يسوع يمشي على الماء

 

 وأجْـبَـرَ يسوعُ تلاميـذَهُ للوقـتِ أنْ يركبوا السفينة ويتقـدَّموهُ الى الشاطيء المُقابل حتى         يَصْرِفَ الجموعَ. ولمّا صرفهم صَعِـد الجَبَلَ ليُصلِّيَ في العُـزلة (متّى14: 22-23).

ألا يُلاحظ في تصرُّف يسوع بإلزامِه تلاميـذَه بركوب السفينة، وصَرفِ الجُّـموع ثمَّ صُعودِه الى الجبل شيئاً مِنْ الغرابة؟ فـمِـنْ ناحية التلاميـذ بإلـزامهم لركوب السفينة والعبور بها، كان ليوعِـز للرياح أن تَـلطم السفينة بقوة. ومع كون الرَّب يسوع يحترمُ حُريةَ وإرادة البشر ويُقدِّرُهما كثيراً، إلاّ أنَّه في حالة قيام الإنسان بوضع نفسِه بين يدَيه الإلهيتين بمحض إرادته وكامل حُريتِه عندها يُلـزمُه الرَّبُّ أنْ يسلُكَ بِحَسَب إرادتِه، وهذا ما لاحظناه من قـول البشير متّى بأنَّه أجْبرَ تلاميذَه على الدخول في السفينة وهذا يَدل على تسليمهم حياتهم إليه بملءِ حُريتهم، فأراد دَفْعَهم الى البحر ليَختَبِروا حُضورَه في وقتِ حاجتِهم للنجاة من خطر هَـيجان العاصفة، فهو الأعلم بصالحِهم، وهو يدعوهم للدخول من الباب الضيِّق، ليس إمعاناً في ايلامِهم، وإنَّما ليستقبلَهم وسط المِحَن والآلام كمُعَـزٍّ لهم في ضيقِهم.

إنَّ الجموعَ الذين عاشوا هذه المُعجزة فعلياً اقـتنعَوا بأنَّ يسوع هو المَسِيّا المُنتظر بحيث لم يَشعُروا بمثل هذا الإقـتناع مِن قبل، وإنَّ تشبيهاً أجروهُ بين يسوع وموسى بحسب توقُّع الناس وتعليم الكتبة استناداً الى النبوَّة < يُقـيمُ الله لهم نبيّاً آخر مثل موسى> وهذا ما دَفعَهم لإمْساكِه وتنصيبِه ملكاً عليهم بالرغم مِنه < فلما رأى الناسُ الآيةَ التي أتى بها يسوع، قالوا: حَقّاً هذا هو النبِيُّ الآتي الى العالَم. وعَلـِمَ يسوعُ أنَّهم يَهُـمّونَ باختطافِه ليُقيموهُ ملكاً، فانصرفَ وعادَ الى  الجَبَل وحدَهُ > (يوحنا6: 14 – 15).

ليس مُستَغْرَباً أنَّ التلاميذَ شَعَروا بما شَعَرَ به الجموعُ وأرادوا مُشاركتهم بالأمل عَساهُ يَقـبل بإعلانِه ملكاً، ولذلك ألزمَهم يسوعُ بركوبِ السفينة ويسبِقـوه الى الشاطيءِ المُقابل أي الى بيت صيدا غربيِّ مكان المُعجزة (مر6: 45) فـدخلـوا بيت صيدا ومنها قصدوا الى كفرناحوم. فكان هذا الإلـزام ليس فقط لإختبار حضوره لنجـدتهم من هول العاصفة وإنـما بمَثابة دَفـعِـهم للسَّيـر في خِضمِّ تيارات هذا العالم المضطرب مَحمـولين بالصليب المتمثِّـل بالسفـينة ليجـتازوا من خلاله الى ميناء الـراحة السماوي في البَرِّ المُقابل، غير مُبالين بالمُغـريات المادية المنظورة، منطلـقين الى البدائـل السماوية غير الـمنظورة واللامتـناهية.

< ولما صرفهم صَعِدَ الجبل ليُصلّي في العزلة > ما كان يسوعُ بحاجةٍ للإعتـرافِ بالخطايا وطلَـبِ الغُـفـران وهو مَنبعُ النقاءِ والطهارة، بل كان يَـتوقُ لمخاطبة أبـيه السماوي لِـلَـذَّتِه الكبيرة فيها! ولعلَّه كان يرجو أباه مِن أجل الجُّـموع الذين يُريدون أن يُعلنوه ملكاً أرضياً لكي يُرشِدَهم لـيَعلَموا أنَّ مملكـتَه روحية وعليهم أن يَقـبلوا به ملكاً روحياً!. فصُعودُ يسوع الى الجـبل لكي يُصلّي مُنـفَـرداً، لا يعني تهـرُّباً مِن الخِـدمة العامة، وإنَّـما تأكـيداً للحَـياة المُـتحركة الملـيئة بالـتأمُّـل واللِـقاء السِـرِّي مع الآب السماوي في مكان تَـتـوفَّـر فيه السكينة والهدوء، وإنَّ الجبـلَ والبرِّية هما موضعان مثالِـيان للسكون والهدوء، وفـيهِـما ينسى المُختـلي هُـموم الحياة ومتاعِـبَها، حيث ينهمِـك بحَربٍ روحية ضِدَّ إبليس.

< وكان في المساء وحدَهُ هناك. وأما السفينة فقد ابتعدتْ عِدة غلواتٍ مِن البَر، وكانت الأمواجُ تلطمُها، لأنَّ الريحَ كانت مُخالفةً لها، وعـند آخِـر اللـيل جاءَ يسوعُ إلـيهم ماشياً على ماء الـبحـر، فـلما رآهُ الـتلاميذُ ماشـيا على ماءِ الـبحر، اضطـربـوا وقالـوا: ” هذا خيال ” ومِـنْ خَـوفِـهم صرخـوا. (متّى14: 24-26). هذا الحدث يُعطـينا مثالاً حَـيّاً لِـقِـصَّةِ الخلاص، فَـفي الهزيع الأول وقعتِ البشرية في وسط البحـر لدى سقـوط أبوينا الأوَّلَين في الفِـرْدوس فاضطربت سفـينة حَـياتهِـما وتعـرَّضَتْ للـدمار بسبب الريح العاتيةِ المضادة المتمثِّـلة بخدعـة الشيطان، وفي الهزيع الثاني بعـيداً عن الفِـرْدوس خضعَـت البشرية مستسلمة للناموس الطبيعي أي حكم الموت وليس مِنْ مُنـقـِذٍ، وفي الهَـزيع الثالث زَوَّد اللهُ موسى بالـنامـوس لِـبني اسرائيـل وكان عاجِـزاً لإنـقـاذ الإنسان من الموت والإنـتـقال من خلالِه الى حياة البِـر. أما في الهـزيع الرابع وفي مِلءِ الزمان وكان الـبشرُ في ظلام دامسٍ، جاء المَسِيّا الكلمة مُشرقاً بنوره الساطع على الجالسين في الظلمة وظِلال الموت، القويُّ والقادرُ الوحيدُ للمشي على سطح مياه البحر وتَعجِـزُ الرياحُ عن صَدِّه بخلافِ كُلِّ الذين سبَـقـوه. لقـد رَزَحَتْ البشرية بأسرها تحت ثِـقـل الخَـطـيئة، ما عـدا كلمة الله المُتأنِّس  المسيح المخلِّص هو الوحيـد القادم الى العالَم خالياً من الخطيئة والذي حملته مياه البحر ماشياً فوقها وهي مُبتهجة!!!

بعد الصُّراخ. < بادرهم يسوعُ بقـولِه: ” ثِـقـوا أنا هو، لا تخافوا ! فأجابَه بطرس: ” يا رب، إنْ كُـنتَ إيّاهُ، فمُرْني أنْ آتِيَ إليكَ على الماء” فقالَ له: “تعالَ ! ” فَـنَزَلَ بُطرُسُ مِن السفينة ومشى على الماء آتياً الى يسوع. ولكنَّه خاف عندما رأى شِدَّة الريح، فأخذَ يَغـرَق، فصرخ: “يا رَب نَجِّني!” فمَدَّ يسوعُ يَدَه لوقتِه وأمسكَه وهو يقول له: “يا قليلَ الإيمان، لِماذا شكَكْتَ ؟” ولما رَكِبا السفينة سكـنتْ الريـحُ، فَسَجَـدَ له الذيـن في السفـينةِ وقالـوا: “أنتَ ابنُ الله حَقّاً!” (متّى14: 27- 33). ويعني ذلك بأنَّ حضورَ يسوع الشخصي كـفيلٌ لتسكُـنَ رياحُ العاصفة.

لما عايـنَ القـديسُ بطرسُ يسوعَ الربَّ ماشياً على الـمياه، اشـتاقَ جداً مُشتهياً أن يلتـقي به عليها، ومع أنَّه سأل الربَّ بالمجيءِ إليه، وسمح له الرب، إلاّ أنَّ بطرس أخافته شِدَّة الريح على المياه. هذه الحادثة تعكس صورة البشرية قـبل تجسُّد الكلمة، حيث آمنَتْ بالله القادرعلى السير فوق مياه العالَم، وإذْ خَرَجَـتْ للإلتقاء به، نال منها العجزُ كلّياً وغَدَتْ قابَ قوسين مِنْ الغرق، فمَـدَّ الرَبُّ يَدَه عن طريق تجسُّد الكلمة الإبن، فأمسك بأيدينا بحُنـوِّه الكبير وغَـفَرَ لنا خطايانا ومنحنا إمكانية المشي معه على المياه دون أنْ نخافَ الغَـرق. ثمَّ أدخلـنا الى سفينة العهد الجديد على مثال بطرس ناوياً أن يُبحِـرَ بنا الى اورشليم السماوية!.

إنَّ هذه الحادثة يُفـيدنا تذكُّرُها كُلَّ حين لكي نُركِّز في سُلوكِنا على قوةِ ايماننا ونحن ننظرُ الى يسوع رَبِّنا < متطلِّعين دائماً الى يسوع رائدِ ايماننا ومُكَمِّلِه، فهو قد تَحَمَّلَ الموتَ صَلْباً هازئاً بما في ذلك مِن عار إذْ كان ينظرُ الى السُّرور الذي كان بانتظاره ثمَّ جلسَ عن يمين عرش الله > (عب12: 2). إنَّ بُطرسَ لم يلـقَ توبيخا مِن الربِّ يسوع لتجاسره بطلـبِه القيام بهذا العمل، بل وَبَّخَـه على قِـلَّة ايمانِه عند الـتـنـفـيذ فقط، لأنَّ مرضاة الله لا تَـتِم إلاّ بالإيمان المُسْنَـد مِن كلمتِه ولا يُعَدُّ ذلك جسارة بل فَـضيلة مُضافة الى الإيمان < مِنْ أجل ذلك ابذُلوا غاية جُهدِكم لتضيفوا الفضيلة الى ايمانِكم > ( 2بطرس1: 5). وما يُثيرُ العَجَبَ بأنَّ يسوع الرب، لم يأبَه لتهدئة الأمواج الشديدة التلاطم عند سير بطرس على الماء، حيث قال له “تعال” مُلبياً طلبَه ومُهَدِّئاً أمواج قلبِه ليسير بقوةِ الإيمان على المياه الهائجة ولا يَغـرق. لكنَّ الخوفَ زعزع ايـمانه فاستـنجد بيسوع فأنقـذه.

شفاء المرضى في أرض جَناسَرِت

يسوع واهِـبُ الشِّفاء

< وعَـبروا حتى بلغـوا البَـرَّ عند جنَّاسَرِت فَعَـرَفَـه أهلُ تلك البلـدة، فأرسلوا بالخـبَـر الى تلك الـناحية كُـلِّها فأتـوهُ بجميع المرضى، وأخذوا يسألونَه أنْ يَدَعَهم يَلْمِسون هُدْبَ رِدائه فَحَسْبُ، وجميعُ الذين لَمَسوه نالوا الشفاءَ. > (متّى14: 34 – 36).

عَـرَفَـه أهلُ تلك الـبلـدة لأنَّ يسوع كان قد زارها قـبل هذه الزيارة وطـرد الشياطين مِن رَجُلَـين ممسوسَـين وسمح للشياطيـن بالدخول الى قطيع الخَـنازير الذي كان يَـرعى على مسافةٍ منهما، وما إنْ دخل الشياطين في الخناسير حتى وثب القطيع كُلَّه مِن الجُـرف الى البحر وهلكوا في الماء، فلما عَـلـِمَ أهـلُ البلـدة بما جَـرى سألـوا يسوع ليـُغادر بلدهم. (متّى8: 28- 349).

أما في هذه الزيارة فَـقبلوه، وإذ وَهَـبَ يسوعُ السلامَ للنـفـوس التي أخَـذَ منها الإضطرابُ بـفِعـل الرياح الـمُضادة لـتعـيش في ظِلِّ سلامِه الهاديء والفائـق، عَـبَـر بسفينَـتِه الى منطقـةِ جناسَرِت فأحضروا إليه جَـمـيعَ المرضى التي كانت تَـعُـجُ بهم تلك الناحية، وطلبوا مِنه أن يَسمَحَ لهم بلـمس هُـدْبِ ردائِـه فقط، فـلمسوه جَـميعُهم ونالـوا الشفاءَ.فكان هذا الـقـبول جميلاً مُفرحاً.

إنَّ جناسَرِت وأهـلَها يُمثِّلان صورةً لهذا العالَم وأبنائه مِنْ ناحيةِ رفضِهم للمسيح يسوع، فحيـن حَضِـرَ بَـينهم أولاً كان يَـنـوي إنـقاذَهم بقُـدرته الفائـقة من سطوة الشياطين رفضوه. وأما في قُـبولهم له لدى حضوره الثاني في وسط شعبه القديم وإقرارهم به أنَّه في الحقيقة هو ابن الله. فالبقية الباقية منهم في ذلك الوقت ستخلص.(زكريا14: 16). سيقبلونه فيمنحهم البركة والشفاء (روما11: 11 – 16).

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *