الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن الجزء السادس عشر

 

أحوال الكنيسة الكلدانية النسطورية في القرن العاشر

49 – البطريرك إبراهيم الثالث الباجرمي 905 – 936م

يروي المؤرخون (إبن العبري في/ التاريخ الكنسي2 ص 229 – 245 ــ  في المجدل/ صليبا ص 83 – 84 ــ ماري ص 89 – 94) عن إبراهيم الثالث الباجرمي بكونه مِن بيث كَرماي. رُسِمَ اسقفاً على المرج. وفيما كان يَهُمُّ بالذهاب الى بغداد لتقديم شكوى ضِدَّ شخصٍ اغتصبَ بعض ممتلكاته،  صادفه أعرابي تحدَّث إليه بشأن أخيه الأسير في بغداد، وناوله صُرَّة ً مليئة بدراهم ذهبية ليفتديَ بها أخاه إذا وجده، وإن لم يجده فيُصبح المالُ له. وعندما وصل إبراهيم الى بغداد، وجد البطريرك يوحنا الرابع طريحَ الفراش، فراح يعتني به متقرِّباً مِنه ومِن الأساقفة مُظهراً لهم التقدير والإحترام، وما لبث أن توفيَ البطريرك، فقام إبراهيم باستمالة الأساقفة وإرضائهم بنفحهم بهباتٍ مالية، ودفع بالكاتب عبدالله بن شمعون أن يُمارس تأثيره عليهم، وبذلك استطاع كسبَ أصواتهم فاختاروه بطريركاً ولم يشترك في الإختيار منافِسُه يوحنا بن بختيشوع مطران الموصل الذي كانت له مشاحنات شجارية معه. وتّـمَّت رسامتُه في 10 / 1 / 905م. لقد عاصر البطريرك الجديد أربعة خلفاء تعاقبوا على الخلافة في فترة رئاسته التي دامت ما يقرب مِن إثنين وثلاثين عاماً وقعت فيها أحداث هامة في الكنيسة. يقول ماري في (المجدل ص 91) بأن الكاتب عبدالله بن شمعـون كان قد اشترط عليه لقاء دعمِه له للفوز بالمنصب البطريركي ثلاثة شروط هي: <أن لا يُعيد تيودورس الى كُرسِّ بيث كَرماي. أن يقطع مجلسه عند دخول الكاتب. وأن يستشيرَه في كُلِّ شيء>. رأى البطريرك في شروط عـبدالله إنتقاصاً مِن مقامِه وكرامته، فعزم على التخلُّص مِن نفوذه. فقام بإعادة تيودورس الى كرسيّه في بيث كرماي بعد إبعاده فترة الى دير في الأنبار. ومِن جرّاء ذلك قاطع الكاتب عـبدالله البطريرك، وترك النسطرة وانتمى الى الملكيين”الكاثوليك” وتفاقمت سيرة تيودورس سوءاً وانتهى به المطاف الى”قطع زنّاره” أي إعـلان إسلامه. ولكنَّ المسلمين أنفسهم أبدوا جفاءً نحوه. وانعدم عنه كُلَّ عون، فاضطرَّ للتعاطي بالطب على الباب النوبي، وكان يستجدي البطريرك طالباً منه المساعدة، الى أن وافاه الأجل وهو في حالة مِن البؤس. أما البطريرك إبراهيم فقد ظلَّ خارج مسرح الأحداث طوال عهود الخلفاء الثلاثة المُكتفي والمُقتدر والقاهر الذين تعاقبوا على الحُكم منذ مطلع القرن العاشر، وسنراه كيف يتحرَّك على عهد الخليفة الراضي بالله مُطالباً بحقوقه .

 

13 – الخليفة المُكتفي بالله 902 – 908م 

تُعرِّفُه المصادر التاريخية التالية: (السيوطي/ تاريخ الخلفاء ص 371 ــ المسعودي/ التنبيه والاشراف ص 321 ومروج الذهب4 ص 375) إنَّه أبو محمد علي بن المُعتضد، إتَّخذ لقب المُكتفي بالله. كانت أُمُّه تُركية اسمها خاضع ولُقِّبت بـ”جيجق أو جيجك”. كان أبو محمد قد ذهب بمهمة الى الرقة وفي تلك الأثناء وافت المنيَّة والده المُعتضد ونودي به خليفة جديداً. حذا المُكتفي بالله حذو والده واتَّبعَ نهجَه في إدارة شؤون الدولة، ولكنَّه أطلقَ سراح السجناء، وهدم المطامير”السجون السرية” التي كان يُعَذبُ فيها المقبوض عليهم، وحوَّلها الى مساجد، وأمر بإعادة ما صادره والدُه مِن البساتين والدكاكين لكي يُشيِّد على مساحتها قصراً له الى أصحابها.  فجلبت له هذه الخطوات محبة الناس ودعاءَهم له، ولِئَن إتَّصفت سيرتُه بالكياسة، بيدَ أنَّه غُلبَ على أمره مِن قبل وزيره القاسم بن عبيد الله.

وبالنسبة الى المسيحيين فلم يطرأ تغييرٌ بشأنهم في عهد المُكتفي، فقد واصلوا مَهامهم في دوائر الدولة. ولكنَّ كاتب الخليفة الحسين بن عمر كان الأبرز بينهم، وقد دفعت الغيرة بالوزير القاسم بن عبيدالله للإيقاع به أمام الخليفة، كسراً لنفوذه حيث كان يقوم بمهام وزير تحت اسم مُستعارهو إبراهيم بن حمدان الشيرازي. فأبعده الخليفة عن العمل، وقيل بأنه لقي حتفَه مسموماً في الأهواز.

 

ويقول إبن أبي أُصيبعة (عيون الأنباء… ص 287) فإن الأطباء والمترجمين فقد دأبوا على مواصلة عملهم في عهد المُكتفي، والى جانب اسحق بن حُنين برز بين هؤلاء  يوسف القس الذي كُنِّيَ بالساهر والكاتب أبي العباس عبدالله بن شمعون الذي ذكرنا عمّا جرى بينه وبين البطريرك إبراهيم الثالث وكان ذا نفوذٍ على المسيحيين. وعند موت الوزير القاسم بن عبيد الله عام 904م خسر اسحق بن حُنين حاميه القوي. خاض جيش الخليفة المكتفي بالله معارك عديدة ضِدَّ الروم والقرامطة والطولونيين (القرامطة:ينتسبون الى زعيمهم مؤسس شيعتهم “قِـرمِط” خوزستاني الأصل إستوطن سواد الكوفة عام 871م، بنى مركزاً فيها سَمّاه “دار الهجرة” وصارله أتباعٌ كثيرون. أما الطولونيون: فهم سُلالة جَدِّهم الكبير طولون. كان مملوكاً تركياً مِن بخاري. أُعطيَ هدية الى الخليفة المأمون، وتدرَّجَ في الرُتب حتى أصبح قائد حرس الخليفة المُعتصم) وقضى المُكتفي أجلَه في العام 809م .

 

14 – الخليفة المُقتدر 908 932م

إنَّه أبوالفضل جعفربن المُعتضد واتَّخذ لقب المُقتدر.أُمُّه كانت تُركية تُدعى “شغب” غير أنَّ المسعودي في (التنبيه والآشراف ص 326)  يقول بأنها رومية.  وفي ذات اليوم الذي مات فيه أخوه المُكتفي بالله،  بويع خلفاً  له  وهو في الثالثة عشرة مِن عُمره.  وإذ تولّى الخلافة يافعاً قامت ضِدَّه ثوراتٌ تِباعاً، حتى استطاع الثوار خلعَه وتولية عبدالله بن المُعتز بدلاً عنه. ولكنَّ المُقتدر لم يستسلم بل قاوم خصومَه وانتصر عليهم وبقي على منصب الخلافة فترة طويلة. ويتحدَّث المسعودي (التنبيه والاشراف ص 328) بالقول: ولكون الخليفة المُقتدر صبياً صغيرَ السن، غلبت على أمره النساءُ وجعلنَ مِنه العوبة بين أيديهنَّ، وبخاصةٍ والدته شغب علاوة ً على الكُتّاب والوزراء، حيث بلغ عددُهم خمسة عشر كاتباً ووزيراً تعاقبوا قي عهده. وقد يكون وضعُه المُتذبذب هذا هو الذي حدا به الى إصدار مرسوم،  يُبعّدُ بمقتضاه المسيحيون واليهود عن الوظائف العامة،  وتُناط بهم وظائف المصارف والطب،  كما فرض عليهم إرتداءَ زيٍّ مُمَيَّز، ولأنَّ المرسوم كان صادراً عن خليفة غير ثابت الإرادة أو مسلوبها، فلم يكن له ديمومة.  حيث يُعلمنا التاريخ بأنَّ إبنَ الفرات وزير المُقتدر الجديد، كان قد  قرَّبَ إليه أربعة مِن كبار المسيحيين العلماء هم: أبو بشرعبدالله بن البروخان، أبو عمر سعيد بن البروخان، أبو الحسين سعيد إبراهيم التستري، وأبو منصور عبدالله بن جبير. ولم يكن المسيحيون يتنكَّرون للذين يبسطون عليهم حمايتهم إذا قلب الدهرُ لهؤلاء ظهر المِجَنِّ، بل يُشاركونهم الحلوَ في يُسرهم  والمُرَّ في عُسرهم. ويُقال بأنَّه في عهد المُقتدر قدِم مِن مرو الى بغداد يوحنا بن عيلان الفيلسوف الكلداني النسطوري الذي على يده درس الفارابي.

 

وصارت الفئات المسيحية في عهد البطريرك النسطوري إبراهيم الثالث تتناحرُ فيما بينها، فقد جرت مشادة بين البطريرك إبراهيم الثالث وبين بطريرك الروم ايليا الأول تخللتها اتهامات متبادلة، وعلى اثرها بذل إبراهيم مسعىً كبيراً حتى أفلحَ في الحصول عام 913م على مرسوم مِن الخليفة يَحظر على طائفة الروم إقامة مطران لها في بغداد، وقد كلَّفَ المرسومُ النساطرة مبلغ ثلاثين ألف دينار. وأشار مرسومُ الخليفة المقتدر الى أولوية البطريرك الكلداني النسطوري على بطريركي الروم والمونوفيزيين، واعتبرَت هذه الإشارة بمثابة إقرار رسمي بشرعية الكنيسة الكلدانية المشرقية النسطورية. ويقول السيوطي (تاريخ الدول ص 381 وابن العبري/ التاريخ السرياني 172 – 174) بأنَّ مَقدمَ الوفود البيزنطية الى الشرق كان يُثلج صدور المسيحيين، وأبدى البلاط العباسي حفاوة كبيرة بتلك الوفود لدى استقباله لها بعد انتظارها شهرين في تكريت.

وواصل الكتاب المسيحيون الكلدان احتفاظهم بمناصبهم المرموقة في الدولة العباسية. وكان المُشرفُ على “ديوان الدار” عام 925م المسيحي مالك بن الوليد، كما كان إبنا القناني مسؤولين على “الخاصة” وعلى “بيت المال”. وفي عام 928م كان المسيحي إبراهيم بن أيوب مُكلَّفاً بأعمال الجباية، وقبل ذلك كان هو المُشرف على بيت المال. وكان هؤلاء الكُتّاب المسيحيون يخصّون البطريرك إبراهيم بالإحترام ولا يردّون له مطلباً، ومِن ناحية اخرى كان قادراً على فرض سطوته عليهم عند الضرورة. وبسبب بذله مبالغ في اكتساب أصوات الآباء الناخبين لإنتخابه بطريركاً أُتِّهمَ بالسيمونية “شراء منصبٍ بالمال”. ولم تنفِ عنه المصادرُ التاريخية حُبَّه للمال الى حّدِّ الجشع، ومِن الشواهد على ذلك ما رواه أبو اسحق محمد أبو أحمد الاسكافي، بأنَّه ومِن غير ميعاد قادته الصدفة لزيارة البطريرك، فتفاجأَ بالبطريرك وهو منهمكٌ بعَدِّ مبلغ ٍ كبير مِن الدنانير والدراهيم، فبادره بالقول: <إنَّ ثوبَكَ هو ثوبُ سمعان “بطرس” أما تصرُّفك فتصرُّف سيمون “الساحر”. إني لا أعترف بكَ جاثاليقاً بعد الآن!> وانقطعت علاقتُهما منذ تلك الساعة، مُعتبراً كُلُّ واحد مِنهما صاحبَه محروماً، وتدخل الوسطاءُ لدى أبي اسحق لإقناعه بمصالحة البطريرك، إلا أنَّ جهودهم باءَت بالفشل. ويُقال بأن وفاة البطريرك قبل صيرورة أبي اسحق وزيراً عام 941م كان أمراً مؤاتياً وحاسماً لطمر المُجابهة بين الرجلين. لقد تعَرَّضت خلافة المقتدر منذ مطلعها للتصدّي مِن قبل الطامعين بالحكم، فقد عُزل للمرة الاولى ولكنه تمكنَ مِن استعادة الخلافة، ولما أطاحت به الثورة التي اندلعت في بغداد عام 929م، تدخَّل “مؤنس” وأعاد له الخلافة، إلا أنَّ المُقتدر، أعاد الكرة في معاداة مؤنس عام 932م، وإذ كان يقود جيشه في 31 تشرين الأول لنفس العام خَرَّ صريعاً بالقرب مِن باب الشماسية في شمالي بغداد الشرقية “الصليخ” وهو الحي الواقع فيه مقر بطريركية الكنيسة الكلدانية النسطورية.

 

15 – الخليفة القاهر بالله 932 – 934م

يقول السيوطي (تاريخ الخلفاء ص 386) إنه أبو منصور محمد بن المُعتضد بن طلحة بن المتوكل، إتَّخذ لقب”القاهر بالله”. كانت أُمُّه تُدعى “فتنة” أما المسعودي(التنبيه والاشراف ص 336) فيقول بأنَّ اسمها “قبول”. ويُضيف المسعودي في الموضع ذاته <إنَّهُ كان شديد الإقدام على سفك الدماء، أهوج، مُحبّاً لجمع المال على قلَّته في أيامه، قليل الرغبة في اصطناع الرجال، غير مُفكر في عواقب الامور…>.  أما السيوطي في الموضع الآنف الذكر أعلاه يُردف قائلاً: <وحين أقدم القاهر على اتِّخاذ قراراتٍ متهوِّرة بغير صالح المسيحيين، توجسوا منه خيفة ً. فإنه أمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المُغنين، ونفى المخانيث، وكسرآلات اللهو، وأمر ببيع المغنيات مِن الجواري… وكان مع ذلك هو ذاته لا يصحو مِن السُّكر، ولا يفتر مِن الغناء، ومنذ بداية مُلكه أظهر حِقده على آل المُقتدر بالله،  فأمر بمُصادرة أموالهم وتعذيبهم، وضُربت أمُّ المقتدر حتى لفظت أنفاسها. وكردِّ فعل لمُمارساته التعسُّفية،  إتَّفق الجند ُمع مؤنس وبعض المتنفذين الآخرين وأعلنوا الثورة عليه وعزموا على خلعه، إلا أنَّه أفلح في الإحتيال عليهم، وتمكَّن مِن ذبحهم. وبادر فوراً الى صرف أرزاق الجند، فركنوا الى الهدوء واستتبَّت له الامور.

 

يقول إبن أبي أُصيبعة في (عيون الأنباء… ص 300 – 304) وابن العبري في (التاريخ السرياني ص 176)   <وكان في ذلك العهد أبو سعيد سنان بن ثابت بن قره الحرّاني الصابئي رئيساً على 680 طبيباً في بغداد، وقد أرغمه القاهر بالله على اعتناق الإسلام>  وفي حين أنَّ القاهر لم يُسيء التصرُّف مع  طبيبه المسيحي المفضّل عيسى بن يوسف بن العطارة، إلا أنَّهُ وبتحريض ٍ مِن وزيره أحمد الخصيبي،  أمر بالقبض على أحد كبار الكُتّاب المسيحيين المدعو اسحق بن علي القنائي.  ولكنَّ مصير القاهر كان بائساً، حيث يقول السيوطي (تاريخ الدول ص 388) <فثارت عليه فتنة سنة 934م فخلعوه، وسُمِلَت كلتا عينيه بمسمار محمي حتى سالتا على خديه واُلقي في السجن حيث ظلَّ قابعاً فيه إحدى عشرة سنة، ثمَّ أُطلق سراحه، فعاش متسوِّلاً في الجامع الكبير حتى وفاته سنة 950م>.

 

16 – الخليفة الراضي بالله 934 – 940م

تروي المصادر التاريخية (السيوطي/ تاريخ الخلفاء ص 390 ــ المسعودي/ التنبيه والاشراف ص 336 ، مروج الذهب4 ص 322) بأنَّ الذي إتَّخذ لقب الراضي بالله لخلافته هو أبوالعباس أحمد بن المُقتدر. أُمُّه كانت رومية وتُدعى “ظلوم” وتُضيف هذه المصادر بالقول عن الراضي <كان الراضي سمحاً كريماً أديباً شاعراً فصيحاً مُحبّاً للعلماء، وله شِعرٌ، وهو آخر خليفةٍ عباسي دُوِّنَ له شِعرٌ. إنفرد بتدبير المُلك وقرَّبَ إليه العلماء> لقد تولّى الخلافة العباسية منذ بداية القرن العاشر بعض الخلفاء الضعـيفي الشخصية مِما أدّى الى تسرُّب الضعف إليها، فاستغلَّ هذا الضعفَ حُكامُ الأقاليم وراحوا يستخدمونها كآلةٍ بأيديهم يُحركونها حسب أهوائهم.

 

وكما مَرَّ بنا القول، فإن البطريرك النسطوري إبراهيم الثالث، أخذ يتحرَّك في عهد الخليفة الراضي مُدافعاً عن حقوقه. فيذكر ماري في (المجدل ص 93) بأنَّ المُوسَر المسيحي أبا بشر بن عبدالله بن فرجونة، كان قد خصَّصَ وهو لم يزَل على قيد الحياة مبلغ 7000 دينار للمشاريع البطريركية. وبعد وفاته لم ترضَ أرملتُه دفع هذا المبلغ، وردّاً على ذلك إمتنع البطريرك عن الصلاة على جثمانه ومنع أيَّ مسؤول كنسي مِن القيام بذلك. إلا أنَّ شماساً إسمه موسى لم يتقيَّد بأمر البطريرك وتلا الصلاة على جثمان الفقيد أبي بشر. فاشتدَّ الجفاءُ بين البطريرك وأرملة أبي بشر، حتى أنَّ الأرملة إضطرَّت الى رفع شكواها لدى وزير الخليفة أبي الحسن بن المُقلد. فبادرَ البطريرك الى جَمع ِ حَشدٍ مؤلف مِن كهنةٍ ورهبان وتلاميذ وقصدوا دارالوزير للمُطالبة بحقِّه، فأثر هذا التظاهرُ الإكليروسي في الوزير، فكان أن إنتصر للبطريرك، وأمر الأرملة بإعطاء حق البطريرك. ويروي ماري في (المجدل ص 5) <بأن الجاثاليق إبراهيم الثالث شرع في فتح قبر مارماري، فخرج عليه مِنه زنابير>.

والذي ساعد البطريرك لدى الوزير المخلد هو المسيحي أبو الحسن سعيد بن عمر بن سنجلا، كاتبُ الراضي قبل تولّي الأخير الخلافة، ثمَّ أُنيطت به عام 935م وظيفة كاتب ٍ خاص لإبنَي الخليفة الراضي بالإضافة الى مُهمة إشرافه على المصاريف. وبحكم المهام التي تولاها إبن سنجلا، استطاع كسبَ عددٍ مِن الأصدقاء عن طريق المال الحرام، ولم يتقاعس عن تأدية خدمات للمسيحيين وفي مقدمتهم البطريرك إبراهيم. ومِن الجدير بالإشارة فإن أخا إبن سنجلا المدعو أبا القاسم علي بن يعقوب كان هو أيضاً قد تولّى مناصبَ هامة في الدولة .

 

ونتيجة ًلإستحواذ المسيحيين على المناصب الرفيعة في الدولة على عهـد الخليفة الراضي وجَمعِهم لثرواتٍ طائلة، أثارت هذه المسألة الغيرة َ والحسدَ لـدى المسلمين تجلَّت في الإستياء الذي أظهروه تُجاههم، ولكنَّ ذلك لم يُحدِث أيَّ تغيير في موقف الخليفة مِن الذميين. وهكذا استمرَّت علاقات جيدة ومتبادلة بين المسيحيين والمسلمين على النطاق الإجتماعي. وكما ذكرنا في متن كتابنا هذا مِراراً بأنَّ الكُتّاب المسيحيـين النساطرة،  كانوا المُهيمنين على الامور في الدولة العباسية مِن خلال مواقعهم فيها،  ولذلك كانوا يُمارسون العنصرية ضِدَّ كُلِّ مَن هو خارج شيعتهم النسطورية ويقفون ضِدَّ مطالبهم. ويَقول بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج1 ص 391) بأنَّ هذا الأمر سبَّبَ بنشوب خـلافٍ بين البطريرك إبراهيم وبطريرك الروم الملكيين ايليا، حيث أرسل الأخير اسقف عسقلان الملكي “الكاثوليكي” الى بغداد في نحو عام 940م ليرعى شؤون أتباع طائفته التي ازداد حجمُها نتيجة الحروب التي كان يتم إرسال اسراها مِن سوريا الى بغداد، ولما قام اسقف الروم الملكيين الكاثوليك بتقديم التماس لكي يُسمحَ له بترميم وتجديد كنيسة العذراء التي كان قد هدمها وأحرقها اليهودُ والمسلمون، إنبرى له البطريرك إبراهيم الثالث النسطوري مستخدماً نفوذ المسيحيين النساطرة المتنفذين، لكي لا  يُـستَجابَ طلبُه، فقوبل الطلب بالإهمال بل بالرفض ثمَّ انتهى الأمرُ بطرد اسقف الروم وصدور أمر خَليفي بمنع إقامة أيِّ مطران للروم مستقبلاً في بغداد. ويقول المؤرخ عمرو في (المجـدل ص 84) بأن البطريرك إبراهيم أمر بإقامة قـداس في المساء طيلة أيام الصوم الكبير. وبحسب ما ذكره صاحب كتاب (ذخيرة الأذهان ج1 ص 425) بأن البطريرك إبراهيم توفي عام 938م ودُفنَ في كنيسة دارالروم .

 

ويذكر إبن أبي أُصيبعة (عيون الأنباء في طبقات الأطباء في الصفحات 315 ، 316 ، و317) بأنَّ عدداً مِن المسيحيين قـد برزوا في عهد الخليفة الراضي بالله ومِن بينهم:

 

>  كاتب “مؤنس” المسيحي الملكي اسطيفان، وقد تولّى الكرسيَّ البطريركي للملكيين واتَّخذ اسم تيودوسيوس .

>  بختيشوع الطبيب، وبسبب إخفاقه في علاج هارون أخي الخليفة، نُفي الى الأنبار. ولكنَّه استُدعي الى بغداد على عجل بناءً الى رغبة الملكة الام.

>  الطبيب داود بن ديلم .

>  الطبيب متي بن يونان أبوبشر مِن أبناء دير قوني، كان متميِّزاً في الطب والمنطق والترجمة.

 

50 – البطريرك عمانوئيل الأول 937 – 960م

لم يخطر ببال عمانوئيل راهب ديرأبي يوسف في بلد “أسكي موصل” بأنَّه سيُختارُ يوماً ليكونَ رئيساً للكنيسة الكلدانية المشرقية النسطورية، وليس مِن شَكِّ بأن النعمة الإلهية هي التي هيَّأَته لذلك. إذ بعد وفاة البطريرك إبراهيم الثالث، أجمع الآباء الأساقفة على انتخاب ايليا اسقف الأنبار مُثمِّنين به العلم والفضيلة. وأعدَّ له المجمع وثيقة الإنتخاب “شلموثا ܫܠܡܘܬܐ“. وقام إبن سنجلا المسيحي المُقرَّب مِن الخليفة باستحصال السماح لرسامته، وأُعِدَّت الترتيبات لإجراء الرسامة في كنيسة ساليق في المدائن بموجب التقليد الكنسي… ورغبة ً مِن ايليا المُنتخَب لتقديم الشكر للكاتب إبن سنجلا الذي استحصل له وثيقة السماح مِن الخليفة، قام بزيارته، وفي معرض حديثه مع الكاتب ختم حديثه موجهاً إليه كلاماً غريباً هذا نصُّه: <حينما أُصبحُ بطريركاً، سأسمحُ لكَ باتخاذ سريةٍ بالإضافة الى زوجتك العاقر، لتُنجبَ لكَ إبناً> فكان لهذا الكلام وقع الصاعقة على الكاتب، وانتزع الوثيقة مِن يد ايليا ومزَّقها وصرخ بوجهه قائلاً: <أتظن أنَّك تقترب مِني وأنتَ تُخالف شريعة المسيح؟> وأدّى هذا الحدث الى إقصاء ايليا عن تولّي منصب البطريركية.

واستولت الحيرة على الآباء الأساقفة ولا يدرون كيف يتجاوزوا هذا الإشكال، ولا سيما أن إبن سنجلا أعلن عن عدم تدخله في أمر الإنتخاب، وبينما هم على هذه الحال، وإذا بسنان بن ثابت الطبيب الحراني الصابئي، يعرض عليهم اسم راهبٍ قديس شاهده في دير أبي يوسف يُدعى عمانوئيل،  ويرى فيه الرجل المناسب للمكان المناسب، وأيَّدَ رأيَه إبن سنجلا، واستحصل كتاباً مِن الخليفة الى ناصر الدولة الحمداني يطلب إليه إرسال الراهب المذكورـ حتى لو اقتضى الأمر جبراً. وإذ أُبلغ الراهب بالأمر قبله على مضض ٍ، واصطحبَه الجُند الى الحديثة، وفيما كان يُفكِّر وإذا به يتحسس في داخله بأنَّ الربَّ هو الذي اختاره لهذه المسؤولية الكبيرة. ولدى وصوله الى بغداد توسَّم في بعض الآباء علامات عدم الرضا بانتخابه ومِنهم: لوقا مطران الموصل حيث يقول ماري في (المجدل ص 95) بأنَّه تزيّأَ بدرّاعةٍ وعمامة لعدم التعرُّف عليه فيُضطرَّ الى رسم المُنتخب عمانوئيل، وهرب ممطياً بغلة، ولكنَّ أمره افتضح حيث لقيه الوجيه أبو عيسى المنذر بن النعمان العبادي فعرفه وأعاده. وعلى غِراره أيضاً تنكَّر أبو عبيدة اسقف الحيرة حيث قصد الى دير بن هرمزد.

لقد حظي عمانوئيل بمقابلة الخليفة الراضي، وخلال المقابلة طرح الخليفة عليه العديدَ مِن الأسئلة حول الديانة المسيحية، وكانت أغلبُها بصدد محبةِ الأعداء. وما يؤكد إعجابَ الخليفة بأجوبة عمانوئيل هو تأييدُه بتعيينه بطريركاً، ونَفحِه إياه بهدايا نفيسة وأمْر بإعادته الى مقرِّه البطريركي بحفاوةٍ وإكرام. ويُشير المؤرخون (إبن العبري/ التاريخ الكنسي2 246 – 248  ــ صليبا في المجدل ص 84 -91 وماري في المجدل ص 94 – 98) بأنَّ رسامة البطريرك عمانوئيل جرت يوم الجمعة 22 / 2 / 938 م. كان أصلُ عمانوئيل مِن باجَرمي ورُسمَ اسقفأ على المرج. يقول بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج1 ص 425 – 426) كان شيخاً وقوراً يتحلى بسجايا ظريفة، عالِماً ومُتَرجِماً قديراً وواعظاً بَليغاً، نُـسِبَت إليه صفة البُخل، وصلَ بشيخوختهِ الى آخر مداها، ولدى قيامِه برسامة اسقفٍ أو كاهن، كان يُجلَسُ في محفةٍ وتوضَع على دَكَّةِ المذبح ومِنها يُؤدي المراسيم. كانت تَـركَتُه بعد وفاته بحسب قول المؤرخ عَـمرو في (المجـدل ص 91)  ستمائة ألف درهم وسبعة آلاف مِثقال ٍ مِن الذهب . توفيَ عام 960م ودُفنَ بكنيسة دارالروم. والى الجزء السابع عشر قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

في 13 / 3 / 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *