريرك النسطوري المقيم في هذا الدير منذ عام 1650م، ورغم كُلِّ ما قيل عن مسيحيي دياربكر الكلدان حول تمسكهم بالنسطرة هو مخالف للحقيقة، لأنَّ الشعب الكلداني في دياربكر كان الأشدَّ ميلاً الى الإتحاد الإيماني مع روما من شعب أيَّة منطقة اخرى، ويُشيرُالى ذلك الراهب الكبوشي يوحنا باتيست دي سانت اينيان في رسالته المؤرخة في 20 تموز عام 1667م المُوجَّهة الى مجمع انتشار الإيمان مؤكِّداً فيها ما لاحظه لدى مروره في دياربكرعام 1667م وتوقُّفه فيها فترة قادماً من الموصل قاصداً حلب، بأنَّه من الضروري أن يقوم بفتح مركز إرسالي لفائدة الشعب الكلداني النسطوري هناك (الرسالة 6 للإخوة الأصاغر الكبوشيين ص 108/ روما، 1920). وحيث لم يكن يمتلك المُرسَلون الكبوشيون وقتذاك كنيسة خاصة بهم، فكانوا يضطرّون حصراً الى إقامة الصلوات وإلقاء الوعظ والإرشاد في كنائس النساطرة على غِرار ما كان يفعله الدومنيكان والفرنسيسكان في القرنين 13 و 14، وقد أفلحوا في كسب عددٍ كبير من النساطرة الى الوحدة الإيمانية مع روما، وتكلَّل نجاحهم بكسبهم لمطرانهم يوسف (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 124).

 

1 – البطريرك يوسف عبدالأحد الأول1681-1691م

ويُضيف المصدر السابق أعلاه، بأنَّ الحكومة العثمانية كانت قد منحت رؤساء الطوائف الدينيين للشعوب المسيحية الشرقية القاطنة ضمن جغرافية الدولة، قد منحتهم الى جانب صلاحياتهم الدينية التي يتمتعون فيها تلقائياً صلاحيات ومهام الرؤساء المدنيين أيضاً، ولكنَّ موافقتها على ظهور جماعات جديدة لم تكن سهلة المنال. وكان لهؤلاء الرؤساء سلطة محاسبة أتباعهم إدارياً وقضائياً في حالة تركهم لمذهبهم النسطوري او المونوفيزي واعتناقهم المذهب الكاثوليكي، وبإمكانهم إلحاق الأذى بهم عبر وسائل وطُرق شتّى. وإذا رغب بطريرك طائفة ما الإنضمام الى الإتحاد الإيماني مع روما، لم تكن الإدارة العثمانية لتهتم بالموضوع، بل تصرف النظر عنه. أما إذا خرج مرؤوسُه عن طاعته، فبإمكان الرئيس اللجوء الى آغا منطقته، ويُطالب ان يقوم الآغا بردعه او تأديبه استناداً الى الصلاحية الممنوحة له.

 

 ويستطرد نفس المصدر، فإنَّ هذه الحالة طبَّقها البطريرك النسطوري”ايليا التاسع 1660-1700م” مع مرؤوسه يوسف الكركوكلي الذي رسمه عام 1668م مطراناً على دياربكر، فما إن عَلِم بانضمام المطران يوسف الى المُعتقد الكاثوليكي، حتى ثار ثائرُه واستدعاه للحضور الى المقرِّ البطريركي الذي كان آنذاك في بلدة تللسقف القريبة من الموصل، بيدَ أنَّ المطران يوسف ارتاب بالأمر وامتنع عن الذهاب، فقرَّرَ البطريرك الذهاب شخصياً الى ماردين ودياربكر مُصمِّماً على الإقتصاص من المطران يوسف. وفور وصوله الى دياربكر استولى عن طريق الرشوة على كنيسة مارفثيون التي كان المطران يوسف قد غادرها، ولكنَّ ايليا التاسع، تمكَّن بطريقةٍ أو باخرى بإقناع السلطة للقبض على يوسف وزجِّه بالسجن، وبعد مثوله عدة مرات أمام محكمة”المتسلِّم” العثماني، أقرَّ له المتسلم بسلطته على دياربكر وماردين واعترف به رئيساً للمنطقة ومستقلاً عن سلطة البطريرك النسطوري، وما دفع المتسلم بإصدار هذا القرار كان تقديراً منه لهيبة المطران يوسف وتميُّزه بالفضيلة والثقافة الأمر الذي أثَّر في نفسه تأثيراً عميقاً. رُوِيت هذه الأخبار من قبل “عبدالأحد مطران دياربكر 1714-1727م” بالعربية، ونُقلت الى الفرنسية من قبل الأب شابو ونشرها في (مجلة الشرق المسيحي1 لعام 1896م العدد2 ص 66-90). ولكنَّ البطريرك النسطوري ايليا التاسع لم ييأس بل واصل مسعاه لإيذاء البطريرك الكاثوليكي يوسف الأول. ولا شكَّ بضلوعه في استبدال مُتسلِّم المنطقة، فما إن تسلَّم الموقع شخص جديد حتى استطاع النساطرة من إلقاء البطريرك يوسف في السجن ثانية (المصدر اعلاه ذاته) وقد فعلت الرشوة فعلَها، حيث تعرَّض البطريرك يوسف لأشدِّ أنواع العذاب ليس بوسع القلم وصفها، حتى لقَّبَه البعض بالبطريرك الشهيد (شهيد الإتحاد مع روما، بطريرك الكلدان يوسف الأول/ البير لامبار، بالألمانية، لوزون 1966).

 

خرج البطريرك يوسف الأول من السجن مُنهكَ القوى من جرّاء التعذيب الذي لقيه، وكان أول المُهنئين بسلامته قداسة الحبر الأعظم البابا اقليميس العاشر، من خلال رسالة بعث بها إليه في 25 كانون الثاني عام 1673م. توفَّر لديه الشوق لزيارة روما، فقرَّر زيارتها، وصادف وصولُه موسم الإحتفالات بيوبيل عام 1675م، وطالت زيارته حتى عام 1677م، وللأسف فإن تحفُّظ روما الذي أملاه عليها رَدُّ فعلها من أشخاص أعلنوا انضمامهم إليها، فحصلوا منها على مساعدات مالية طائلة، وبعد عودتهم الى بلدانهم، أخلفوا بوعودهم التي تعهَّدوا بها، شمل هذا التحفُّظ البطريرك الكلداني يوسف الأول، فعاد الى بلاده فارغ اليدَين. وكأنَّه كان على موعدٍ مع النائب الرسولي الجديد لبابل الأب فرنسوا بيكيت، فنفحه بمبلغ من المال كبير جداً، استطاع من خلاله تنظيم اموره، واستعادة كنيسته منتصراً على خصم دخيل نسطوري معارض إسمُه داود، كان البطريرك النسطوري ايليا التاسع قد أقامه مطراناً على دياربكر. وعمل البطريرك يوسف بنصيحة الراهب الكبوشي يوحنا باتيست دي سانت اينيان الذي دفعه الى القيام بمفاتحة الباب العالي العثماني للحصول على فرمان منه، يعترف به بطريركاً على دياربكر وماردين ومناطق اخرى، مستقلاً عن بطريرك الموصل النسطوري. ففعل وأفلح في مسعاه.

ونظراً لدرايته بأن السلطان غير قادر على منحه لقب البطريرك رسمياً، لذلك بعث بالتماس الى مجمع انتشار الإيمان لغرض تثبيته بلقب البطريرك وتزويده بالدرع المقدس “الباليوم”، إلا أنَّ المجمع لم يُلبِّ الإلتماس حيث بعث بجوابه في شهر آب عام 1678م يقول فيه: < إنَّ الكرسيَّ الرسوليَّ لا يُمكنُه إقامة بطريركيةٍ جديدة مُناوئة للبطريركية النسطورية في الأراضي العثمانية، دون أن يجري انتخاب شرعي للبطريركية الجديدة > وبناءً الى طلب النائب الرسولي فرنسوا بيكيت المعزَّز باتفاق مع المُرسَلين الكبوشيين في دياربكر، أُعيدَ تقديم الإلتماس عام 1680م وبدون أيَّة إشارة الى موضوع انتخاب يوسف بطريركا، يبدو أنَّ المجمع المقدس اكتفى بهتاف الشعب المسيحي الذي تعالى بعد قراءة فرمان السلطان، فأصدر قراراً في 17 كانون الأول عام 1680م، وحظي القرار بتأييد الحبر الأعظم في 8 كانون الثاني 1681م. وقد تجنَّب القرار ذِكر اسم بابل ولا اللقب المُعطى لسولاقا في حينه، متوخياً عدم المساس بشعور البطريركين النسطوريين. غيرَ أنَّ البراءة الصادرة في 25 تشرين الأول عام 1683م تذكر بأنَّ إقرار الإيمان المطلوب كان قد أرسل قبل استخدام الباليوم، وقد استُهِلَّت: < الى الأخ الأجلّ يوسف بطريرك الكلدان… انظر (كتاب العلاقات، ش. جميل ص 206). وبيوسف الأول ابتدأت سلسلة جديدة لبطاركة الكلدان في أواخر القرن السابع عشر، وكانت دياربكر مقرَّهم وتبنّوا اسم يوسف جميعُهم.

 

2 – البطريرك يوسف الثاني آل معروف 1696-1712م

 وُلِد يوسف الثاني عام 1667م لعائلة كلدانية من آل معروف عُرفت بالورعِ والفضيلة من بلدة تلكيف أقرب بلدات وقرى الكلدان التابعة للموصل، وقد دعاه والداه جمعة وشموني في العماذ باسم “صليبا او صليوو” وقد اختلفت آراء المؤرخين  والمُجتهدين الإستنتاجيين فيما إذا كانت ولادته لوالدَين كاثوليكيين أم نسطوريَين، بالتأكيد كانا نسطوريين، ويعني ذلك أنَّه ولد نسطورياً. ولكنَّ نشاط المُرسَلين الغربيين كان قد تصاعد جداً في بلدة تلكيف في مطلع النصف الثاني من القرن السابع عشر، وقبل انصرامه شهدت البلدة تحوُّلَ عددٍ كبيرٍ من أبنائها الى الكثلكة وكان صليوو معروف الأبرزَ بينهم والمتفوق الأوحد في إدراك عمق الثقافة الكاثوليكية التي تلقّاها على ايدي هؤلاء المُرسَلين! وهذا يؤكِّد بأن صليبا لم يكن كاثوليكياً بالولادة، والدليل على ذلك إحدى مناجاته للعذراء مريم الواردة في كتاب (المصباح المنير/ طبعة الأب بيجان/ باريس 1888م ص3) يقول فيها:< هؤلاء المعلمون الأطهار، هم الذين هَدوني الى الإيمان القويم الذي تعتمدُه كنيسة روما المُشيَّدة على الصخرة البطرسية… وأرشدوني الى عِظَم قداستِكِ حيث قالوا لي: يجب أن أدعوكِ والدة الله وليس والدة المسيح كما يدَّعي أبناء امتي. فلم أتجرَّأ أن اقول لهم: دعوني اليوم وحَدِّثوني بالأمر في الغدِ! بل إنَّ نار حُبِّكِ استعر في قلبي، أنا الصغير والوضيع بين المُحِبين عبيدِكِ… ثمَّ أعلنتُ مقامَكِ السامي لكُلِّ معارفي> فلو كان صليبا كاثوليكياً بالولادة لَما احتاج للقول: هؤلاء هَدَوني… وما كان معلِّموه ليطلبوا منه مناداة مريم بأم الله وليس أم المسيح، ذلك أن عقيدة مناداة مريم بام الله هي إحدى الخلافات الجوهرية بين المعتقدَين الكاثوليكي والنسطوري. ولذلك فصليبا ولد وتربّى نسطورياً وقد تمَّت رسامته شماساً انجيلياً بوضع يد البطريرك النسطوري ايليا العاشر أو واحدٍ من مطارنته وله من العمر أربعة عشر عاماً، وأرجح أن البطريرك هو الذي رسمًه. ويُعتقد بأن اعتناقه الكثلكة تمَّ وهو في العشرين من عمره، وكان لا يزال في تلكيف.

ترك بلدته تلكيف وتوجَّه الى مدينة دياربكر مقرِّ البطريركية الكلدانية الكاثوليكية، فالتحق بالبطريرك يوسف الأول، هرباً من تلك الأوضاع الملتهبة والصراعات المريرة الدائرة بين الكاثوليك والنساطرة على امتداد سهل الموصل حيث كانت الفئة النسطورية تستهدفه، لكنَّ العناية الإلهية تدخَّلت وانقذته في الوقت المناسب، فأذعن لصوت العذراء مريم شفيعته، فغادر بلدته الحبيبة على قلبه، مفارقاً أهله ومُحبيه. وأعرب عن حسرته بهجره لمعلميه الآباء الكبوشيين حيث قال: (المصباح المُنير/ ط. الأب بيجان/باريس 1888م ص 4) <لقد هجرتُ مُعلِّميَّ الذين بفضلهم وعن طريقهم اهتديتُ وانتمَيتُ الى الكنيسة الرومانية، وعلى يدهم تلقيتُ العلوم الإلهية>. ولمغادرة صليبا تلكيف روايات عِدة والأكثر قبولاً بينها: بأنَّ قافلة تتألف من الرهبان الغربيين كانوا في طريقهم الى دياربكر ومنها يواصلوا سفرهم الى اوروبا، ولدى وصولهم بلدة تلكيف توقَّفوا في بيادرها للإستراحة، وصادف في تلك الأثناء وجود الفتي صليبا”صليوو” هناك، وكما تجري العادة لدى الغرباء، فقد طرحوا عليه بعض الأسئلة، ومن خلال جوابه قيَّموا فيه الذكاء، فبادرَواحدٌ منهم وعرض عليه مُرافقتهم، ولم يتردَّد في قبول هذا العرض الذي لم يكن يتوَّقعه، وللحال أرسل مَن يُطلع والدَه بأنه قد التحق بقافلة الرهبان الكبوشيين المتوجهين الى دياربكر. ولكن هل يا تُرى كان هذا العرض تلقائياً وبدون مقدَّمات كان قد أجراها الشماس صليبا مع الرهبان الكبوشيين الذين كانوا يتبادلون الزيارات فيما بين رسالتيهما في آمد والموصل؟ بالتأكيد كان ذلك قد جرى، وهم الذين شجَّعوه للإلتحاق بالبطريرك يوسف الأول. وجاء في كتاب (المرآة الجليّة) بأن البطريرك يوسف الثاني نفسه ينفي تلقيه الدراسة في مدرسة لاتينية في آمد كما يدَّعي البعض، بل إنما درس في مدارس الإسماعيليين لعدم وجود مدرسة للمسيحيين في الشرق آنذاك.

 

ويُردف المصدر السابق وفي ذات الموضع، بأنَّ الشماس صليبا كان قد وضع ثقته بشفاعة البتول مريم وحمايتها حيث يقول: <لقد اصغيت الى صوت ضميري وهو يقول لي: <إذا كنتَ تنشدُ النجاة والخلاص وإكمال مشوار حياتك، إستنجِد بصلوات البتول امِّ ربِّكَ، فهي القادرة على إرشادِكَ للوصول الى ميناء السلام والأمان والإطمئنان. فالتمستُ حنانَكِ الفيّاض… فناداني صوتُكِ السار المُريح قائلاً: قُم وشُدَّ الرِّحال كالطير الى قِمَم الجبال. اترك مسكنك ووالديكَ وإخوتكَ، ورفرف بجناحَيكَ كالنسر، واستقر في أبعد نقطة من بحر العالَم، فأنتَ مُزمع على التحَرُّر! وكعبدٍ مُطيع وبدون تَرَدُّدٍ، نفذتُ ما نطقتْ وأمرتْ به شفتاكِ>

ولما مَثُل بين يدي البطريرك يوسف الأول في مطلع عام 1690م اعتزَّبه وتفرَّس فيه عن طريق الروح، وسرعان ما توسَّم فيه الفطنة والذكاء والفضيلة، فمنحه الدرجة الكهنوتية خلال عام وصوله، بعد أن قام بإعدادِه لها شخصياً باسم القس يوسف صليبا اوصليوو. وليس بعيداً اتخاذه اسم يوسف أن يكون تيمُّنا باسم راعيه ومحتضنه البطريرك يوسف الأول الذي نظر إليه كمثله الأعلى. وبالرغم من ملازمته الكنيسة واهتمامه بحفلاتها الطقسية، كان القس يوسف الجديد يلتقي بالآباء الكبوشيين للإستزادة من التعمُّق بالإيمان والتقوى. وبعد مضيِّ فترةٍ رسمه اسقفاً في عام 1692م وله من العمر أربعة وعشرون عاماً ليكون معاوناً له حيث كان يشعر بخَوَرٍ في قواه البدنية. وهنا شعر المطران يوسف بأن مهامه ازدادت، فشمَّر عن ساعِد الجِد بنشاطٍ لا يعرف الملَلَ، متلهِّفاً الى كسب أكبر عددٍ ممكن من أبناء عمومته الباقين على النسطرة جهلاً وعناداً ليس إلا، وإدخالهم الى حظيرة الكنيسة الأم الجامعة، فكانت لا تفصل ليلَه عن نهاره إلا بضع ساعات ضرورية لتجديد قواه ومواصلة نشاطه، حيث كان لا ينفك من القراءة والكتابة والترجمة والتأليف، وكان اهتمامُه الكتابي ينصب على تنوير إخوته الكلدان النساطرة للإسراع في الإنتماء الى كنيسته الكلدانية الكاثوليكية الفتية.

 

يوسف صليوو بطريركاً

ولما أحسَّ البطريرك يوسف الأول بأن ما تكبَّده من العذاب وهَولِ المِحَن التي ألَمَّت به، قد أوصلته الى حالة العجز عن مواصلة مشواره، حتى أنَّ بصره كاد لا يُسعفه، قرَّر اعتزال منصبه والإقامة في روما بعد أن أقامَ معاونه “صليبا- صليوو” بطريركاً خلفاً له على كرسي بطريركية دياربكرعام 1694م باسم يوسف الثاني، حيث ركن الى رزانته وخبر مقدرته وأهليته لإدارة شؤون كنيسته. ويقول الأنبا ش.جميل (كتاب العلاقات ص 207 ح1 الواردة في ص 206) بأنَّ البطريرك يوسف الأول توجَّهَ الى روما في شهرآب 1694م بعد رسامته ليوسف الثاني ووصلها في شهر ايار عام 1695م . وعند قيام البطريرك الجديد يوسف الثاني بإبلاغ روما بما جرى، اعترض مجمع انتشار الإيمان على هذا الإجراء واعتبره غير قانوني، وأبلغ المجمع البطريرك الشيخ يوسف الأول بذلك، فتقدم باستقالته في الثاني من شباط 1696م كشرط لتثبيت خلفه ووضعها بتصرُّف البابا، وبناءً الى اقتراح قدَّمه المجمع المقدس، ثبَّت البابا انوشنسيوس الثاني عشر يوسف الثاني بطريركاً بموجب البراءة الصادرة في 18 حزيران عام 1696م، بيد أنَّ الأنبا ش.جميل يقول بأن تاريخ البراءة هو 21 أيار 1696م. (كتاب العلاقات ص 207 ح1). مانحاً إياه لقب بطريرك بابل على الكلدان. ولكنَّ كتاب “المرآة الجلية” لمؤلفه البطريرك يوسف الثاني وفي “فصل رئاسة الكنيسة/ سلسلة باباوات روما” يُلغي التواريخ التي أشار إليها الأنبا شموئيل جميل والمؤرخون الآخرون حيث يقول ما تعريبه: < كان البابا انوشنسيوس الثاني عشر من مواليد روما، امتدَّت حبريته ستة أعوام ولدى وفاته انصرم القرن السابع عشر. وفي العام الخامس من رئاسته وهو عام 1699م ثبَّتني في السدَّة البطريركية>. لذلك فإنَّ اعتماد هذا التاريخ هو المُعوَّل عليه لسببَين أولهما: إقرارُصاحبِ الشأن به، وثانيهما: إصدار البابا رسالتين بهذا الشأن في نيسان عام 1698م موجهتين الى يوسف الثاني، تتضمَّن الأولى تثبيته بطريركاً على الكلدان الكاثوليك، والثانية منحه الدرع المقدس “الباليوم”، إلا أنَّهما لم تصلا إليه إلا في خلال شهر شباط لعام 1699م. وقيل بأنَّ سبب تأخير التثبيت ومنح الدرع المقدس ليوسف الثاني، كان لعدم انتخابه عن طريق السينودس بحسب القانون الكنسي، ورغم ذلك فقد حصل عليهما وإن كان في وقتٍ متأخِّر.

بعد اعتناق الشماس الشاب صليبا معروف أو صليوو الكثلكة وتوجُّهِه الى مدينة دياربكر، تضاعفت غيرتُه على المُعتقد المسيحي القويم، قادته الى منحِه الرُّتب والمسؤوليات الكنسية التي دفعته الى إبداء نشاطٍ منقطع النظيرعلى الصعيدَين العِلمي والإداري، ولما جلس على السدة البطريركية، دأب على العمل باسلوب فطِن ومقنع على نشر الكثلكة رغم كُلِّ المضايقات والإضطهادات التي تعرَّضَ لها، ففي عهده وبفضل جهوده انتمت قرى ومدن عديدة بكامل سكّانها الى الكثلكة، فاتسعت رقعة كنيسته الكلدانية الكاثوليكية بشكل كبير، مِمّا أغاض خصومَه بشقيهم الكلدان النساطرة والمونوفيزيين اليعاقبة، فشنّوا عليه وعلى شعبه الكلداني الكاثوليكي اضطهاداً قاسياً، لأنَّ النساطرة وجدوا عددَ اتباعهم يتناقص يوماً بعد يوم بنوع مخيف بسبب تحوُّل الكثير منهم الى الكثلكة، أما المونوفيزيون اليعاقبة، فلأنَّ البطريرك الكلداني يوسف الثاني فتح كنائسه امام اليعاقبة المتحوِّلين الى الكثلكة وسمح لهم باداء طقوسهم الدينية فيها إذ لم يكن لهم كنائس خاصة بهم في بدايات نبذهم للمونوفيزية، فثارَعليه البطريرك اليعقوبي جرجيس الثاني المتزمِّت جداً. واستمرَّ هذا العِداء الشرس وإن مرَّت في خلاله فترات ساد فيها شيءٌ من الهدوء والسلام،ولكنه لم يتوقف بوفاة يوسف الثاني، حيث لم ينجُ منه خلفُه “البطريرك يوسف الثالث 1712-1757م” إذ هو الآخر عانى منه كثيراً.

 

أعمال يوسف الثاني البطريرك

كانت جهود البطريرك يوسف الثاني معروف تنصبُّ بالدرجة الأولى على هداية أبناء شعبه الكلداني النسطوري الى المعتقد القويم “الكثلكة” عن طريق ما ينشره من تعاليمِه ومواعظِه وكتاباتِه تآليفَ وترجماتٍ. حيث فعلت فعلَها بانتماء جماعات كبيرة الى كنيسته الكاثوليكية. وبسبب هذا الإقبال الواسع على الكثلكة أصبحت الحاجة مُلِحَّة الى رُعاةٍ وأبرشيات وكنائس جديدة. وليس من شَكٍّ بأن البطريرك يوسف الثاني قد رسم عدداً كبيراً من شمامسة وكهنة وأساقفة ليقومو بالعمل الرعوي والخدمي لهذا الشعب المؤمِن. ونظراً لكثرتهم لم يُسعفنا المؤرخون بذكر أسمائهم واعدادهم إلا للقليل منهم وهم:

1 – المطران طيمثاوس ماروكين: يقول الأب يوسف تفنكه جي (الكنيسة الكلدانية بالأمس واليوم، بريس 1914 ص 60) بأنَّ المطران طيمثاوس ماروكين، كان كركوكيَّ الأصل، رسم مطراناً على ماردين عام 1696م خلفاً لمطرانها شمعون الذي وافاه الأجَل عام 1695م، وهو الذي سيخلف البطريرك يوسف الثاني على كُرسي بطريركية الكلدان في دياربكرباسم يوسف الثالث. كانت ابرشية ماردين تفخر بقراها المأهولة بسكانها، تتمتع بشأن لا بأس به في الكنيسة الكلدانية في ذلك الحين وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث تكالبت عليها قوى الشر المتمثلة بعصابات العشائر الكردية بتحريض ودعم من قبل السلطة العثمانية الباغية. كان اسرائيل اودو آخر مطارنتها الكلدان المتوفى في 25 شباط 1941م.

2 – المطران باسيليوس: من مواليد عين تنور، تاريخ رسامته مطراناً غير معروف وكذلك تاريخ وفاته فمجهول، إلا أنَّ هناك مدراشَين رتَّلهما البطريرك يوسف الثاني لدى وفاة هذا المطران، ويعني ذلك بأنَّ وفاته جرت في عهد يوسف الثاني. وقد جاء في (فهرس مخطوطات الرهبانية الكلدانية/ المخطوطة رقم 813/3) بأنَّ باسيليوس هذا كان قد أصبح أرملاً عند رسامته اسقفاً، حيث تذكر (المخطوطة 813/4)، بأنَّ إبنه رتَّل مدراشاً في رثاء والده المطران باسيليوس استهلَّه: ابونا الطوباوي امضي بسلام.

3 – المطران شمعون: يقول الأب يوسف تفنكه جي (الكنيسة الكلدانية بالأمس واليوم/باريس 1914 ص47) بأنَّ البطريرك يوسف الثاني آل معروف رسمَه مطراناً لسعرد عام 1701م، وهو اول مطران كلداني لها في عهدِها الكاثوليكي، أوفده البطريرك يوسف الثالث الى روما عام 1731م للدراسة في روما وكوكيل له هناك، وبعد عودته الى سعرد أدركه المنون عام 1742م.

4 – المطران طيمثاوس: رسم مطراناً في الثامن من آب عام 1708م في كنيسة مار فثيون الشهيد بآمد “دياربكر”. وأكَّد ذلك هو نفسه في رسالة وجَّهَها الى مجمع انتشار الإيمان المقدس في روما في الأول من ايارعام 1710م باعتباره وكيلاً للبطريرك. لم يستمر طيمثاوس في منصب الوكالة البطريركية طويلاً، بدليل قيام البطريرك يوسف الثاني في غرة عام 1712م برسم القس عبد الأحد بن كره بيت المقدسي مطراناً معاوناً له في آمد باسم باسيليوس. أما طيمثاوس فلم يُعلم مصيره فيما إذا كان قد نُقل الى أبرشية اخرى اوقد قضى نحبه بعد عام 1710م بفترةٍ قصيرة.

5 – المطران يوسف: في عام 1711م رَسَمَه البطريرك يوسف الثاني آل معروف اسقفاً على الجزيرة، وظلَّ في خدمة أبرشيته حتى أدركه الموت عام 1747م. يقول الأب يوسف تفنكه جي (الكنيسة الكلدانية بالأمس واليوم ص 47) بأنَّ إسم المطران يوسف ورد في متن رسالة البطريرك يوسف الثالث المؤرخة عام 1746م والموجَّهة الى مجمع انتشار الإيمان. وكانت الجزيرة تتأرجح بين الكثلكة والنسطرة، إذ بعد مقتل شهيد الإتحاد البطريرك يوحنان سولاقا، انتخب خلفاً له على كرسي بطريركية بابل عام 1557م مطران الجزيرة الكلداني الكاثوليكي مارعبديشوع مارون، ثمَّ خلف مار عبديشوع عام 1578م مار يهبَلاها وكان أيضاً مطراناً كلدانياً على الجزيرة.

6 – المطران باسيليوس: هو القس عبد الأحد بن كره بيت المقدسي من مواليد قرية عين تنور، رَسَمَه البطريرك يوسف الثاني آل معروف في مستهلِّ عام 1712م مطراناً معاوناً له على آمد، ولكنَّه بعد بضعة أشهر نقل كرسيَّه الى قرية عين تنور نظراً لزيادة عدد المنتمين الى الكثلكة فيها، ومن الجدير بالذكر بأنَّ العادة كانت قد جرت بتولية اسقف عين تنور مهام النيابة البطريركية. يقول الأب يوسف تفنكه جي (الكنيسة الكلدانية بالأمس واليوم ص 60) بأن بقاء باسيليوس في عين تنور لم يَدُم طويلاً، حيث انيطت به ابرشية ماردين بعد انتخاب مطرانها طيمثاوس ماروكين بطريركاً عام 1712م باسم يوسف الثالث خلفاً للبطريرك يوسف الثاني، فانتقل الى ابرشية ماردين عام 1714م، وقام في خدمتها حتى وافى أجَلُه في 25 /9 / 1738م.

7 – المطران شمعون بن ابلحد: آمديُّ الأصل جنساً وولادة، رُسِم مطراناً لمدينة “عادا” التي يقول عنها الأب سمير خليل اليسوعي في أحد مقالاته بأنَّها مدينة هندية. أما وليم رايت فيقول: بأنَّ للمطران شمعون هذا مخطوطة بعنوان “طقس قداس الرُّسُل وطقس تكريس المذبح بالزيت” يقول المطران بأنه قد كتبها في روما تحت ظلال كنيسة القديس بطرس على عهد البابا إنوشنسيوس الثاني عشر جاء فيها ما يلي وبصياغة عربية ركيكة وبحروفٍ كلدانية وهو ما يُعرف بالكرشوني، ولكنني ٍساصيغها بعربية فصحى مُحافظاً على المعنى <اكتمل هذا الكتاب المقدس بمدة سبعة عشر يوماً في شهر تشرين الأول لعام 1691م، كُتِبَ هذا الكتاب في المدينة المقدسة العظيمة روما الكبرى تحت كنف كنيسة مار بطرس وبولس الحنونة… في أيام الحبر الأعظم أبي الآباء… البابا إنوشنسيوس الثاني عشر. كُتِب بيد الحقير الضعيف… المطران شمعون بن المرحوم ابلحد، ينتمي نسلاً وجنساً الى مدينة آمد، الجالس على كرسيِّ مطرانية مدينة عادا… ويقوم بادارة شؤون كنيسة الكلدان في اورشليم  واسمُها كنيسة سيدتنا مريم> (مخطوطات جامعة كمبرج/المخطوطة رقم “15.1. “Oo الملحق ص 1061-1063). كان شمعون مطراناً نسطورياً التحق بالكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في عهد البطريرك يوسف الأول حيث عَيَّنه مطراناً على ماردين، تُوفي عام 1695م. ومن دواعي وجوده في روما، اولاً لرغبته الكبيرة بمقابلة قداسة البابا، وللأسف فإنَّه لم يحظ بها. وثانياً لإيصال رسالة البطريرك النسطوري ايليا بشأن الوحدة مع الكرسي الرسولي مشفوعة برسالة حارس الأماكن المقدسة. والى الجزء الثامن والثلاثين قريبا.

الشماس د. كوركيس مردو

في 1 / 9 / 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *