أكيتو رأس السنة الكلدانية / البابلية… تاريخا / بقلم عبدالاحد قلو

يعود اﻹحتفال برأس السنة الرافدية في اﻷول من نيسان إلى السلالة البابلية اﻷولى ، أي إلى مطلع اﻷلف الثاني قبل الميﻼد ، إذ تم على عهد هذه السلالة العمورية التي تنحدر عن الكلدان اﻷوائل ترتيب حلقات الحياة بشكلها شبه النهائي في حياة سكان بلاد ما بين النهرين سواء من الناحية الدينية أو اﻹقتصادية أو اﻹجتماعية ، أما قبل ذلك التاريخ فكان اﻹحتفال بأكيتو أو كما يسمى بالسومرية أكيتي يمثل أحد مناسبتين رئيستين (أكيتو وزاكموك) ، كان الوسط جنوبيون يحتفلون بهما منذ عهد الكلدان اﻷوائل في أريدو5300 ق.م ،أي(5300+2014) ويساوي 7314 سنة كلدانية في يومنا هذا..

وكان هذين اﻹحتفالين يتميزان بأهمية خاصة في كيش وأور وأوروك في فترة ما قبل الهجرة السومرية حتى نهاية العهد السومري الحديث 2004-2112 ق.م ، وكانت أور ممثلة بإلهها ننار تلعب دورا رئيسا في هذه اﻹحتفاﻻت ، وبخاصة في عهد سلالة أور الثالثة.

وبديهي أن الرافدين الوسط جنوبيين القدماء من الكلدان اﻷوائل والسومريين كانوا قد أعتمدوا اﻹعتدال الخريفي زاكموك الذي يتم فيه جني التمور كبداية للسنة مع احتفالهم بكﻼ اﻻعتدالين الربيعي والخريفي بذات القوة واﻷهمية ، لكن بداية السنة وهي الترجمةالحرفية للكلمة السومرية (زاكموك) الذي تبناه السومريون كانت طقوسه تتركز حول قدسية شجرة النخيل وممارسة شعائر الخصب والتجدد / الزواج المقدس ممثلة في العهد البابلي بمردوخ اﻹله الوطني للبابليين وزوجته صربانيتم اللذين يمثلهما على اﻷرض الملك البابلي وكاهنة المعبد العليا -السيدة اﻹلهية- اِينتوم.

أصل تسمية اكيتو

والحقيقة فإن اﻷسم أكيتو مشتق عن تسمية قديمة جدا هي آكيتي شي كور كو

-á-ki-ti-še-gur10-ku5

وهو عيد جز الصوف الذي كان يحتفل به منذ القديم في الفترة ما بين شهري آذار ونيسان ، وكان يعني عند العامة أيضا رأس السنة الجديدة وبخاصة في العهد قبل السرجوني (شروكين الكبير) ، حيث كان يحتفل به كما يثبت لنا ذلك نص لوح وصلنا من كرسو في مدينة أور الكلدان أوﻻ ، ثم بعد إنتهاء اﻹحتفاﻻت الرسمية يحتفل به في مدينة نيبور ، ولكن مع عودة هيمنة العموريين المنحدرين عن الكلدان اﻷوائل ﻻزمته صفة (عيد بداية السنة) أي رأس السنة وبالبابلية القديمة، فصار أكيتو اﻹحتفال الرسمي الوحيد الخاص برأس السنة الجديدة.

البابليون الكلدان أول من احتفلوا بأكيتو

وقد أنفرد البابليون بممارسة طقوس اﻷحتفال بعيد رأس السنة البابلية (أكيتو) في اﻷول من شهر نيسان من كل عام ، فيما كان اﻹحتفال بهذه المناسبة يتم في المناطق اﻷخرى من وادي الرافدين وخاصة في إقليم الشمال شوبارو / آشور في تواريخ ﻻحقة. وبديهي أن اﻹله مردوخ كان هو محور اﻹحتفال بعيد أكيتو سواء كان ذلك في بابل التي كانت هي المدينة اﻷولى التي يحتفل بها بهذه المناسبة المهمة أو في المدن اﻷخرى ، ولكن بعد دمار بابل على يد الملك اﻵشوري سنحاريب عام 689 ق.م، توقفت اﻹحتفاﻻت العظيمة في بابل ، فقام سنحاريب باﻹحتفال بعيد أكيتو في عاصمته نينوى جاعﻼ اﻹله الشوباري اﻷصل آشور يلعب الدور الرئيس في اﻹحتفاﻻت ، فأنقلب عليه أهل بيته وتمكن أحد أبنائه من قتله ، وهنا قام أبنه أسرحدون عن نية حسنة أو بناء على رغبة والدته الكلدانية نقية / (زاكوتو) باللغة البابلية بإعادة تعمير بابل ، وإعادة طقوس مراسيم اﻹحتفال بكبير آلهة العراق القديم مردوخ ، ويعتبر قمبيز الثاني أبن كورش الثاني آخر ملك قام بمراسيم أخذ يد اﻹله مردوخ في بابل عام 529 ق.م ، وذلك قبل تدمير زقورة بابل ومعبد اﻹيساكيﻼ في عام 482 ق.م في عهد الملك اﻷخميني أحشويرش اﻷول، لكن اﻹحتفال بعيد أكيتو بقي مستمرا في اﻹقليم البابلي بحسب الوثائق التي جاءتنا من مدينة أوروك حتى منتصف القرن الثاني ق.م .

الاماكن المحتفى بأكيتو منذ البداية..

والحق فإنه منذ العهد البابلي القديم كانت جميع اﻷنظار تتطلع في اﻷول من نيسان من كل عام صوب بابل العاصمة الرسمية للبلاد ، حيث كانت تجرى فيها اﻻحتفاﻻت الباذخة وسط تجمعات بشرية هائلة تحج إليها من كل أنحاء البلاد الرافدية القديمة وبضمنها اﻷحواز والشريط البحري الممتد حتى قطرايا ومنطقة الفرات اﻷعلى وصوﻻ إلى حران.

وكانت اﻹحتفاﻻت تجرى على مرحلتين وفي موقعين مختلفين هما معبد اﻹله اﻷعظم مردوخ إي ساك إيلا

أي المعبد المرفوع الرأس في زقورة بابل الشهيرة المعروفة بأسم إيه تيمن آن كي

أي بيت أسس السماء واﻷرض ، أما الموقع اﻵخر فهو المعبد المعروف بأسم بيت أكيتو الذي يقع خارج أسوار المدينة من جهة الشمال ، وجدير بالذكر أنه منذ مطلع اﻷلف اﻷول قبل الميﻼد عمد البابليون إلى تحاشي مناداة اﻹله مردوخ بأسمه المجرد بسبب سطوته اﻹلهية وهيبته في نفوس المؤمنين، وبدﻻ من ذلك راحوا يستخدمون أثناء ذكرهم له صفته الرمزية إيلو بعل أي (السيد اﻹله) المشابهة لما أعتمده كتبة العهد القديم في إستخدامهم لعبارة (الرب اﻹله) كصفة ﻹيلوهيم أﷲ العبراني.

وقت بداية الاحتفال من كل سنة

يبدأ عيد رأس السنة الجديدة أكيتو في اليوم اﻷول من شهر نيسان ويستمر لمدة أحد عشر يوما وتخصص اﻷيام الثمانية اﻷولى لممارسات التكفير عن الذنوب وﻻ يسمح لغير كهنة القداديس اﻹحتفالية اﻷوريكالو باﻹقامة في معبد اﻹيساكيﻼ الذي يعلو كما قلنا برج بابل المسمى إيتيمناكي ، حيث تقام الصلوات وتنشد التراتيل ، وفي اليوم الرابع يفتتح اﻹحتفال جماهيريا ويعلن الكاهن اﻷعلى لﻺيساكيﻼ الشيشكالو

بدء المراسيم اﻹحتفالية للسنة الجديدة على مستوى العامة ، مبتدئين بالتﻼوة الشعرية ﻷسطورة الخليقة البابلية اﻹينمو إيليش التي تعني عندما في العلى ، وذلك من قبل كاهن القداديس اﻹحتفالية اﻷوريكالو مصحوبا بكادر من الممثلات والممثلين الذين يقومون بتمثيل تفاصيل الملحمة وما تزال هذه التمثيليات الشعبية تشاهد في تمثيل (تشابيه) معركة الطف من قبل أبناء الطائفة الجعفرية الذين ينحدر معظمهم عن البابليين الكلدان.

وبعد اﻹنتهاء من تلاوة اﻷسطورة يمضي الملك إلى معبد إله الكتابة وأبن اﻹله مردوخ اﻹله نابو ليستلم الصولجان المقدس من الكاهن اﻷعلى الشيشكالو، بعدئذ يسافر الملك إلى مدينة بورسيبا مدينة اﻹله نابو التي تبعد سبعة عشر كيلومترا عن بابل ، حيث يقضي هنالك ليلته في معبد إله المدينة المقدس من البابليين واﻵشوريين على حد سواء (رسخت شميرام الكلدانية عبادته في آشور) ، وهنا يقوم الشيشكالو بتﻼوة أسطورة الخلق في بيت السنة الجديدة (بيث أكيتو) ، إن المغزى من زيارة الملك لمعبد اﻹله نابو هو لمساعدته في إخراج مردوخ من عالم الظلمة الكونية التي يعتقد أنها في العالم السفلي (كور) أو كما يسمى أرصت ﻻداري (أرض الﻼعودة) أو أرصيتو ناشه شيبﻼتي بمعنى أرض الناس السفليون.

تطهير ممتلكات الملك الشخصية وقبل اعادتها له..

وفي اليوم التالي (الخامس) يعود الملك بصحبة تمثال نابو الذي يتركه عند البوابة الجنوبية الغربية المسماة بوابة أوراش، ثم يقوم الملك بعدئذ بالتخلي عن شارة ملوكيته وهي الصولجان والحلقة والسيف أمام بوابة معبد اﻹيساكيﻼ ، وبعد سلسلة من الطقوس تعاد له شاراته تلك بعد تطهيره وتطهيرها بالماء المقدس ، ثم يعاد تثبيته كملك على البﻼد لكي يستطيع أن يدخل المعبد (طاهرا ) لغرض أكمال الطقوس اﻹحتفالية ، فيما يكرس بقية اليوم الخامس لطقوس التطهير التي يقوم بها كاهن المشماشو وذلك بنحر كبش ومسح جدران المعبد شكليا بدمه ثم إلقاء رأسه في النهر على أساس أن كبش الفداء هذا سيأخذ معه كل آثام السنة المنصرمة.

وهنالك طقس يقوم به الملك في عصر اليوم الخامس أيضا بصحبة الشيشكالو تكون مادة هذا الطقس شعائر أساسها ثور وحشي أبيض اللون ، وفي غضون ذلك يكون اﻷهالي في حالة من قصوى من اﻷهتياج وبخاصة بعد أن تمر عربة مردوخ في الشوارع دون سائقها كدﻻلة على الفوضى والعماء الكوني قبل تنظيمه من قبل مردوخ .

ولاء بقية الالهة للآله مردوخ

وفي اليوم السابع ينظف تمثال كبير اﻵلهة مردوخ ويكسى بثوب جديد كما تنظف بقية تماثيل اﻵلهة وتكسى أيضا بثياب جديدة ، ثم يقوم نابو بزيارة اﻹله المحارب ننورتا في معبده حيث يقومان سوية بالتغلب على إلهين من آلهة العماء في تمثيلية طقسية يدحر فيها تمثالي نابو وننورتا تمثالين ذهبيين رمزيين ، ثم يمضي بهما الكهنة إلى معبد اﻹيساكيﻼ لينضما إلى تمثال كبير اﻵلهة، وفي غضون اليومين التاليين تصل بابل تباعا آلهة أور وسيبار وكوثا وكيش وأوروك ونيبور والمدن اﻷخرى قادمة عن طريق البرأو بواسطة النهر في سفن خاصة توضع داخل المدينة على عربات تجرها الخيول ، وفي اليوم الثامن يبعث مردوخ من جديد فتتصاعد حدة اﻹحتفاﻻت إلى ذروتها بعد اخراج اﻵلهة من غرفها وعرضها على الشعب في طقوس يراد منها تأكيد وﻻء بقية اﻵلهة ﻹله بابل الرسمي وإﻹله اﻷعلى لوادي الرافدين القديم ، ويتم هذا الطقس بواسطة تدخل الملك ، حيث يدخل الملك إلى ضريح اﻹله ويأخذ بيده ويضعه في الباحة الرئيسة للايساكيلا ، فتتقدم كل آلهة البلدان لمنحه السلطة المطلقة عبر تنازلها له عن صفاتها اﻹلهية وترديد أسماء مردوخ المركبة الخمسين.

الخطاب السنوي والاناشيد الطقسية

يتلو بعدها (ممثل البرلمان) الخطة المزمع تنفيذها في السنة الجديدة والتي تشبه إلى حد بعيد ما يقوم به اليوم رئيس الوﻻيات المتحدة عند إلقائه لخطاب اﻻتحاد السنوي. ولكنها هنا تكون مشفوعة بالتمنيات والدعاءات بسنة خير وسلام ونجاح.

بعدئذ يقوم الملك بقيادة عربة اﻹله مردوخ الوهاجة بالذهب والفضة تتبعها عربات بقية اﻵلهة لتطوف شارع الموكب وسط روائح البخور المتصاعدة متوجهين صوب النهر ترافقهم أصوات المغنين والموسيقيين بينما يركع الناس تعبدا لدى مرور الموكب ، أخيرا يترك الموكب بابل متوجها صوب معبد بيت اﻷكيتو وبعد سفرة قصيرة على جانب الفرات يصل الموكب إلى بيت اﻷكيتو الضاج بالنباتات والزهور حيث يقوم الملك بمرافقة تمثال اﻹله وإدخاله بنفسه إلى داخل بيت اﻷكيتو ، فترتل اﻷناشيد الطقسية ومن بينها تلك المخصصة ﻹلهة الجنس والحرب عشتار ، وكذلك اﻷناشيد التي تخص اﻹله(أيّا) والد مردوخ وحامي مدينة أريدو عاصمة الكلدان اﻷوائل ، فيما تتعلق اﻻنشودة اﻷخيرة بتساؤﻻت بقية اﻵلهة عن مبرر تركهم لمعابدهم ، ثم يتوصلون إلى ضرورة تواجدهم مع مردوخ في هذه المناسبة

الهامة ، ثم تجرى بعض مراسيم التضحيات (القرابين) كما تجرى طقوس الزواج المقدس خﻼل اليومين التاسع والعاشر وذلك في الموقع الخاص من المعبد الذي يطلق عليه تسمية كيكونو أو الكاكوم وهي مقصورة الكاهنة العليا.

ختام الاحتفالات والمشاركين فيه

وفي اليوم اﻷخير يتم في معبد اﻹيساكيﻼ ترديد الدعاءات والتمنيات للسنة الجديدة ثانية بحضور كافة اﻵلهة المشاركة في الموكب ، بعدئذ تختتم اﻷحتفاﻻت بوليمة عامة باذخة لجميع سكان بابل والحجاج القادمين من المدن اﻷخرى تصاحب هذه الوليمة الموسيقى والتراتيل وكل تعابير الفرح اﻷخرى ويشارك في إحياء هذه اﻹحتفاﻻت:

اﻷسطال وهو الموسيقي -Astalu-

الحبو وهو الدرويش أومؤدي الرقصات الدينية -Huppu-

اﻷسينو وهو الصبي المعين -Assinnu-

القابستو وهو منظم اﻷدوار -Qapistu-

القوالو وهم المرددون أي القوالون -Qulu u-

الكور كارو وهوالراثي وهو من الخدام الدينيين -Kur garru-

الموباب بيلو وهو المضحك البهلول -Mubabbilu-

الموميلو والموميلتو وهما الممثل والممثلة -Mummelu Mummeltu-

المصطابسو وهو المصارع -Mustapsu-

الزميرو وهم المزمرون -Zammeru-

وفي اليوم الثاني عشر تبدأ تماثيل اﻵلهة التي وعدت بحماية بابل وتدعيم ركائز الحكم وتلطفها

بالسكان بالعودة إلى معابدها ويكون تمثال نابو هو أول من يغادر بابل تتبعه تماثيل بقية اﻵلهة.

وهكذا يعود الكهنة إلى معابدهم والحياة إلى مجراها الطبيعي.

عبدالاحد قلو

المصدر:

كتاب (الكلدان منذ بدء الزمان/ عامر حنا فتوحي)

http://kaldaya.net/2013/Doc&Books/Chaldeans%20Since%20the%20Early%20beginning%20of%20Time.pdf

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *