الإصحاحُ الخامس عشر مِن انجيل متّى البشير وصايا اللهِ فوقَ سُنَّةِ البَشَر

< ودَنا الى يسوعَ بعـضُ الفِـرِّيسيينَ والكـَتبَةِ مِن اورَشليم، فقالـوا له: ” لِمَ يُخالـفُ تلاميذكَ سُنَّةَ الشيوخ؟ فَهُـم لا يَغسِلـونَ أَيديَهُم عند تناولِ الطعام ” فأجابَهُم: ” لِمَ تُخالفونَ أنتم وَصِيَّةَ الله مِن أجلِ سُنَّتِكم؟ فقد قال الله: “أَكْرِم أباكَ وأُمَّكَ “، ” ومَنْ لَعَنَ أباه أو أُمَّه فـليَمُت موتاً “. وأما أنتُم فـتـِقولـون: ” مَنْ قال لأبيه أو أُمِّه: كُـلُّ شَيءٍ قـد أُساعِـدُكَ به جَعَلتـُه قُرباناً، فـلَنْ يَلْزَمَه أنْ يُكْرِمَ أباه. لقد نَقضْتُم كلامَ اللهِ مِن أجلِ سُنَّتِكم. أيها المُراؤون، أحسنَ إشعيا في نُبوءَتِه عَنْكم إذْ قال: “هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيه وأما قلبُه فبعيدٌ مِنِّي. إنَّهُم بالباطِل يَعبُدونَني فليسَ ما يُعَلِّمونَ مِنْ المذاهِب سِوى أحكامٍ بشريَّة “ > (متّى15: 1-9 و مر7: 1- 13).

إنَّه دليلٌ ساطعٌ ما قاله مرقس البشيربأنَّ الفريسيين وبعضاً من الكتبة قَدِموا مِن اورَشليم ليجتمعوا بيسوع. ألا يعكس هذا تعاظمَ شهرةِ يسوع وذُيوعَ ذِكْرِه على شفاه الناس وألسِنَتِهم مِنْ حيث تعاليمِه السامية واجتراحِه العجائبَ والمُعجزات، فضلاً عن عَمَلِه وتَصَرُّفِه المليئين بالحُبِّ والحنان! جاءُوا مِنْ اورَشليم كجواسيس يتحرَّون يسوع بالسَمْع والمُراقبة، لِيُخبِروا رؤساءَهم ويُنفِّـذوا أوامرَهم بِمَنع الشعبِ عن القـبول بيسوع. وهُـنا بَـدأوا بالـشكوى على تلاميـذ يسوع، وفي الواقع والحقـيقة كانت الشكوى ضِدَّ يسوع نفسِه، والغرض مِنها التقـليـل مِنْ مَـقامِـه وخَفْضِ اعتباره لدى الشعب.

تُرى، أليس عَجـيباً بل غَـريباً بأنَّ الفِـريسيينَ والكـتبَةَ المؤتمنينَ على كلمة اللهِ لِصَونِها وشَرْحِها، رَفضوا ” الكلمة المُتَجَـسِّد” وراحوا يُوجِّهـونَ الـنَّقـد مُنتهزين الفُرَصَ للجدال حول شخصِ السيِّد المسيح؟ ظانَّين بأنَّهم حُكَماء وعُلماء، وإنَّ الـبُسطاءَ مِن الشعبِ اليهودي الذين قَـدِموا إليه ووجـدوا فـيه الشفاءَ والشَّبِعَ فاعتبروهم جُهلاء! فماذا إذاً عَنْ الأمَمِـييـن الذين جَـرَوا وراءَ السيِّد المسيح طالبينَ أن يَعملَ فيهم لينالوا الخلاصَ لأنفسهم!

< لِما يُخالفُ تلاميذُكَ سُنَّةَ الشيوخ؟ فهم لا يَغسِلونَ أيديَهم عند تناول الطعام >

لقد انتهَزَ يسوع فرصة قيام الكتبةِ والفِريسيين بِسؤالِه عن عدم غسل تلاميذِه أيديهم قبل تناولهم الطعام، ليُوَجِهَ إليهم توبيخاً مريراً لِمُمارستِهم عِـبادةً زائفة مَبْنِـية على أُسُسٍ وسُنَنٍ باطلة، مُركِّزاً على العناية بالطهارة القلـبية الداخلية التي بها نلمسُه ونشبع وليس بالنظافة الخارجية الفارغة” إياكم أنْ يأسِرَكم أحدٌ بالفلسفة، بذلك الخِداع الباطِل القائم على سُنَّةِ الناسِ وأرْكان العالَم، لا على المسيح” (قولسي2: 8) . إنَّ سُـنَّةَ الشيوخ تشمُل تقاليد طقسية رَواها السلفُ للخَلفِ شفاهاً قَـبل أجيال عديدة مسموعة مِنْ آباء الأمة اليهودية وهم (الشيوخ). هنالك زَعْمٌ مِنْ اليهود عُموماً باستثناء “الصَدوقيين الرافضين لكُلِّ التقاليد”  بأنَّ موسى تلقّى نَوعَـين مِن الوصايا على طور سيناء الواحِـدَ منهما مكتوبٌ والآخـرَ شفهيٌّ حَـفِظه موسى في ذاكرتِه، وقُـبيـلَ موتِه لَقَّـنَه ليشوع ويشوع لقَّنَه للقضاة والأنبياءُ تَسَلَّموه مِن القضاة، وكان قد حُفِظ بلا تغيير حتى تَمَّ تدوينَه في التَلمود المُحترم من اليهود كاحترامِهم لأسفار موسى والأنبياء الى هذا الـيوم بل ربَّما أكـثَر. شَبَّهَ رؤساءُ اليهود الناموسَ المكتوبَ بالماء وغيرَ المكتوب بالخَمْر. كانت كثيرةً تلك الـتـقاليد الطقـسية لكـنَّها بغير فائدة. وإنَّ احترامَهم لها دلـيلٌ على إهْـمالِهم لعَظائم الـناموس واحتفاظِهم بالأمور الدينية الزهيدة، فحَوَّلوا ما هو جوهريٌّ الى عرضيٍّ وما هو عَرَضيٌّ الى جوهريٍّ وأوضحُ تأكيدٍ لذلك هو سؤالُهم المُوجَّهُ هنا ليسوع !

“فهم لا يَغسِلونَ أيديَهم عند تناول الطعام”

إنَّ الغَسلَ الذي أمَرَ به موسى في سِفر اللاويين (12 – 15) خُصِّصَ لأوقاتٍ مُحدَّدة، وهو وسيلة للتطهير مِن نَجاساتٍ خاصة لا تخُصُّ الشؤون البيتية اليومية. فقَصْدُ الكتبة من الغسل لم يكن الـنظافة الإعتيادية، بل من أجل الخِدمة الدينية التي ألـزَموا أن تُؤَدّى دوماً قـبل الأكل. ولكـنَّهم أرادوا جعلها نظافة بدنية وليس طهارة قَـلبـية. وأضاف الـبشير مرقس الى اغـتسال أيديهم قَـبل تناول الطعام، واغتسالَهم إيّاها بعد عَـودتِهم مِن السوق (مر7: 3-4) مُعلِّلين ذلك بأنَّه مِن المُحـتمَـل بأنَّ وثنياً قد اقتربَ منهم أو لمسوا شيئاً مِما يعود له، فَـتدنَّسوا، فعليهم الإغتسال ليستعـيدوا طهارتَهم الدينية. ولذلك اعتبروا الإغتسال ضرورةً دينية.

وفي حينِ كانت الجموعُ تتزاحمُ تَوّاقةً لِلَمسِ هُدبِ رداءِ يسوع لتنالَ الشفاء (متّى14: 36) كان الفريسيون والكتبة في حالةٍ مِن الغيض والهَيَجان، ينفِـرونَ مِن سَماع أقـوالِه السامية، وتُـثيرُهُم مَحَبتُه الكبيرة لأبناءِ البشرية، فكان موقِـفُهُم مِنه سلـبياً عِـدائياً، انتقادياً، وهوما لا يليقُ بهم باعتبارهم مؤتمنين على حِفظِ كلمةِ الله وتفسيرِها للشعبِ بدِقَّةٍ ونزاهة، وهم في حالة انتظار مجيءِ المَسِيّا مُتجَسِّداً ليفْـرَحوا ويَـبتهِجوا بقُـدومِه مُتولّين قـيادةَ الشعبِ للسجودَ أمام كلمة الله المَسِيّا الملك، إلاّ أنَّ قُـلوبَهم لم تَنفُـرعَـنْ خِدمة الكلمة فَحَسْبُ بل رَفضوه وقاوَموه مُتَشبِّثينَ بخِدْمَةِ أنفسهم وناظرين إليه كلاغٍ لكراسيهم ومستولياً على مراكزهم، وكان خوفُهم أشبهَ بخوف هيرودس مِنه وهو لم يَزَلْ طفلاً فسعى الى الخلاصِ مِنه ولكنَّه فشل.

” فأجابَهُم: ” لِمَ تُخالفونَ أنتم وَصِيَّةَ الله مِن أجلِ سُنَّتِكم؟”

يسوع لم يُدافع عن تلاميذِه بمُخالفتِهم لتقليدٍ مِن تقاليد الشيوخ كما لم يُنكِر ذلك، وإنَّما رَدَّ على اليهود بأنَّهم يُخالفون شريعة الله، بفرضِهم تقاليدَهم البشرية المُناقضة لها، إذْ إنَّ فَرضَهم أوامرَ على الناس تُخالفُ أمرَ الله هو أمرٌ خطير. وفي الواقع فإنَّ يسوع ألزمَ تلميذَه أن يترُكَ أباه وأُمَّه مِنْ أجل البشارة، وقال ايضاً: ” مَنْ أحَبَّ أباهُ أو أُمَّه أكثرَ مِما يُحِبُّني، فليس أهلاً لي. ومَنْ أحَبَّ ابنَه أوابنتَه أكثرَ مِما يُحِبُّني فليس أهلاً لي ” (متى10: 37) مع أنَّ الله أمرَ بإكرام الوالدين (خروج20: 12) ولكنَّ يسوع الرب كان يقـصُـدُ بذلك، بأنَّ ما عـلى الإنسان لله هو في المَـقام الأول وقـبل ما عـليه للآخريـن، فإذا اضطـرَّ الإنسانُ أن يخـتـارَ أحدَ الواجِـبَيـن، عليه أنْ يخـتارَ أعظمَهما وهو طاعة الله كما أطاعَ التلاميذ يسوعَ وتَبِعوه صَمْتاً (متّى4: 18-22). أما الفِـريسيون والكـتبة فَـقد فَضَّلوا شريعتَهم الوضعية على الشريعة الإلهية.

 

“فقد قال الله: “أَكْرِم أباكَ وأُمَّكَ “، ” ومَنْ لَعَنَ أباه أو أُمَّه فليَمُت موتاً “. وأما أنتُم فتَـقـولون: “مَنْ قال لأبيه أو أُمِّه: كُلُّ شَيءٍ قد أُساعِدُكَ به جعلتُه قُرباناً، فلَنْ يَلْزَمَه أنْ يُكْرِمَ أباه. لقد نَقضْتُم كلامَ اللهِ مِن أجلِ سُنَّتِكم.”

ذَكرَ يسوعُ لليهود مِثالاً خالفوا به شريعة الله بتـقلـيدهم، فقـد قال الله في الوصية الخامسة ” أكْـرِمْ أباكَ وأُمَّـكَ (خروج20: 12) ومَنْ لَعَن أباه أوأُمَّه فـليَمُت موتاً (خروج21: 17).إنَّ يسوع لا يذمُّ مَنْ يُقَدِّم جزءاً مِن مالِه لله لمقاصِد دينية أو مشاريع خيرية، إلاّ أنَّه يَذُمُّ مَنْ يَعملُ ذلك ليـتـفادى تقديمَ الواجبِ نحو الوالدين والأقارب والإعْـتـناء بهم في أوان الحاجة والشيخـوخة، وهو ما يُمليه عليه ضميرُه وما أوصى به الكتابُ المقدس، وهـذا ما شَـرَّعَـه الشيوخُ وغَـدا تقـلـيـداً يَعتَـمِـدونَه وعلى الجَـميع الإلـتـزام بمُجاراتهم باتباعِـه، وبهذا وإنْ لم يُنكروا وصِيَّة الله بالقـول ولكنَّهم نَـفَـوها بالـفعل مِن خِلال تعلـيمِهم الوضْعي الـبشري. بينما يقول الرسول بولس < فإذا كان أحـدٌ لا يَهـتَـمُّ بذويه، وبخاصةٍ بأهـل بَـيـتِه، فَـقـد أنكـرَ الإيمانَ، وهو أسوَأُ مِنْ غـير المؤمِن >(1طيمثاوس5: 8). وإنَّنا نرى يسوع بقولِه هنا تأكيداً وتثبيتاً لِمَ أوصى به ناموس موسى بشأن إكْـرام الوالـدَين ومحبَّـتِهما وطاعَـتِهما والإهْـتِمام بهما عند الحاجة أو الشيخوخة.

ويجب أنْ لا يُفهَمَ موقِـفُ يسوع الحازم مِن التقليد اليهودي بأنَّه ضِدَّ التقاليد عموماً، كلاَّ وإنَّما هوضِدَّ التقليد المُخالف للكتاب المقدس. ألمْ يَصِلْ إلينا الكتابُ المقدس عن طريق التقـليـد الكنسي؟ ومَن أعلَـمَنا بالأسفار الـقانونية والأخرى الغير قانونية؟ أليس آباءُ الكنيسة الذين حافظوا على التقـليد، ومَيَّزوا القانونية مِنها واحتفظوا بها ورفضوا الغير قانونية؟ ألـيس عَن طريق الـتقـليـد تَعَـلَّمَ ابراهيم دَفعَ العُشر لمَلْـكي صادق؟ (تكوين14: 20) ألم يتعلَّم يعقوبُ تدشيـنَ الأماكن بسَكبِ الزيت بالـتقـلـيد؟ (تكوين28: 18) أليس مِن التقليد تعلَّمَ يوسفُ الإمتناعَ عَن مُمارسة الزِّنا؟ مع العِلم أنَّ الناموس لم يكن موجوداً. ألم تُواصِل الكنيسةُ مسيرتَها بالتقليد المتواتر حتى كتابة الإنجيل الأول؟.

أيها المُراؤون، أحسنَ إشعيا في نُبوءَتِه عَنْكم إذْ قال: “هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيه وأما قلبُه فبعيدٌ مِنِّي. إنَّهُم بالباطِل يَعبُدونَني فليسَ ما يُعَلِّمونَ مِنْ المذاهِب سِوى أحكامٍ بشريَّة “ > (إشعيا29: 12 وحز33: 31).

أحسنَ إشعيا إذْ تَنَبّأَ عنكم أيها المُراؤون

كيف ظهَرَ هذا الرياء؟ إنَّه تشجيعٌ سَنَّهُ الشيوخُ لِيقومَ الأبناءُ بمُخالفةِ الوصيةِ الإلهيةِ الخامسة التي تقضي على الإبن بوجوب إكرام والدَيه، مُرتكزين على إدِّعاءٍ واهٍ، بأنَّ الإبنَ يُفضِّلُ إكرامَ الله قبل الوالدَين، إذا كان الأمرُ كذلك لماذا أوصى الله بلسان موسى بإكرام الوالدَين؟ أما الحقيقة في هذا التشريع هو إعْـطاء المُسَوِّغ للإبن للـتهرُّب مِن واجباتِه نحو والـدَيه بِحُجَّة أنَّ ما يدفعُه لهما يُقَدِّمُه قُرباناً لله. وبالنتيجة فإنَّ المُستفـيدينَ مِن ذلك هُم واضعو هذا الـتشريع الوَضْعي المُخالِـف. ووَصْفُ يسوعَ للكتبةِ والفِريسيين بـ”المُرائين”كان دَقـيقاً، لأنَّ الرياءَ يكمُنُ في تصرُّفاتِهم، حيث إنَّ ما يفعلونه يتعارضُ مع ما يقـولونَه وهو خِداعٌ لغيرهم. وكان يسوعُ مُحِقاً بتذكيرهم بما تنبّأَ عنهم النبيُّ إشعيا، وهو الواقع الذي كانوا يعيشونَه.فهل لنا أن نأخذ العِبرة مِما سَمِعناه فـنـتجَنَّبَ الرياءَ في تصرُّفاتنا؟!

” هذا الشَّعْبُ يُكرِمُني بِشَفَتَيه وأما قلبُه فبعيدٌ مِنِّي. “

لقد أهمَلَ بنو اسرائيل وصايا الله الأساسية، وانصبَّ اهتمامُهم على مُمارسة التقاليد البشرية التي أقرَّها الشيوخ بكُلِّ عنايةٍ ودِقَّة، ومِن أهَـمِّها غسل الأيدي مِراراً عِدة قبل تناول الطعام “وهناك طقـوسٌ أخرى كـثيرة تَسَلَّموها ليتمسَّكوا بها، كغسل الكـؤوس والأباريق وأوعِـية النحاس (مر7: 4) إنَّ كُلَّ عِـبادةٍ لا تَـنبَعُ مِن القلب هي بنظر الله رياءٌ. ولهذا ذكَّر يسوع بني اسرائيل بنبوءة إشعيا، ” تُظهِرون غيرة شديدة في التعَبُّد لله مُنجزين مطالب الشريعة الخارجية، ومُعلنين بكلمات شِـفاهكم التسابيح، لكنَّ قلوبكم هي مِنّي بعيدة، فعبادتكم هي سطحية غير مُرضية وعبثية.”< فإنَّ الإيمان في القلب يؤدي الى البِر> (روما10: 10).< ليسكُن المسيحُ  في قلوبِكم بالإيمان…> (أفسس3: 17).

إذاً أيها الإخوة القراء الأعزاء، إنَّ ما يطلبُه الله مِنا أن نَعبُـدَه بقلوبنا، وأن تُرَدِّدَ شفاهُنا ما تُملـيه عـليها قُـلوبُنا، وأن يكون الإنجيل المقدسُ هادياً لنا آمين.

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *