الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن / الجزء الثامن عشر

 

 

20 – الخليفة الطائع لله 974 – 991 م

يتحدَّث السيوطي عن الطائع في (تاريخ الخلفاء ص 405) قائلاً: <إنَّه أبو بكر عبد الكريم بن المطيع واسم أُمّه”هزار”. وبتولّي الطائع الخلافة أحكمَ الأتراكُ بزعامة سوبكتكين سيطرتهم على الوضع، وتراجع نفوذ الديلميين. وخلع الطائعُ على سوبكتكين خلع السلطنة وعقد له اللواء وأضفى عليه لقب”نصر الدولة” إلا أنَّ العمر لم يمتد به طويلاً بعد موت المطيع. وتسلَّمَ موقعَه تركيٌّ آخر هو “أفتيكين الشرابي” وتزامنَ بدءُ عهد أفـتيكين مع بروز قائدٍ بُوَيهي كانت منطقتا فارس وكرمان تحت حُكمه هو “عضد الدولة فناخسرو” حيث دخل بغداد في 30 /1 / 975م. وفور دخوله نشب قتال بينه وبين البُويهي الآخر عزالدولة بختيار. وكان لنتيجة هذا الإقتتال أن اضطرَّ عزالدولة لتسليم وزيره إبن بقية الى عضد الدولة بعد سَمْل عينيه، ورُمي الوزيرُ تحت أقدام الفِيَلة، وبعد ذلك تمَّ صلبُه على ساحل دجلة. وانتهت المُجابهة بين الأميرَين البُوَيهيين بختيار وفناخسرو.

بيدَ أنَّ عضد الدولة فناخسرو عادَ ثانية ًعلى رأس جيشه الى بغداد، وخلع عليه الخليفة لقباً إضافياً هو”تاج المِلـَّة” وتجدَّدت الحربُ بين البُوَيهييين ولم تنتهِ إلا في عام 978م بعد آخر معركة عاصفة وحاسمة دارت رحاها بالقرب مِن قصر الجص في سامراء لقي فيها بختيارُ مصرعَه. ويذكرُ إبن الأثير في (الكامل في التاريخ 8 ص 669 – 691) أسماء كُتّابٍ مسيحيين في هذا العهد ومِن بينهم: أبو زكريا الذي وافاه الأجلُ قبل الربّان يوسف بوسنايا، وأخوه عبد المسيح الذي كان مشلولَ اليد وأبرأَها القديسُ بوسنايا وآخرون. وكانت أحوال هؤلاء الكُتّاب في خضمِّ هذه الإضطرابات والإقتتال تتأرجح بين العُسر واليُسر تبعاً لأهواء الحكّام والأمراء، وبالرغم مِن هذه الفترة العصيبة التي كانت تَمرُّ بالبلاد، فقد كان الأميرُ فخر الدولة البُوَيهي إبن ركن الدولة يجمع حوله كُتّاباً مسيحيين كثيرين ومِنهم أبوعبيد، وأبو عمروأبو طيِّب… ويُشير (تاريخ يوسف بوسنايا / ترجمة القس يوحنان جولاغ الى العربية ص 55- 56) الى وقوع أحداثٍ مؤلمة في مناطق البلاد الشمالية، وأقساها تلك التي حدثت بعد وفاة الربان يوسف بوسنايا عام 979م حيث هجم الأكرادُ واقتحموا الأديُرة والقرى المسيحية وعملوا فيها قتلاً وسلباً وتدميراً.

في قدومه الى بغداد رافقَ عضدَ الدولة عددٌ مِن مسيحيي شيراز، أبرزهم أبو منصور نصر بن هارون الحائز على ثقة عضد الدولة، فقد أسند إليه منصب وزير بغير لقب، وحين عودته الثانية الى بغداد، أقامه نائباً له في شيراز. وقد سمح له عام 978م  بتجديد الكنائس المُهدَّمة، ويقول المؤرخ ماري (المجدل ص 105) ولدى شغور كرسي مطرانية فارس، اختار لهذا المنصب رئيس دير مارميخائيل القريب مِن الموصل “ماري بن طوبي” (البطريرك لاحقاً) وقد رسمه مطراناً البطريركُ عبديشوع الأول، واحتفى الشيرازيون بالمطران الجديد حيث أقاموا على شرفه مأدبة كبيرة في بغداد، وأخرج له أبو علي بن مكيخا وهو موظف نسطوري كبير مِن خزانة عضد الدولة خلعة بيرون وثيابَ صوفٍ مصرية.

 

أما الطبيب والشاعر المسيحي أبو الحسن بن غسان البصري، فكان أحدَ أفراد حاشية عضد الدولة، أغرم بحب جارية غريبة ونتيجة هُيامه بها غرق بالقرب مِن بغداد، وفي عام 980م قام عضد الدولة بتأسيس مستشفى في بغداد بموضع بلاط الخلد المُشيَّد عام 786م على ضفة دجلة شرقي المدينة المُدوَّرة مِن قبل هارون الرشيد، وأطلق عليه اسم”العضدية” نسبة الى لقبه. ويقول إبن أبي اُصيبعة (عيون الأنباء . . . ص 321 – 322) أشرف عليه وعمل فيه أطباءٌ مسيحيون كثيرون مِنهم:

 

> أبو الحسن كُشكُرايا ــ  تلميذ سنان بن ثابت بن قره المتوفي 943 م ــ  ترك الخدمة لدى سيف الدولة الحمداني والتحق بخدمة عضد الدولة، له تآليف في الطب، وعُرف بكونه مهذاراً.

> أبو يعقوب الأهوازي: أشار إليه بنفس الموضع .

> إبراهيم بن بكس وابنه علي: جاء ذكره في (الصفحة 329)

> علي بن عباس الذي جمع الكتاب الملكي: ذكره إبن العبري (التاريخ السرياني ص 195)

> عيسى أبو سهل المسيحي بن يحيى الجرجاني: مِن خراسان (المصدر السابق)

> جبريل بن عُبَيد الله بن بختيشوع: الذي تتلمذ على أيدي هرمز وابن يوسف الواسطي. عمل في مستشفى العضدية وكان يحظى بثقة عضد الدولة، أوفده تباعاً كسفير له الى صاحب بن عبّاد وزير”ري” والى خسروشاه أمير ديلم والى الخليفة الفاطمي العزيز بالله في مصر. وعقب هذه الأسفار التي قام بها جبريل، دعاه عام  1000م سعيد بن مروان الملقب بـ”ممهد الدولة” أميرالدولة الدوستكية في ميافرقين، وكان آنذاك في عمر الثمانين، وتوفي هناك بعد خدمة سنتين أو ست سنوات كما يقول البعض. ونال خلال خدماته الطويلة هِبات وعطايا طائلة أسبغها عليه الملوك والأمراء. ولعلَّ تركيز المسيحيين على العِلم وممارسة مهنة الطب،  كان مُبرمجاً مِن قبلهم مسبقاً ليكون أحد العوامل المهمة في خدمة بني جنسهم لديمومة بقائهم، رغم كُلِّ التقلُّبات السياسية والضغوط العنصرية والدينية التي لاحقتهم وعانوا مِنها عبر السنين.

ويقول المؤرخون بأنَّ عضد الدولة أعاد الى بغداد خلال عهده قسطاً مِن طابعها الإنساني، الذي كان سائداً في عهد الخلفاء العباسيين الأولين. ولئِن كانت الليالي تزخر بسهرات اللهو والمجون، إلا أنَّ علية القوم مِن العلماء والفلاسفة لم تغب عن اللقاءات العِلمية في مجالسها ومناقشة مُختلف الشؤون الهامة. وكان بين هؤلاء عدد مِن الفلاسفة والعلماء المسيحيون أمثال يحيى بن عدي ونظيف بن يُمن وأبو الخير حسن بن سوار الملقب بـ”إبن الخمّار” وعيسى بن زرعة وآخرون… وتُوفي عضد الدولة أعظم “ملك الملوك” البُوَيهيين عام 983م، وبعد موته انعدم الإستقرارُ وتصاعدت موجة الإضطرابات وتدنَّت السياسة البُويهية كثيراً، واحتدم التنافسُ على السلطة بين أبناء عضد الدولة، فالإبن الكبير”شرف الدولة” شَنَّ حرباً على أخيه الأصغر”صمصام الدولة” وإذ لم يعلم الوزير المسيحي أبو منصور نصر بن هارون بموت عضد الدولة،  وقف بوجه شرف الدولة ليمنعه مِن الدخول الى البلاد،  فقبض عليه شرف الدولة في شيراز،  حيث يقول ماري في (المجدل ص 105) <وجرت امورٌ كثيرة عند استيلائه على المُلك أدَّت الى قتل نصر بن هارون بعد نهب الديلم دور جميع النصارى وقبض الوقوف> وحاول الميطرابوليط ماري بن طوبي إسترداد الأسلاب، إلا أنَّه لم يُفلح، فطلب من البطريرك عبديشوع أن يأذن له بالعودة الى بلده الموصل، لكنَّ الأخير رفض طلبه ولم يقبل استقالته. وعندها عزم المطران ماري على الدفاع عن قضيته، فقرَّرَ أن يرافق شرف الدولة في طريقه الى بغداد لمحاربة أخيه صمصام الدولة، وكان ماري على معرفةٍ جيدةٍ بشرف الدولة وتربطه به علاقة حسنة.

 

ولما وصل المطران ماري الى خوزستان”الأهواز” وجدَ”ديلم” مطران جنديسابور في محنةٍ شديدة، لأنَّ كنيسته أيضاَ قد طالتها أيدي الناهبين. فرأى ماري أن يبقى الى جانب ديلم مدة ليشدَّ مِن مسعاه لإسترجاع ما يُمكن استرجاعه مِن منهوبات الكنيسة، وبالفعل استطاع ميرابوليط جنديسابورأن يستعيد قسماً مِن الأموال، لكون المدينة كانت قد أعلنت خضوعها لسلطة شرف الدولة قبل وصوله إليها. ثم واصل ماري سفرَه بحراً الى البصرة التي كانت قد وقعت بأيدي شرف الدولة، مصطحباً معه سرّاً ديلم مطران جنديسابور. ولما أُبلغ َ شرف الدولة بوفاة البطريرك عبديشوع كان المطران قد وصل البصرة.

 

53- البطريرك ماري بن طوبي 987 – 999 م

يتحدّث المؤرخون (إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 ص 256 – 262 ــ في المجدل ماري ص 104 – 110 وصليبا ص 94 – 95) كان ماري واحداً مِن أبناء الكُتّاب والرؤساء الموصليين، بعد تلقيه علومَه تنقَّلَ في دواوين الدولة. عمل كاتباً لفاطمة الكُردية إبنة أحمد وزوجة الأمير ناصرالدولة الحمداني وام الأمير أبي تغـلب. وحين إتَّـفقت مع أبنائها للإيقاع بزوجها، وقبضت عليه وزَجَّته في السجن، حلَّ الإضطرابُ في صفوف الحمدانيين، ففضَّل ماري الإنسحابَ والإعـتزال عن العالَم، فدخل الى دير مارايليا بالموصل “دير سعيد” ولم يـلبث أن أصبحَ رئيساً للدير، وبعد وفاة مطران فارس رسمه البطريرك عبديشوع الأول مطراناً خلفاً للمطران الراحل كما مَرَّ القول .

 

وحالَ سماع شرف الدولة بوفاة مارعبديشوع البطريرك، طلب الإجتماع بمسيحيي حاشيته وفي مقدمتهم أبو الفرج وعبدالله أخو طازاد وقال لهم: لِمَ لا يُصبحُ الاسقف الذي معنا هو البطريرك؟> فلم يكن مِن المسيحيين إلا تقبيل الأرض أمامه مِن فرط  سرورهـم، لأن نزاعاً كان قد حدث بين ماري بـن طوبي بحسب قول عَمرو (المجـدل ص 94) وبين جرجيس مطران الموصل حول الرئاسة. وأمر شرف الدولة بكتابة مرسوم بهذا الخصوص لماري بن طوبي. وتوجَّه البطريرك المُعـيَّن بواسطة زوارق شرف الـدولة الى بغداد. يقول إبن العـبري(التاريخ السرياني ص 196) بأنَّ معركة ً طاحنة دارت رحاها على مقربةٍ مِن بغداد بين الأخوَين شرف الدولة وصمصام الـدولة، كان النصرُ فيها لشرف الدولة فدخل بغداد.  وعُقدَ الصلحُ بين الأخوَين، على أن تكون بغداد تحت سُلطة صمصام الدولة وموقعه عن يمين عرش الخليفة، أما اسم شرف الدولة فيأتي في المقام الأول في الخُطب وعلى النقود. ويُضيف إبن العـبري <بأن هذا الإتفاق لم يدم طويلاً، حيث أفـلح شرفُ الدولة مِن الإنقلاب على أخيه وتنحيته وسَمْل عينيه>. وعقب استقرار الامور غادر ماري بن طوبي المُعيَّن للمنصب البطريركي ديرَمارفثيون المقرَّ الموقَّت لإقامته، وقصد دارالروم حيث كان ينتظره أربعة وعشرون مطراناً واسقـفاً، وهنالك سَلَّمَه الآباء المجـتمعون في مجمع ٍ مرسومَ الإنتخاب الصادرَ مِن شرف الدولة وهو يُظهر فيه رغبته في رسامة ماري بطريركاً، وتمَّت رسامتُه في العاشر مِن نيسان 987م . وبعد قيام البطريرك الجديد بزيارة الكنائس والأديُرة حسب التقليد المُتَّبَع، جرى استقباله في بَلاط الخليفة العبّاسي الطائع لله. وهنالك كُتِبَ له عهدٌ أو ما يُعرف   بالإقرار برئاسته.

قال عنه المؤرخ ماري (المجدل ص 107) <كان فيه رحمة وتواضع… ولم يكن له معرفة بالدين. وكان يُحبُّ المالَ والأثاث وجمعهما>. وفي عام 988م وهو العام الثاني لرسامة البطريرك ماري بن طوبي، صَنَّف محمد بن اسحق المعروف بـ”إبن النديم” كتاب الفهرست، أتى فيه الى ذِكر الفيلسوف والمنطقي المسيحي أبو الخير حسن بن سوار المُلقب بـ”إبن الخمّار” (كتاب الفهرست ص 305) ويصفه بالقول في (الصفحة 323 مِن الفهرست) <هو مِن أفاضل المنطقيين، مِمَّن قرأ على يحيى بن عدي، في نهاية الذكاء والفطنة>. وفي المصدر ذاته (الصفحة 151) يذكر إبن النديم مُعاصراً آخر له هو أبو الحسين اسحق بن يحيى بن سريج مؤلف كتاب “الخراج الكبير”. وتُذكرُ لشرف الدولة رعايتُه للعلماء. وعلى غِرار الخليفة المأمون أقام مرصداً مُعزَّزاً بكافة المُستلزمات، ويقول إبن العبري (التاريخ السرياني ص 196) وأُنيطت إدارة المرصد بأبي سهل يحيى الطواري. ولكنَّ شمس الدين أبا عبدالله محمد المقدسي كتب في كتاب  “أحسن التقاسيم” بأن بغداد التي عمَّها الإزدهارُ في السابق، أخذت الآن تتجه نحو الإنحسار نتيجة ً للفوضى المستشرية. ويقول السيوطي(تاريخ الدول ص 410) قد ازدادت الحالة سوءاً بعد موت شرف الدولة عام990م واستيلاء أخيه”بهاء الدولة” على زمام السُلطة في البلاد.

يقول ميخائيل اليعقوبي في (تاريخه3 ص 145 – 146) بأنَّ مساويءَ الحكم الجديد ظهرت بسرعة، حيث اضطرَّ بعضُ أثرياء اليعاقبة المونوفيزيين مِن سكّان تكريت ومنذ عام 990م للهجرة مِنها هرباً مِن تعسُّفِ الحُكّام .أما إبن العبري (التاريخ الكنسي ص 197) فيقول بأنَّ هؤلاء الهاربين مِن جَور الحكّام، تشتَّتوا في مناطق البلاد، ولكنهم كانوا حريصين على بناء الكنائس والأديُرة أينما حَلّوا، ويضرب مثلاً بأبناء أبي عمران الثلاثة الذين كانت محطة هجرتهـم “مَلطية” حيث شيَّدوا فيها كنائس، وأقاموا أديُرة للرجال واخرى للنساء، وفي كُلِّ يوم جمعة كانوا يُوزعون الإعانات للمحتاجين، وحدث أن أَسِرَ الأتراكُ شقيقَهـم الأكبر أبا سالم، فدفعَ فدية ً عن نفسه وعن جميع الأسرى البالغ عددُهم 15 الف اسير قدرها خمسة دنانـير عن كُلِّ فرد.

 

يذكر المؤرخون بأن أشخاصاً قساة ًظهروا على عهد بهاءالدولة، حيث يقول ماري (المجدل ص 108) كان مِن بين هؤلاء شخصٌ يُسمّى الكوكبي، كُلفَ في السابق بتربية بهاء الدولة، وأصبح في عهده مديراً لشؤون الجزية والضرائب، فأثقل كاهل المسيحيين كثيراً، واختلق خلافاً مع البطريرك حتى أنَّه اعتقله فترةً، والقى القبض على المطارنة والأساقفة، فتبدَّد الأهالي. وعندما عاد الناس الى الله أي رجعوا الى التوبة والصلاة، فاستجاب الله لدُعائهم وخلَّصهم مِن سطوة هذا الظالم. وكان الأتراك أيضاً قد ضاقوا ذرعاً مِن تصرُّفاته ونَوَوا على القبض عليه، لكنهم لم يُفلحوا لأنَّه كان بحماية بهاءالدولة، وأخيراً اضطرَّ الأخيرُ للتخلّي عنه تحت ضغط استياء الشعب العام. فيقول ماري (المجدل ص 108 – 109) <فسُقِيَ سُمّاً ولم يعمل فيه، وخُنِقَ ولم يمت، فأُخذ بالسيف، وكفى النصارى شَرَّه بتفضُّل الله وحَيل ماري السليح> وكان أحد أعوان الكوكبي المسمّى إبن البقال قد نزل الى دير قوني، وصار يعيث فيه فساداً، أساءَ الى الرهبان، فتشتَّتوا، ولكنَّه اعتقِلَ أخيراً واقتيدَ الى بغداد، وكان عقابُه القتل ورمي جثته في النهر. وقال المسيحيون بأنَّ شفاعة مار ماري كانت وراء الخلاص مِن هذا المُجرم، حيث ظهر القديس في الحلم لأبي بشر ماري بن جابر كاتب الحسن بن نصر صاحب البريد.

 

كان الله يُظهرُ مجدَه على أيدي البطريرك ماري بن طوبي، حيث يقول ماري (المجدل ص 109) بأنه أبرأَ الحسن بن مالك، وحرم راهباً سارقاً، لم يلبث أن تعرَّضَ بعد فترةٍ لعقاب قطع اليد. ومع ذلك لم ينجُ البطريرك مِن المُضايقات والمصائب العديدة أثناءهذه الفترات المُضطربة. مِمَّا اضطرَّته لمغادرة مقرِّه البطريركي الرسمي مرَّتَين والإنتقال للإقامة في ديرالأنبار، ومِن مَقرِّه في الدير كان يُدير شؤون الكنيسة ويُتابع أمورَ المؤمنين. يقول المؤرخ عمرو في (المجدل ص 94) بأنَّ ماري بن طوبي كان خشن الطبع، غيرعَميق في العِلم ولا مُلمٍّ بالفروض والطقوس، لكنَّه مُتَمَكن مِن تسيير الأمور الإدارية وذو درايةٍ بالنواحي الإقتصادية، وقد ذُهِلَ بعد تَسَلمِه الرئاسة إذ رأى خزانة القلاية البطريركية خاوية بالكامل، عِندها فكَرَ ملياً وراح يبحث عَن سُبل ٍ لجمع الأموال، وأفلحَ في مسعاه وحصل على أموال طائلة استخدمها بشراء أوقافٍ كثيرة مِثل البساتين والآراضي والأبنية. توفي ماري بن طوبي عام 1000 م ودفن في كنيسة دارالروم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                         وكُلَّما كان الروم يشنون حروباً على المناطق الشرقية الخاضعة للدولة الإسلامية كان المسلمون يقومون بأعمال فوضوية واضطهادية ضِدَّ المسيحيين. ومِمّا رواه عـبـديشوع مطـران مرو، بأنَّه ما إن بَلغ َالمُسلمين في خرسان خبرُ خروج الروم الى بلاد الإسلام، حتى قاموا باخراج تابوت مارايليا، واستماتوا في محاولة كسره وإحراقه، إلا أنَّهم فشلوا، فدفعهم الخوفُ لرَدِّه الى موضعِـهِ. ونتيجة ً لهذا الحادث ظلَّ أحد عواميد الكنيسة ينضح بسائل عَـطر.

 

وبحسب قول (السيوطي ص 410 – 411) وابن العبري (التاريخ السرياني ص 198) بأنَّ بهاء الدولة فَكرَ في عام 991م بالتخلُص مِن الخليفة الطائع، وكان لهذا الدافع سببان هما: الأول طمعاً بثروته والثاني اعتبارَه إيّاه رجلاً طاعناً في السن. إلا أنَّه فاتحَ بالأمر الدَيلميين واتّفقَ معهم على إرغامِه للتنازل عن الخلافة لصالح القادر بالله.

 

21 – الخليفة القادر بالله 991 – 1031م

يقول عنه السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 44) بأنَّه أبوالعباس أحمد بن اسحق بن المُقتدر، لقبَ نفسَه بـ “القادر بالله” كانت أُمُّه أَمَةً تُدعى “تمنّي” أو “دمنة” لم يستمر نفوذ بهاءالدولة على عهد الخليفة الجديد قوياً فحسب بل ازداد قوة ً وتأثيراً. حيث يقول (السيوطي ص 412) <بأن الوزير أبا نصر سابور بن أرداشير وبايعاز مِن بهاء الدولة قام عام 993م بشراء دار في صوب الكرخ، جرى إعدادُها لتحوي كتباً كثيرة، وأطلق عليها اسم “دار العِلم” ووقفها على العلماء، ويعتقد البعض بأنَّ فهرست إبن النديم قد يكون جَرداً لِمَ أحتوته هذه الدار مِن الكُتُب.

 

يتحدَّث المؤرخان (إبن العبري/ التاريخ السرياني ص 201 وماري في/ المجدل ص 107) <بأن الإضطرابات تفاقمت في عهد الخليفة القادر، وأعلنت إماراتٌ عديدة عن قيامها وفي مناطق متعدِّدة مِن الدولة. ونتيجة لهذه الفوضى تعرَّضَ المسيحيون لمواقف عِدائية متشدِّدة في العاصمة بغداد وفي المقاطعات الاخرى> ويروي المصدران أعلاه نموذجاً لذلك بقولهما: <بأنَّ كاتبَين مسيحيَين مِن أهالي باطا، كانا يتصرَّفان مع المسيحيين والمسلمين في بلدة “داقوق” تصرُّفاً تعسُّفياً. ولدى قدوم جبريل بن محمد قائد جيش بغداد الى داقوق، تظلَّمَ إليه أهلُ البلدة مِن ظُلم هذين الكاتبَين، فأمر باعتقالهما وقتلهما، وفيما يعزو ماري أسباب هذه الحادثة الى أعمال النهب والسلب التي تعرَّضت لها كنيسة السيدة في سوق الثلاثاء ودير كليليشوع،  بينما يقول إبن العبري بأنها وليدة الفوضى التي نتجت عن تصرُّفاتٍ مارسها لِصّان. وقد تدخل البطريرك ماري ولَطَّفَ الموقف، وامتصَّ غضبَ المُسلمين المُهتاجين حيث نفحهم ببعض المال>. ويقول ماري(المجدل ص 108) <بسبب كثرة وشايات المسلمين بالمسيحيين واتهامهم إياهم بتهم ملفقة وتافهة ومِنها :أنهم يرفعون أصواتهم أثناء ادائهم لصلواتهم، وأنَّهم لا يمنعون المتسكعين مِن الجلوس عند أبواب الكنائس… أُستُدعيَ البطريرك عام 999م الى دار الخلافة للردِّ على تلك التُهم.  وكان البطريرك مُوفَّقاً في الرد عليها وتفنيدها، فأمر الخليفة بإعادة البطريرك الى مقرِّه مُصطحَباً بحاملي المشاعل ومُحاطاً بأبنائه المسيحيين المسرورين الذين كانوا في استقباله.

 

وكان الوزيرُ أبو نصر سابور بن أرداشير صارماً في تعامله مع الشعب، تمادى في الضغط على المسلمين والمسيحيين، مُلزماً إياهم بدفع الضرائب على المبيعات والمشتريات، فأحدث هذا الإجراءُ التعسُّفي إشمئزازاً وامتعاظاً لدى الجميع. وما إن رأى المسلمون قيام المسيحيين بالغاء احتفالهم بالسعانين طوافاً في الشوارع، حتى بادروا هم الى تنظيم مُظاهرة سلمية حاملين القرآن، وأهابوا بالمسيحيين الى حمل الإنجيل والإنضمام الى مسيرتهم، ففعلوا وهم يُرتِّلون أناشيد السعانين، وتوجَّهوا جميعاً الى جامع الرصافة والشارع الأعظم، وقاموا باحراق دار الجهة الغربية، لإعتبارهم إياها مصدر المصادرات والبلايا الاخرى. وفي هذه الفترة المضطربة مِن عام 999م التي اشتدَّ  فيها النزاعُ  بين الأتراك  والفرس، تُوفيَ البطريرك ماري بن طوبي. وأمام ثورة الأتراك لاذ َ الوزيرُ أبو نصر بالفرار الى الجانب الغربي مِن بغداد، فلاحقوه الى هناك، إلا أنَّ الشيعة في جانب الكرخ تصدّوا لهم، وفي ذات الوقت هرع السنة مِن الجانب الشرقي لنجدة الأتراك. واستغلَّ هذه الفوضى المسيحيون، وأسرعوا الى إجراء مراسيم دفن موجزة لبطريركهم تجنباً مِن التعرُّض للمشاكل. ودفنَ بجانب المذبح في كنيسة اصبغ بدارالروم. والى الجزء التاسع عشر قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 28/3/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *