الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء العشرون

 

بوادر ظهور نفوذ السلاجقة

 

ومع تفاقم الإضطرابات وازدياد الصراع بين السنة الأتراك والشيعة البُوَيهيين، لاذ جلال الدولة البُوَيهي عام 1037م بالهرب سِرّاً ومتنكِّراً، خوفاً مِن الجنود الأتراك المُرتزقة الثائرين، وجرى السطو على منزله فنُهبَ، واعتُبرَت هذه الفترة العصيبة ايذاناً ببدء نفوذ السلاجقة. وكما كان يُلقَى اللومُ على المسيحيين عندما تحدث الإضطرابات وتعُمُّ الفوضى في بلاد الشرق التي استولى عليها المسلمون، كذلك كان يجري لهم في بلاد الغرب. ففي عام 1042م حدثت فوضى في العاصمة البيزنطية القسطنطينية، واتُّهمَ باثارتها الغرباء الوافدون إليها مِن بلاد الشرق، وكان معظم هؤلاء مِن المسيحيين الشرقيين الكلدان، فطولبَ بطردهم، فكان أن غادر المدينة ما يقرب مِن 100000 نسمة وقصدوا اللجوء الى مناطق اخرى، إلا أنَّ ما جرى لهم جاءَ في صالحهم، فقد تبدَّلت نظرة المسلمين في الشرق الى المسيحيين بعدم اعتبارهم مُوالين للسُلطة البيزنطية. وبعد سبعة أعوام مِن هروب “جلال الدولة” مِن بغداد، داهمه الموتُ في عام 1044م وخلفه في بغداد “أبو كاليجار” حاكم فارس وكرمان. ورغم الأحوال غير الطبيعية القائمة في هذا الحين بين المسيحيين والمسلمين، نجد قيام تعاون بين الطرفين في تدارك أمر قد يكون ذا خطرعلى الدولة، وفي هذا الإطار قام البطريرك ايليا الأول عام 1045م بإطلاع الخليفة القائم على مضمون رسالةٍ بعث بها إليه مطران سمرقند، يُبلغه فيها بأنَّ غزواً كاسحاً يقوده سبعة ملوك، وأنَّ جيوشهم قد دخلت كشغر وهي في طريقها لإجتياح المناطق. بيدَ أنَّ البلادَ كانت مُقدِمة للمخاض عن أحداثٍ متسارعة، وكأن بغداد كانت على موعدٍ لتقف على أبوابها  في اليوم الثامن عشر مِن كانون الأول لعام 1055م القبائل التركمانية بقيادة زعيمها”طغرل بك”، فما كان مِن البساسيري قائد بغداد التركي المُعَيَّن مِن البُوَيهيين إلا مغادرة بغداد دون التصدّي للغزاة الجُدُد.

 

58 – البطريرك يوحنا السابع بن الطرغال 1049-1057م

وكما ذكرنا مراراً فكلما قامت الفتنُ في البلاد كان المسيحيون يُعانون مِنها وتُصيبهم الأضرارُ من جرّائها، ففي عهد البطريرك يوحنا السابع بن الطرغال 1049 – 1057م تفاقمت الإضطرابات وسادت الفوضى بين أوساط مُختلف الفئات المسلمة بسبب تعاظم نفوذ السلاجقة، حيث ثار المُرتزقة الأتراك عام 1054م مطالبين بدفع اجورهم المتأخرة، وشرعوا بسلبِ المدينة ونهبها، وكانت دارالروم ومقر البطريركية والكنيسة بالإضافة الى دارأبي الحسن عـبيد وزير البساسيري مِن ضمن الأماكن التي طالها السلبُ والنهب. ويقول ماري (المجدل ص 118 – 120) بأنَّ أبا الحسن وبالتعاون مع أبي الفضل بن بهانش استاذ دار أبي الحسن  ورؤساء شُعـَب دار الروم قاموا وعلى نفقـتهم بإصلاح الأضرار التي حدثت للقلاية والكنيسة. إلا أنَّ هذه الأماكن المذكورة تعرَّضت ثانية ً للسلبِ والنهب عام 1055م خلال الفوضى التي أُثيرت ضِدَّ قدوم طغرل بك السلجوقي الى بغداد. ونظراً لإستمرار الإضطراب الغامر، رأى البطريرك السلامة في الرحيل عن المدينة فغادرها وذهب الى دير مارماري بدير قوني. إلا أنه لم يستقر هناك، حيث كانت ايرادات هذا الدير قد خُصصًت لأسقف المنطقة وأهالي البلدة. ومرة ً اخرى ضغط الإسلاميون مِن أجل فرض الشارات المُميَّزة على الذميين، فأسرع اليهودي إبن علي بن فضلان الى الخاتون زوجة طغرل بك التي يعمل أمين سِرِّها مُطلعاً إياها على الأمر وطالباً تدخُّلها لوقف الإجراءات المُجحفة البالية فلبَّت الطلب ولم تُنفذ. ثمَّ تمكَّنَ البطريرك يوحنا السابع مِن العودة الى بغداد، وسكن دارالروم التي كانت قد رُمِّمَت. إلا أنَّ المرضَ داهمه بعد رجوعه بسنة وبضعة أشهر وتُوفي في عام 1057م وصادف ذلك الأحد السادس مِن سابوع الصيف، وجرى دفنُه في كنيسة دارالروم .

لدى وفاة البطريرك يوحنا السابع بن الطرغال، شغرَالكرسي البطريركي مدة طويلة، وتكرَّرت في هذه الفترة الدعوة ُ بتحريضٍ مِن علماء المسلمين لفرض الشارات المُمَيَّزة على أهل الذمة، ولكنَّ المُحاولة رفضها الخليفة ُوالسلطان وكذلك الرئاسات الإسلامية، أما اعتناق بعض المسيحيين للدين الإسلامي فما كان يحصل بسبب هذه الإجراءات التعسفية البالية، ولا اقتناعاً به وإنما اتَّخذوها غِطاءً ليُخفون تحته غاياتهم الحقيقية ومِنها: الربح المادي، الحياة المُرفهة ، تجنب القتل بالسيف، وهذه الغايات لم تنطلي على الأذكياء. وقد عدَّدها الشاعر الكبير “أبو العلاء المعري” في إحدى قصائده و هذا بعضٌ مِما قاله: <إذا اعتنقَ المسيحيُّ الإسلامَ،  فذلك في سبيل الرُّبح وليس حُبّاً  بالإسلام.  وهو إنَّما بذلك يهدف الى حياةٍ محترمة أو تجنُّباً لحدِّ السيف، أولأنَّه يروم الزواج مِن ظبيةٍ تجتذب الأنظارَ بأساورها وحِنّاها…>.

 

59 – البطريرك سبريشوع الثالث زنبور 1064-1072م

بعد وفاة البطريرك يوحنا السابع إبن الطرغال عام 1057م وشغور الكرسي البطريركي عدة سنوات، انتُخب سبريشوع الثالث زنبور 1064-1072م، وشارك في انتخابه مطران نصيبين عبديشوع بن العريض مدعواً من قبل سبريشوع نفسه الذي بذلك أنهى الحظر المفروض على مطارنة نصيبين من المُشاركة في انتخاب البطريرك وحضور المجمع الإنتخابي منذ عهد برصوما مطرانها الشهير في القرن الخامس، وجاءت دعوة سبريشوع لمطران نصيبين عبديشوع بن العريض رغبة ً مِنه في إظهار التقدير والتقرُّب اليه حيث كان يتمتع بشخصيةٍ قوية ونفوذٍ ملحوظ. وفي هذا الوقت كان مجيء السلاجقة أحد عوامل قيام الفوضى في البلاد وعانت مِنها الكنيسة أيضاً، إذ لم تخلُ مِن تجاوزاتٍ تُمارسُ بحق مؤمنيها وممتلكاتهم على مّرِّ الزمن،  ومِنها على سبيل المثال ما ذكره إبن الجوزي في (المنتظم في تاريخ الملوك والامم 5 ص 245 – 246حيث يقول عندما أرادوا تشييدَ قبةٍ جديدة لضريح أبي حنيفة في بغداد عام 1067م <انتزعوا خشبَه وأبوابَه الكبيرة بظلم ٍ وجاؤوا بها مِن إحدى الكنائس في سامراء> وهذا مِما لا شكَّ فيه، فإنَّ الكنائس كانت موجودة في سامراء على عهد الخليفة المتوكل يُديرها عددٌ مِن الكهنة والشمامسة، وقد سكن البطريرك مدة في سامراء.

 

يروي ماري في (المجدل ص 125) بأن نزاعاً وقع عام 1069م بين النساطرة والمونوفزيين اليعاقبة في بغداد، ومفاده كما ذكره باختصار <خلافاً للعادة الجارية بين المذهبَين، لقد أعطى الطبيب النسطوري أبوغالب إبنتَه لإبن أبي طاهر البلدي اليعقوبي. ولدى احتجاج البطريرك على هذا الأمر، أجابَه زعيمُ اليعاقبة أي”كاهنهم” <نحن رئيسَين لشعبَين وبيعتَين وهذا يعني أنَّ كلاًّ مِنا حُرُّ التصرُّف في شؤونه الخاصة>. ثمَّ أضاف قائلاً: <إذا كان متعدِّياً في ذلك وأخذ ما ليس له بحق،  والذي حمله على ذلك جهلُه وسوءُ طباعه، وتأثير رجل تكريتي مِن المذهب القورلسي أي “الملكي” ويُضيف ماري في الموضع ذاته بقوله: <إلا أنَّ البطريرك طالب باعتذار رسمي. وفي سبيل الحصول على ذلك، أمر مؤمنيه بالقيام بإضرابٍ عام: لا يقصُدُ كاتبٌ ديوانَه، ولا طبيبٌ بيمارستانَه ، ولا تاجرٌ دكّانَه… بُغية دفع السلطات الحاكمة الى أخذ إجراءٍ صارم ٍ بحق اليعاقبة. ثمَّ رشق البطريركُ بالحرم والدَ الصبية أبا غالب. وبلغ الأمرُ الى الخليفة القائم، وأبرز النساطرة المرسوم الذي منحه الخليفة المقتدر سنة 913 للبطريرك ابراهيم الثالث، وذلك الذي منحه الخليفة القادر للبطريرك يوحنا “يوانيس” الخامس بن عـيسى سنة 1003/ 1004. فأمرَالقائم بمنح سبريشوع مرسوماً مُماثلاً يقضي بفرض سلطة البطريرك النسطوري على اليعاقبة والملكيين وهذا نصُّه كما ورد في كتاب (ذخيرة الأذهان ج1 ص 459) <أقامكَ أميرُ المؤمنين للمسيحيين القاطنين في كُلِّ البلاد رئيساً للمسيحيين مِن مُختلف الطوائف حتى الذين يأتون الى البلاد>. واقتضى الأمر بأن يحضر المُحرِّض التكريتي مع جماعة اليعاقبة الى القلاية البطريركية ويُقدِّموا اعتذارهم أمام البطريرك ووجهاء الكنيسة النسطورية. أما الكاهن اليعقوبي هبة المسمى توما فقد أمضى الليلة تحت حراسةٍ مشدَّدة في كنيسة مارماري في دارالروم، وفي اليوم التالي قبل البطريرك اعتذاره. ولدى عودته مِن دار البطريركية في طريق رجوعه الى البيت، اعترضه رجال ايتكين السليماني شحنة بغداد وأودعوه السجن. إلا أنَّ البـطريرك النسطوري توسط له لدى ايتكين فأطلِق سراحُه>.

وفي نفس العام الذي حدث هذا الخلاف بين النساطرة واليعاقبة الذي سردناه كما رواه المؤرخ ماري بن سليمان، أثار المسلمون موجة ً مِن الغضب والإعتداء على المسيحيين، فـقاموا بسلب ونهب مجموعة مِن الدور، ومِن جرّاء أعمال الشغب هذه تعرَّض البطريرك سبريشوع لحادث اعتداء نجا مِنه باعجوبة. وعلى اثر ذلك إنتابته نوبة شلل لازمته مدة شهرين، ولكنَّها عاودته ثانية وكانت أشدَّ وطأة ً جعلته طريح الفراش حتى وافاه الأجل في 17/ 4/ 1072م. ودُفن في كنيسة السيدة بدارالروم الى جانب سلفه البطريرك يوحنا السابع إبن الطرغال.

 

60 – البطريرك عبديشوع الثاني بن العريض 1075-1090م

بعد وفاة سبريشوع الثالث زنبور، وقع إجماع المطارنة والأساقفة لإنتخاب خلفٍ له على عبديشوع مطران نصيبين، فتمَّت رسامتُه بالمدائن في كانون الثاني لعام 1075م باسم عبديشوع الثاني بن العريض، وبعد الرسامة جاء الى بغداد، وعلى غِرار سلفيه منحه الخليفة القائم بمر الله مرسوماً يقضي بخضوع المونوفيزيين اليعاقبة والملكيين الى سُلطته. لقد أورد ماري في (المجدل ص133 – 137) نَصَّ العهدُ الممنوح مِن الخليفة القائم للبطريرك عبديشوع بن العريض في الواحد والعشرين مِن تشرين الثاني لعام 1074م. وفي كتابه (صبح الأعشى ج10 ص 492) صَحَّحَ القلقشندي بعض الأخطاء في النص الذي أورده ماري. أما صليبا في (المجدل ص 101) فيصف عبديشوع بن العريض بقوله: <كان شيخاً حَسَنَ الخُلق والخِلقة، وعالِماً، وإنَّه رسم مكّيخا اسقف الطيرهان مطراناً على الموصل خلفاً ليهبَلاها المتوفى> كما أمر بتلاوة الصلاة الربية في بداية كُلِّ الصلوات الطقسية ولا زال معـمولاً بها حتى يومنا هذا. في عهده تمَّ بناء جسر الموصل، كما أنهِيَ  خضوع الموصل لحكم الأمير سعد الدولة وألحِقت بسلطة الأمير أقسنقر، وتُوفي البطريرك عبديشوع الثاني بن العريض في الثاني مِن كانون الثاني عام 1090م ودفن في كنيسة الكُرسي بدارالروم.

 

تولَّى الخلافة بعد وفاة الخليفة القائم بأمر الله حفيدُه ابو القاسم عبدالله بن محمد، واتخذ اللقب الذي اختاره له جدُّه وهو المُقتدي بأمر الله 1057-1094م، وحيث كان الخلفاء مُنتزعي حقِّ الحلِّ والربط إذ كان هذا الحق يُمارسه الأمراء السلاجقة، فإن الحاكم الفعلي على عهد المقتدي كان الأمير “ملكشاه السلجوقي” حتى أنَّه أطلق على نفسه لقب “سيد لعرب والفرس”. بعد وفاة ملكشاه خلفه إبنُه “بركياروق” عام 1092م ولقِّب بـ”ركن الدولة”. يروي المؤرخ ماري في (المجدل ص 132) بأنَّ اضطراباتٍ داخلية حدثت بين فئاتٍ مُسلمة في عامي 1077 – 1078م أيام ملكشاه السلجوقي، وكاالعادة أصاب المسيحيين سوءٌ مِن جرّائها في سوق الثلاثاء، وعن أحداثها قال ماري <بُنيَ مسجدٌ بعمر واسط> أما السيوطى (تاريخ الخلفاء ص 423) فيتحدَّث عن الأزمة المؤلمة والمستديمة التي تفجَّرت في عام1091م <بعد وفاة البطريرك عبديشوع الثاني بن العريض، عاد المتزمتون مِن المسلمين يُطالبون بأن يحمل المسيحيون الشارات المُمَيَّزة، ولم تكن هذه الأزمة وليدة يومها، بل كانت بوادرها قد لاحت منذ عام 1085م ضِدَّ اليهود أولاً، ثمَّ ضِدَّ المسيحيين أثناء حملةٍ تزمتية أُثيرَت في عهد المُقتدي تَمّ فيها نفي المغنيات والخوطي في بغداد، وأمر ألا يدخل أحد الحمّام إلا بمئزر، وخرَّب أبراج الحمام صيانة لحروم الناس>.

يقول حبيب الزيات (الصليب في الإسلام ص 6) في عام 1089م اضطرَّ الخليفة المقتدي بأمرالله لإستدعاء عربٍ مِن الحلة لإخماد الإضطرابات التي استجدَّت بين السنة والشيعة في بغداد. وفي عام 1091م انتهى وزير حاكم بغداد “ملكشاه” المدعو نظام المُلك والمُلقب بـ “أتابك” مِن تأليف كتابٍ لسيده أسماه “سياسة نامه” ويعني “سير الملوك” فيه يُلقي اللومَ على الملوك والحُكّام الذين يستخدمون في بَلاطهم مسيحيين أو يهوداً أو مجوساً. وفي العام ذاته أصدر الخليفة بناءً الى طلب الوزير الفارسي أبي شجاع مرسوماً يقـضي بإعادة فرض الشارات المُمَيَّزة على المسيحيين واليهود في بغداد، ولم تُفلح أرجوان امُّ الخليفة الأرمنية الأصل في منع تنفيذ هذا المرسوم المشؤوم، الذي استمرَّ نافذ المفعول لمدة أربعة عشر عاماً أي حتى عام 1105م.

 

وفي كُلِّ مَدٍّ لهيجان المتزمِّتين المُسلمين وتطاحُن فئاتهم فيما بينها، ينقلب سخطُهم بالتالي وبالاً على المسيحيين، فيُطالبون بفرض القيود الصارمة والقوانين العمرية التعسفية على أهل الذمة أي المسيحيين واليهود، وهو إجراء إذلالي تعويضي عن استخدام السيف، ينوءُ تحت ثقله رُخاة الإيمان فيتحوَّلون الى الإسلام تخلُّصاً مِن الحالة المُهـينة وحفاظاً على مصالحهم أو مراكزهم الرفيعة في الدولة. وأشهر الذين اعتنقوا الإسلام مِن المسيحيين درءاً لعدم الخضوع لهذه الإجراءات وصونا لمراكزهم هما شخصان مِن اسرةٍ مسيحية شهيرة  تُعرَف “بعائلة موصلايا” كان كُلٌّ مِنهما يشغل وظيفة مرموقة. وقد توصَّلَ أحدهما بعد إسلامِه الى منصب “أمين الدولة” وأوصى بأمواله بعد موته للمشاريع الخيرية الإسلامية، لأنه كان يعلم بأن اسرته ظلَّت متمسكة بمسيحيتها ولا يُمكنها أن ترثه. أما الشخص الثاني فكان أبا نصر هبة الله إبن أخت الأول وقد مُنحَ بعد إسلامِه لقب “تاج الرؤساء”. يروي المؤرخون (إبن العبري/ تاريخ مختصر الدول ص338 ــ إبن الكازرني  في مختصر الدول ص212 ــ السيوطي / تاريخ الخلفاء ص 426) بأن موت الخليفة المقتدي بأمرالله تّمَّ بصورةٍ مُفاجئة، حيث إنَّه بينما كان يأكُل ديكاً مشوياً سقط ميتاً، وعُزي الأمرُ بأنَّ جاريته شمس النهار هي التي وضعت له السُمَّ في الأكل، وقد يكون “بركباروق” بن ملكشاه هو الذي دفعها لفعل ذلك.

 

61 – البطريرك مكيخا الأول 1092- 1110م

وكما سبق القول بأنَ الأوضاعَ تردَّت كثيراً في بغداد إثرَ وفاة مارعبديشوع البطريرك، وغدا مِن الصعب على الأباء القيامَ بانتخاب بطريرك جديد، فظلَّ الكرسيُّ البطريركي شاغراً بحدود سنتين الى أن عاد الهدوءُ نسبياً، فتحرَّكَ الآباءُ لكي ينتخبوا رئيساً للكنيسة. فيقول ماري في (المجدل ص 142) بأن الإختيار وقع على مكيخا مطران الموصل  وبتأثير مِن أبي الفرج سعيد بن ابراهيم الواسطي الذي كان في ذات الوقت كاهناً وراهباً وطبيباً للسلطان السلجوقي”الب ارسلان ملكشاه” ومُتنفذٍ آخر يُسمّى أبا الـفرج بن التلميذ. وكان أبونصر هبة الله مِن عائلةٍ موصلية قبل أن يعتنق الإسلامَ هو وخاله، قد استحصل مرسوماً مِن الخليفة المقتدي بأمرالله عام 1092 م للبطريرك مكيخا، وهو الذي نظمه بنفسه .

كان البطريرك مكيخا الأول قديساً، حيث يروي ماري في (المجدل ص 138 – 141) عدداً مِن المُعجزات التي أجراها الله على يده. ولكنَّ أهواء المتنفذين مِن المسيحيين في كُلِّ مراحل تاريخ الكنيسة المشرقية لم تتقيَّد بحدود معيَّنة لتدخلاتهم في الشؤون الكنسية منذ العهد الفارسي فالأموي والعـباسي. فها هو الخلاف ينشب بين إبن الواسطي والبطريرك مكيخا. كانت بدايتُه حول امورلها علاقة بالإدارة، ثمَّ تطوَّرت تدريجياً حتى وصلت الى نقطة القطيعة بين الرجلَين. والسبب أنَّ البطريرك ألغى تلاوة الصلاة الربية “أبانا” بين كُلِّ صلاتَين كما كان قد أمر بها سلفُه، فعارض إبنُ الواسطي هذا الإجراء ورفضه. فرشقه البطريرك بالحرم وحظر عليه الخدمة في كنيسة سوق الثلاثاء. فاضطرَّ إبنُ الواسطي للإنسحاب الى كنيسة العتيقة وهي بمنطقة إقامة اسرته. ولما كان إبنُ الواسطي وقتذاك طبيباً للخليفة المستظهر، تدخَّلَ البَلاط ُ لحَلِّ الإشكال لنصرة الطبيب. فجرى استدعاءُ البطريرك واحتُجزَ في دار بدران فيهروز القريبة مِن البلاط، ومكث فيها مدة بصحبة أحد تلاميذه. ثمَّ أُخذ البطريرك لمقابلة الوزيرعميد الدولة ودار بينهما الحوار التالي:

 

عميد الدولة: لا يجوز لكَ أن تُعاكسَ أمير المؤمنين، ولا أن تُغضبَ طبيبَه.

البطريرك: لا يجوز له أن يُثيرَغضبي ويُعاكسني في ما أعمل، فأنا الذي يأمر وهو الذي يُطيع.

العميد مُغتاظاً: إن لم تقبل وجهة نظره، فلا موضع لك َ في بلادنا.  وكان يقصد بقوله إبعاده الى بلاد الروم أعدائهم.

البطريرك بجرأة: حتى إن غادرتُ بلادَكم، فما أربطه أوأحلُّه يبقى نافذاً. فإني لم أتلقَّ سُلطتي مِن المرسوم الذي منحتموني إياه، بل مِن السماء. وإن كان حُكمُكم يمتدُّ الى مئتَي فرسخ ٍ، فإنَّ حُكمي يمتدُّ مِن المشرق الى المغرب. وقريباً كُنتُ أم بعيداً، فليس بوسع هذا المُتمَرِّد أن يُصَلّي دون أن يذكرَ اسمي.

 

ونقل عميد الدولة الى الخليفة ما دار بينه وبين البطريرك مِن الحِوار بحذافيره.  يقول الأب فيِّيه في (المسيحيون السريان في عهد العباسيين ص 224 – 225) ولكي يتأكَّدَ الخليفة مِن صحة ما دار مِن الحِوار، إستدعى إبنَ الواسطي وقال له: إذاً حينما تُصلّي، تذكر في صلاتك اسم البطريرك؟ أجاب: “نعـم” فقال له الخليفة: ألا يُمكنُكَ أن تُخالف ذلك؟ أجاب “كلا” إذ ذاك صرف الخليفة طبيبَه قائلاً له: لماذا نتدخلُ بشؤونكم إن كُنتَ لا تستطيع أن تعصيَ أمرَه! فرجع البطريرك الى قلايته في دارالروم مُنتصراً. أما أبو الفرج بن الواسطي فعاد الى كنيسة العـتيقة يُمارس خِدمتَه لأتباعه خِلافاً لإرادة البطريرك. ويقول ماري في (المجدل ص 142) بعد فترةٍ قام الوزير عميد الدولة بجمع إبن الواسطي بالبطريرك في ديوانه، وأمر إبنَ الواسطي بالقيام وتقبيل يد البطريرك. ومِن جهته اعتبر البطريرك هذا الإعتذار كافياً ليرفع الحرمَ عن إبن الواسطي. بيد أن الأخير لم يحضر احتفال عيد كنيسة العتيقة الواقع في منتصف الصوم الكبير والذي ترأسه البطريرك. وصادف أن التقى الرجلان في جنازة أحد أعيان المسيحيين، واضطرَّ إبن الواسطي ثانية ً لتقبيل يد البطريرك، لكنه انسحب مِن بين الجمهور. وفي النهاية عاد الى خدمته الكنسية في كنيسة سوق الثلاثاء.

 

وعلى إثر خلافٍ نشب بين البطريرك مكيخا وبعضٍ مِن أبناء رعيته، غادر البطريرك بغداد اضطراراً وقصد الحلة مدينة الأمير الغساني صدقة المُلقب بسيف الدولة لاجئاً. ووصلت الوقاحة ُ ببعض المُعارضين للبطريرك الى حدِّ استدعاء ايشوعياب مطران نصيبين وإقامته بطريركاً لهم. وفيما كان البطريرك مكيخا لا يزال في طريقه الى الحلة ولدى بلوغه المدائن، اختلى وصلى هناك. وما إن أنهى صلاته، حتى نهض وقال للحاضرين: <لقد عملتُ اللازم، فقد مات الرجل> أي مطران نصيبين الذي كان في طريقه الى بغداد تلبية ً لطلب المُعارضين، إذ لدى بلوغه ديرمارميخائيل القريب مِن الموصل، داهمه الموتُ هناك بغتةً. وهنالك في الحلة انتفض ضِدَّه شخص يُسمَّى إبن حبشي وأفلح في إبعاده عن الحلّة، فقصد البطريرك الى النيل. أما الرجل الجاني إبن حبشي فعاقبه الله بدمار بيته. وبعد أن أمضى مارمكيخا فترة ً في النيل، رجع الى مقرِّه في بغداد، وتلاشت بعد ذلك كبرياء المناوئين لسُلطته خشية تعرضهم للعقاب الإلهي.

 

لقد عَنَّ لإبن الواسطي انتهاز فرصة الأحداث التي جرت في تلك الأثناء فتقدَّمَ بالتماسٍ الى المُستظهر وليِّ عهد الخليفة بشأن رفع القيود المُجحِفة بحق المسيحيين. وقد خصَّصَ المؤرخ ماري صفحة كاملة (المجدل ص 144) في مدح الخصال المثلى لإبن الواسطي مُطرياً غيرته الشديدة على ارثوذكسية “استقامة” كنيسته النسطورية ضِدَّ الذين وصفهم بفرق المباينة واليعقوبية والمارونية، واصفاً إياه بـ”معجزة زمانه”. (ربما خطأً ورد ذكر المارونية عوضاً عن الملكية التي كان أتباعها يتواجدون في بغداد وليس أتباع المارونية). وعندما أصبح مجد الدين بن المُطلب وزيراً للخليفة المستظهر، بادر الى استخدام الكثير مِن أهل الذمة في إدارته وفي هذا الخصوص يقول إبن الأثير في (الكامل في التاريخ10 ص 202) أُتهمَ  مجدُ الدين بن المُطلب وزير الخليفة باستخدام العديد مِن الذمِّيين في إدارته، فأُقيل فترة ً ثمَّ أعيد الى منصبه شرط َ أن لا يعود الى أخطائه من حيث “المظالم وسوء السيرة واستخدام الذميين”.

 

يتحدَّث بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج1 ص 461 – 462) عَن البطريرك مكيخا الأول، بأنه كان قديساً تميَّز بالعِفة والفضيلة، يُجيد الخطابة باللغة العربية ويوعِظ بها بعد قراءة الإنجيل. كتبَ مقالاتٍ عديدة أشهرها المقالة بخصوص التجسُّد، أيَّد تِلاوة الصلاة في بداية الصلاة الطقسية وليس بين كُلِّ صلاةٍ وأخرى، أدخل ترتيباً على الصلوات الطقسية.

يقول صليبا في (المجدل ص 102) <بأن البطريرك مكيخا الأول أصدر رسالة ً فائقة مُختصرة، أوضح فيها الأمانة الصحيحة التي يعتقدها المشارقة. ويُضيف صليبا بأنه دبَّرَ تدبيراً معتدلاً> أما ماري فيقول (المجدل ص 147) <ما عُرفَ له أمرٌ يُكرَه لا في صباه ولا في رهبنته>. والمستغرب جداً هو أنَّ لا ماري ولا صليبا أتيا الى ذكر ظروف وفاة البطريرك إلا بايجاز شديد وهو: <أنَّه تُوفي في السابع عشر مِن آذار عام 1109م ودُفن في دارالروم ببيعة السيدة في الباصلوث الأيمَن “بيت الصلاة”.

بعد وفاة الخليفة المقتدي بأمر الله خلفه إبنُه أبو العباس متخذاً لقب ” المستظهر بالله1094-1118م “

وهو إبن الستة عشر ربيعاً. يصفه إبنُ الأثير (الكامل في التاريخ ج10 ص 202) <بكونه كريم الخُلق وغزيرَ الفضل وواسع العِلم، لكنَّه يُضيفُ قائلاً: <لم تَصفُ له الخلافة، بل كانت أيامُه مضطربة كثيرة الحروب> ويستطرد في القول: <كان الخليفة تحت رعاية السُلطان “بركياروق” السلجوقي ووزيره عِزِّ المُلك بن نظام المُلك. يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 427) <في عام 1098م وهو العام الرابع لخلافة المستظهر. احتلَّ الإفرنج مدينة أنطاكيا، وتبعها استـيلاؤهم على مدينة القدس في تموز لعام 1099م بعد حصار طال شهراً ونصف، وأنهم اقترفوا أبشع أنواع السلب والنهب، وقتلوا أكثر مِن سبعين الفاً،  بينهم جماعة مِن العلماء والعبّاد والزهّاد، وهدموا المشاهد، وجمعوا اليهود في الكنيست وأحرقوها عليهم، وورد المُستنفرون الى بغداد ، فأوردوا كلاماً يُبكي العيون “. والى الجزء الواحد والعشرين قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 14/4/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *