هل كانت زيارة أوغلو إلى كركوك نعمة على التركمان أم نقمة؟ بقلم عبدالغني علي يحيى

من المسلم به، أن منتمي القومية أو الديانة الواحدة، مهما تعددت أوطانهم أو تباعدت، تجدهم ميالين إلى بعضهم بعضا، تخفق قلوبهم بحب بعضهم بعضا، وتعد تركيا أنموذجا جيدا على التعلق بالتركمان خارج حدودها، فيما ينظر الأخيرون إليها النظرة إلى الوطن الأم. ولولا الاختلاف بين المتحدرين من الأصول التركية في المذهب، لكان التعلق أشد. فعلى امتداد العقود الماضية وقفنا على دعم لافت لشعب البوسنة المسلم في قلب أوروبا من جانب تركيا، وقبلها تدخلها العسكري لصالح أتراك قبرص غير آبهة باحتجاج الغرب عليها، ناهيكم من أنها كانت السباقة في دعم شعب تركمانستان الشرقية في الصين.

من هذه الخلفية، يتبين كم يحظى التركمان العراقيون بالعناية والرعاية التركيتين لهم، والتي كانت أحد أسباب زيارة أوغلو إلى كركوك قبل فترة وجيزة والتي أثارت ضجة كبيرة وما زالت تداعياتها قائمة بدليل قيام بغداد بتشكيل لجنة لتقييمها، فرفع تقرير عنها إلى مجلس الوزراء العراقي، دع جانبا أشكالا من ردود الفعل العراقية عليها والتي بلغت حد المطالبة بقطع العلاقات مع أنقرة، الأمر الذي نستبعده طالما بقيت علاقات طهران بأنقرة على حالها، ثم إن العراق سكت عن أمور أعظم والمتمثلة في بناء تركيا لسدود على نهري دجلة والفرات واعتدائها شبه الأسبوعي على كردستان العراق. ومع ذلك فإن الزيارة لم تمر بسلام، فبعد ساعات على انتهائها، توالت أحداث كلفت التركمان العراقيين غاليا، منها قتل أفراد عائلة تركمانية في كركوك والذي لم ينل الاهتمام المنشود وسط تساؤلات: هل كان العمل إرهابيا أم مجرد جريمة اعتيادية. مثلما لم يحظ مقتل 8 من الشبان التركمان في ناحية «أمرلي» التابعة لقضاء طوزخورماتو عندما كانوا يسبحون في بركة من الماء وعلى يد إرهابيين، بالعناية المرجوة، فلقد اكتفى مجلس محافظة صلاح الدين بإدانة الحادث، ما يعني أن بغداد تفضل ما يشبه التراشق بالماء بدلا من التصعيد بالموقف مع أنقرة. وتعليقا منه على حادث «أمرلي» قال أرشد الصالحي رئيس الجبهة التركمانية إن «دواعي سياسية وراء استهداف التركمان»، مشيرا في الوقت عينه إلى اختطافات بحق التركمان في كركوك. ولم تتوقف تداعيات الزيارة عند الوقائع التي ذكرتها على سبيل المثال إنما تعدتها إلى محاولات للحكومة العراقية لإرسال القوات العسكرية المسماة بـ«لواء الذئب» إلى قضاء تلعفر ذات الأكثرية التركمانية، والذي اصطدم برفض محافظ نينوى له، وذلك خوفا من أن يؤدي ذلك إلى إخلال بالتوازن بالمشهد الطائفي هناك ولصالح بغداد، وقبله قاوم المسؤولون الموصليون فكرة فتح قنصلية إيرانية في الموصل لما فيها من إثارة للحساسية من جانب أهاليها السنة الذين ينظرون بمقت إلى إيران، على حد قولهم.

وقد ينبري أحدهم معترضا، من أن الحكومة العراقية كانت قد اعتبرت، قبل أيام من تلك الزيارة، الأقلية التركمانية قومية ثالثة في العراق، ما يعني حسب المعترض بطلان القول بتسليط العنصرية على التركمان، وهذه نقطة تسجل لصالح بغداد وفق اعتراضه، إلا أن ذلك الاعتبار لن يشكل مكسبا للتركمان، إذ وفقا لإحصاء عام 1957 السكاني فإن التركمان احتلوا المرتبة الثالثة بعد العرب والكرد من حيث عدد النفوس في العراق وتظل دعوة بارزاني التي أطلقها قبل أكثر من عقد إلى نفي صفة الأقلية عن التركمان والآشوريين، الأكثر إنصافا للأقليتين على مر تاريخ الدولة العراقية. وأعود إلى صلب الموضوع، ويخيل لي أن الحكومة العراقية في أجواء احتدام صراعها مع تركيا، كانت عازمة على تحجيم التركمان العراقيين حتى من قبل أن يقدم أوغلو على زيارته تلك، إذا أخذنا بالاعتبار أن انفتاحات الحكومات العراقية على المكونات الاجتماعية والأحزاب، غالبا ما كان يصاحبها اضطهاد على المنفتح عليه وإليكم أمثلة على ذلك:

في مقابلة له مع صحيفة «الصباح» العراقية العدد 2605 ليوم 6-8-2012 ذكر حامد مصطفى مقصود، أحد المشاركين في انقلاب 14 يوليو (تموز) عام 1958، أنه على أثر إقرار الزعيم عبد الكريم قاسم بشرعية الأحزاب السياسية وتعيينه للدكتورة نزيهة الدليمي عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وزيرة للبلديات فإنه نظم «حملة شرسة على قوى اليسار العراقي واعتقل مئات من الشيوعيين العراقيين فأغلق فروع منظماتهم مثل اتحاد الشبيبة الديمقراطية واتحاد نقابات العمال وتسريح 1700 ضابط من الدورة 13 بسبب نفوذ الحزب الشيوعي الكبير في تلك الدورة»… إلخ من اضطهادات أخرى نفذت من طرف حكومة قاسم. وفي عام 1979 زار صدام حسين العاصمة الكوبية هافانا، وفي سيارة مكشوفة ضمته مع كاسترو راح يحيي الجماهير الكوبية، لجلب نظر العالم الشيوعي على «انفتاحه» على الشيوعية، فيما كانت أجهزته الأمنية تنكل بالشيوعيين في أنحاء العراق. وفي حينه سجل على نظام صدام حسين سبق تصريحات معسولة مفعمة بالود حيال الكرد، شن حملات شرسة على الكرد تجسدت في محو قراهم وتسليط الأنفال عليهم… إلخ من المظالم الرهيبة. ثم إن معظم جرائم الإبادة الجماعية ضد الكرد حصلت في ظل «الحكم الذاتي» للكرد الذي أعلن عام 1974 والذي كان فارغا من أي محتوى، وأذكر كيف تزامن، تنظيم سيمينار بعنوان «الحكم الذاتي في فكر صدام حسين» في قاعة المجلس التشريعي بأربيل في مارس (آذار) 1988 مع قصف حلبجة بالقنابل الغازية السامة.

وعليه لا يغيب عن البال أن اعتبار التركمان القومية الثالثة في العراق لن يترتب عليه أي استحقاقات قومية لهم، مثلما لم تترتب استحقاقات قومية للكرد في المادة (5) من الدستور المؤقت للجمهورية العراقية الأولى والتي نصت على شراكة الكرد للعرب في الوطن العراقي وقل الشيء ذاته عن اعتبار العرب والكرد قوميتين رئيسيتين في العراق في دستور العهد البعثي الثاني 1968 – 2003 وكان من الأجدر بالحكومة العراقية الحالية أن تحول قضائي تلعفر وطورخورماتو إلى محافظتين وقرية «قرة قوين» التركمانية بالقرب من الموصل إلى قضاء وتحقيق مطالب عادلة أخرى للتركمان بدل وضعهم في المرتبة الثالثة في تسلسل القوميات العراقية والتي لم تكن ببال وخاطر التركمان.

لما تقدم، بمقدورنا القول: إن زيارة أوغلو إلى كركوك بالشكل الذي رأيناه وفيما بعد اعتزام دولت باهيجلي رئيس حزب الحركة القومية التركية القيام بزيارة إليها والتي اصطدمت بحجب تأشيرة الدخول إلى كركوك عنه من قبل الحكومة العراقية، فقرار من الحكومة التركية فتح قنصلية لها في كركوك أيضا.. كل هذا جعل بغداد تنظر إلى التركمان وكأنهم طابور خامس وقاعدة اجتماعية لتركيا في العراق ما يعطي العذر لـبغداد في السير قدما في اضطهاد التركمان أكثر. لذا وتأسيسا على ما مر نعود إلى السؤال العنوان: هل كانت زيارة أوغلو إلى كركوك نعمة على التركمان أم نقمة عليهم؟

عبدالغني علي يحيى

(كاتب سياسي – العراق)

(الشرق الاوسط اللندنية)

You may also like...