ألوجوه المؤنفلة.. وجوه لامعة في فرنسا

يقول نيتشه في عبارته المشهورة “ان الشيء الذي لم يقتلني يجعلني أقوى”، عبارة خطرت على بالي وأنا اتهيأ لإجراء مقابلة صحفية مع عديلة سعيد المحامية الكوردية المتألقة وذات الشخصية القوية والجريئة. هي احدى الناجيات من عمليات الأنفال سيئة الصيت التي طالت ابناء شعبنا في مناطق بهدينان وعموم كوردستان الجنوبية، وهى شاهدة على عصرها وعلى ما عاناه الكورد لدى فرارهم من الجيش العراقي، وعلى الرغم من ان اجراء هذا النوع من المقابلات صعب، كونها تذكرهم بعذاباتهم وتهيج جراحاتهم وتعيدهم الى ماض مؤلم . . سألناها بداية :

من أي منطقة تنحدرين ؟

-: تنحدر اصولي من قرية بشيلي في منطقة برواري البادينية، وهي قرية جبلية رائعة الجمال بمناظرها الطبيعية وخصوصا كهوفها ومغاراتها، مما جعلها قاعدة مهمة للثائرين الكورد بل ويمكن أن نعتبرها ثاني اكبر قاعدة عسكرية، حيث كان الثوار يستطيعون الاختباء بسهولة فيها كما كان كل شيء متوفرا لهم، وهي أكثر المناطق قصفا من قبل الجيش العراقي لمعرفتهم بتواجد قوات البيشمركة فيها.

س : ماهي ذكريات طفولتك هنالك ؟

– ذكرياتي كانت مرتبطة بالطبيعة التي كنا نعيش معها بتوافق كالاخرين ، والدي كان فلاحا كبقية أهل القرية، لنا حقولنا وبساتيننا وخرفاننا ونعجاتنا ، كنا نأكل ما تنتجه أرضنا وحيواناتنا، أتذكر أن ذهابي الى المدرسة كان نادرا لان المنطقة كانت تمطر دائما بانواع القنابل الحديثة والمحرمة ، وأغلب المعلمين هربوا من القرى ولم تكن لدينا خدمات عامة

س : كيف تمكنتم من الهرب من المنطقة ؟

– : في الحقيقة كنت طفلة آنذاك أبلغ حوالي الثامنة من العمر، كان لدي أخوان يدرسان في مدينة دهوك، في أحد الأيام عادا الى المنزل في عجالة وأخبرانا أن حلبجة تم قصفها بالاسلحة الكيميائية، وعلينا الرحيل قبل قدوم الجيش العراقي..كانت قريتنا شبه معزولة والأخبارلاتصلنا كثيرا،كما ان الاغلبية كانوا اميين ولا يعون ما يحدث ، تم اخبارنا أن الجيش في طريقه الى القرية وأن الوقت أمامنا ضيق جدا وعلينا الفرار فالمسألة هي مسألة وقت بل هى مسألة حياة أو موت. لذا كبقية الناس هناك، قام والدي بحفر الارض وأخفاء كل ماهو ثمين فيها، أملا منه بالعودة الى القرية في يوم من الأيام.

س : كيف كنت تستوعبين هذا الوضع وانت طفلة صغيرة ؟

-: في الحقيقة لم أكن أفهم شيئا، الذي عرفته أن هناك خطرا ما ويجب الهرب. هربنا مع مئات بل والآف من الناس مشيا على الأقدام، ذكرياتي تقتصرعلى السير بلا نهاية ، كنا نمشي ونمشي وبعد بضعة أيام لم يتبق لنا مانأكله ، كنا نعاني من الجوع والعطش والتعب والرعب وقلة النوم، فقد كنا لاننام. كان كل ما اتمناه أن أضع رأسي على صخرة وأنام ..وفعلا في وقت ما نمت لبضع ساعات لاستيقظ بعدها وحيدة بعيدة عن عائلتي تائة في الوديان والجبال، وكان عثوري على عائلتي اشبه بالمعجزة ، العديد من الأطفال ماتوا في الطريق ، بل ضاعوا ولم نجد لهم أثرا الى يومنا هذا. لقد ضاع أخي الصغير الذي يبدو أنه نسى نفسه ايضا ونام ولم نجده الا بعد ثلاثة أيام من وصولنا الى الحدود التركية العراقية في (سلوبي) من الجانب التركي.

س : كم كان عدد الأطفال في عائلتك ؟

-: كنا تسعة ،ابتسمت وقالت أنا كنت في المرتبة الخامسة بين أربع بنات وخمسة أولاد.

س : كيف تم استقبالكم من قبل حكومة تركيا ؟

– : لدى وصولنا، كانت الطائرات المروحية تحلق فوق رؤوسنا وفهمنا أنها تركية، في الحقيقة أننا لم نصل الى بلد حنون، بلد كان لديه ما يكفي من المشاكل مع الكورد من خلال صراعه الدامي مع حزب العمال الكوردستاني والكورد هناك كانوا يعانون من جينوسايد ثقافي اضافة الى جينوسايد جسدي . كانت الأشياء غريبة حولنا وهناك الكثير من الصخب والضجيج، ونحن نشاهد إندلاع تظاهرة لطلاب كورد في تلك المنطقة لدعمنا..كنت صغيرة لم أعرف لماذا ولكن أكتشفت بعد سنين أن الكثير من هؤلاء الطلاب تم إعدامهم ميدانيا من قبل الجيش التركي . والغريب في الامر إندلاع نزاع ما بين الكورد انفسهم، ما بين مؤيد ومعارض للقيادة الكوردية لجنوب كوردستان في وقت كنا نحتاج فيه الى وضع النزاعات جانبا واعطاء الأولوية لقضيتنا الكوردية وليست الحزبية.

س : هل كنتم في مجمع واحد ؟

– : لدى وصولنا الى تركيا، تم تقسيمنا الى مجموعتين، مجموعة تم ترحيلها الى مخيم في مدينة ماردين والاخرى الى مخيم في دياربكر، نحن ذهبنا الى ماردين، فقد رحلونا بعربات تسحبها جرارات زراعية وهي تقطع صعودا ونزولا طرقا جبلية وعرة بين قرى كوردية كان الناس فيها يلقون علينا الملابس والأغطية والأكل… (وهنا أغرورقت عينا (عديلة) بالدموع فهذه الذكريات تثير الام الماضي وجراحه العميقة التي لم تندمل الى يومنا هذا)، وقالت لي: منذ وقت طويل لم أتحدث عن هذه الذكريات..أتمنى أن لاينسى الشعب الكوردي عمليات الأنفال، وتأريخنا المؤلم، أتمنى أن نبقى متماسكين ومتضامنين واكثر انسانية من أي وقت مضى مع انفسنا وخصوصا مع كورد سوريا اليوم الذين تركوا ديارهم ولجأوا إلينا، فالحرب ليست مزحة، هنالك الكثير من الناس قتلواعلى يد القوات العراقية، هناك ناس لم يصدقوا ما جرى لحلبجة في قريتنا، وبقوا فيها وبعدها لم يعثرحتى على عظامهم الى يومنا هذا ولا يعرف في أي صحراء دفنوا أحياء.

س : كيف كان وضعكم في مخيم ماردين ؟

– : في الحقيقة، كانت الأيام تتشابه والشتاء قارس ، لاماء لا كهرباء ، والظرو ف الصحية والنظافة يرثى لها، كانت تركيا تتجاهلنا على الرغم من حصولها على دعم مادي سخي من قبل المجتمع الدولي، الا أنها كانت تختلس الاموال ولم تكن منصفة بشأننا. أتذكر أن طفلة ابنة عمي ماتت بسبب سوء التغذية الذي اصابنا جميعا، صغارا وكبارا، وأتذكر أن حلمها الوحيد قبل ان تموت كان أن تأكل تفاحة، ماتت ولم يتحقق حلمها الصغير. كل ما كنا نأكله هو البرغل والعدس الأحمر يوميا..أتذكر أنني عندما وصلت الى فرنسا، لم اكل البرغل والعدس لعدة سنوات وأحتجت الى الكثير من الوقت لأتصالح معهما…أود أن أضيف ايضا أنه تم وضع السم في طعامنا من خلال الخبز عندما كنا في المخيم ، وأن اختي تم ادخالها مع اخرين الى المستشفى والحمدلله نجت من الموت باعجوبة.

س : إ ذن كيف وصلتم الى فرنسا ؟

– : في المخيم دعينا في أحد الايام لتسجيل أسمائنا لاختيار اللجوء الى بلد اوربي في حالة منحنا الموافقة ، وفي الواقع كتبنا اسم فرنسا لان احد ابناء عمنا فعل ذلك، دون معرفة أي شيء عن هذا البلد، وذات يوم استيقظت لتقول لي أختي استعدي نحن ذاهبون الى فرنسا، ولم اعرف كيف وصلنا الى مطار ديار بكر ولا اتذكر كيف اتيت الى هذا البلد ، فكل ذلك كان حلما بالنسبة لي. وصلنا يومها الى فرنسا بعد قضاء اكثر من تسعة اشهر في مخيم ماردين، لكي يتم توزيع الموزعلينا اول وصولنا..كل شيء كان جديدا بالنسبة لنا، نساء جميلات وانيقات يرحبن بنا، اناس جدد يتسابقون للإهتمام بإحتياجاتنا وبصحتنا على الرغم من عدم معرفتهم لنا. لدى وصولنا كنت مريضة جدا حتى ان الطبيب لم يكن متفائلا بشفائي لاني اصبت بسوء التغذية.

س : كيف تأقلمتم في فرنسا ؟

– : في بداية الأمر، لم نكن نحس بالغربة كنا مع عائلتنا واقاربنا، حتى ان السلطات الفرنسية لم تشأ أن تفرقنا لكي لانشعر بالوحدة، كنا نعيش في ثكنات عسكرية مهجورة في مقاطعة سان فلورين في منطقة اوفيرن جنوب فرنسا، بقينا هنا ك تسع سنوات، تعلمنا فيها اللغة الفرنسية وذهبنا الى المدرسة، وفيها انهيت الدراسة الأعداية ومن ثم انتقلنا الى فالانس لأسباب اقتصادية كون اخواي الإثنين وجدا عملا هنالك.

س : ما السبب في اختيارك لدراسة القانون ؟

– : إخترت دراسة القانون وامتهان المحاماة لان الجالية الكوردية انذاك كانت بحاجة الى محامين يدافعون عن قضاياهم، فالكثيرون كانوا يجهلون القانون، وكنا بحاجة الى معرفة مضامينه بصورة جيدة لتسيير امورنا،إلا ان امتهان المحاماة كان بالنسبة لي امرا في غاية الاهمية للدفاع ليس فقط عن كورد العراق بل كورد جميع المناطق الذين يلجؤون الى فرنسا للحصول على الاقامة واللجوء السياسي هربا من بطش أنظمتهم الظالمة ، فقد ربتني عائلتي على مفهوم قومي بحت بغض النظرعن الانتماء الحزبي والعشائري، في بعض الأحيان ولدى دراسة قضايا متعلقة بزبائن كورد، كنت اود ان اذهب الى كوردستان واحمل السلاح واقاتل من اجل قضيتنا العادلة .

س : هل نجح أفراد عائلتك أيضا في حياتهم العملية ؟

– : نعم لدي اخ انهى دراسته في الهندسة الصيدلانية ولكن ما ان تأهب للبحث عن العمل اصيب بمرض نادر، وهو مقعد اليوم وعلى كرسي متحرك، يعتقد الاطباء هنا أنه ربما قد تأثر بالأسلحة الكيميائية، لإن أخي التحق بنا بعد رحيلنا كونه كان طالبا في دهوك، يبدو أنه مربمناطق القيت عليها اسلحة كيميائية سابقا وهو يروم الوصول الينا. اما اخوتي الاخرون كان أحدهم استاذا في مادة الفيزياء ، بسبب عدم استطاعته معادلة شهادته افتتح مطعما ، كما درس أحدهم الجغرافية السياسية، والآخردرس الإقتصاد واختي درست الإدارة.

س : ما هو اختصاصك وما هي القضايا التي تدافعين عنها ؟

-: انا درست القانون العام، ولست مختصة بمجال معين، ولا أحب البقاء في مكتب المحاماة واعطي النصائح الى الزبائن في مجال ما، بل أحب ان ادافع عن جميع القضايا من المدنية والتجارية والعقوبات..الخ. ولكن كما هو معتاد فاكثر القضايا التي تصلني هي قضايا الطلاق او قضايا عائلية بحتة.

س : هل تمكنت من الذهاب الى كوردستان ؟

– : نعم ذهبت الى كوردستان ولكن بعد مرور17 عاما، حيث وصلت الى فرنسا عام 1989 ولم تتسن لي زيارتها إلا في رحلة عمل مع المعهد الكوردي في باريس. ومنذ ذلك الوقت لم اعاود الذهاب إذ لم يتبق لي هناك من أقارب الا افراد قلائل .

د. تارا إبراهيم – باريس

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *