مواقـف حـفـرتْ مكانها في الذاكـرة

 

لن تعـني الأرض شيئاً لو لم يكن الإنسان ساكـناً فـوقها ، فـفي وجـوده تـدُبُّ الحـياة في البـيت والشارع وأمكـنة العـمل ، لابل في أعـماق الأرض كما في الفـضاء ، والمثل الألـقـوشي يـقـول : ( أرْأ بْـكــْـنـوشـْـتا وْ بَـرناشا بْـلـْـوشـْـتا ) الأرض بالجماعة والإنسان بالملبس ، فالأرض المسكـونة بالبشر تـكـون جـذابة تستـقـطب الزائـر والطالب والعامل والمبشّر والحاكم ، فـكأن الإنسان الذي يعـيش عـلى أرض ويغـطّي مساحـتها يصبح رداءاً لها كملابس الإنسان المهندم ، أما الأرض القـفـر فـهي رخـيصة لا تـجـذب إليها الناس ، والمثل المذكـور يُشَبـِّه الأرضَ المسكـونة بالإنسان الذي تـكـسوه الملابس فـيكـون أكـثـر قـبولاً ووقاراً وإحـتراماً من رجـل عاري بدون رداء ، إلاّ أنّ القـيمة الحـقـيقـية للإنسان ليست في ملابسه أو مظهره بل هي في مشاعـره وأحاسيسه وإستـعـداده للتعـبـير عـن إنسانيته تجاه الآخـرين حـين يتـرجـمها إلى فعـل ملموس يخـدمهم به ، وقـد عَـبَّـر الشاعـر عـن هـذا الواقع حـين قال :
 الناس للناس مِن بَـدوٍ ومِن حـضـرٍ       بعـض لبعـض وإنْ لم يشعـروا خـدمٌ
في مسيرة حـياةِ جـميعِـنا محـطات ومواقـف ومشاهـد لن تــُـنسى مدى الحـياة ، منها إسـتراحة تـنـفـضُ التعـبَ عـنا ، تأمّـل تــُـطلِق العـنان لأفكارنا ، تألـّـمٌ يُـعَـبِّـر عـن ظلم يصيـبنا ، فـرح لسعادة تـنعِـشـنا ، خـوف من خـطر يواجهنا ، إعـجاب يغـتبط له كيانـنا ، إفـتـخار يُـزيد من ثـقـتـنا ، هـذا بالإضافة إلى العـمل والنوم الضروريّـين لـنواصِل حـياتـنا ، ولكـن هـناك أيضاً محـطة ندم نـتيجة لخـطأ إرتـكَـبْـنا أو تـقـصير مارَسنا ، وإذا نستـخـدم أنا وغـيري وعـيَـنا فـنصحّح خـطأنا ونـُـعالج تـقـصيرنا ، فـفي المحـصلة لابـدّ أن نـنجح في حـقل من حـقـول حـياتـنا بعـد فـشلنا ، والأم تيريزا تـقـول : إذا كـنـتَ ناجحاً في حـياتك فإنك سوف تـربح بعـض الأصدقاء المزوَّرين ، كما ستـربح بعـض الأعـداء الحـقـيقـيّـين . ومن بـين المواقـف الكـثيرة التي حـفـرتْ مكانها في ذاكـرتي :
أولاً : في دراستي الثانوية كان الكـثيرون – ودون أن يـطلب والدي منهم – يعـرضون إستـعـدادهم لكـفالتي حـين أحـتاجها للقـبول في الجامعة ، ولكن حـين تـمَّ قـبولي في كـلية التربـية ـ بغـداد ( الملغاة مِن قِـبَـل النظام السابق في نهاية الستينات من القـرن الماضي وأعـيدَ فـتحها بعـد سنة واحـدة بشروط بعـثية ) وإحـتجـتُ فـعلاً إلى كـفالة بمقـدار 400 دينار من تاجـر أو موظف ذي راتب يؤهـله لذلك ، تـنـحّى كل أولئك جانباً بحجة أو بأخـرى ، كما قال الشاعـر :

ما أكـثر الإخـوان حـين تعـدّهم     ولكـنهم في النائبات قـليل

وقـد أعـجـبتـني صراحة أحـدهم حـين قال : أنا يمكـنـني أن أكـفـلك ولكن إبن أخي سيحـتاجـني في السنة المقـبلة حـين يدخل الجامعة وسأحـتـفـظ بالكـفالة له كي لا يحـير مثـلك . وقـد طرقـنا أبواباً عـديـدة فلم يُـفـتح أحـدها ، وأخـيراً تـذكـَّـر والدي صديقاً ألقـوشياً مخـلصاً أصيلاً يوم كُـنا في كـركـوك هـو السعـيد الذكـر سنحاريب ساكـو ( أخـو المرحـوم أوﭽـو ) وكان يعـمل محاسباً في شركة فـورستـر وصباغ ـ بغـداد ، فـلما سأله والدي حاجـتي لم يتـوانَ أبداً بل تـناول الهاتـف وإتصل فـوراً بتاجـر فـلبّاها ، والآن سؤالي هـو : ما الذي نـخـسره لو إتـخـذنا من هـذا الشهم قـدوة لنا فـنـنـقـذ كل مَن كان في مأزق بدون أن نعـطي له نـقـوداً . 
ثانياً : إستـلمتُ الأمر الإداري لتعـيـيني في محافـظة واسط  بتأريخ 3 /12 / 1973 وقـبل سـفـري إليها أوصاني خالي بأن أسأل عـن موظف تـلكـيفي في مديرية تـربـية واسط عـسى أن يفـيدني ( وهـذا يعـني أنه عـلى معـرفة تامة به ) ، ولما حـضرتُ صباح اليوم التالي المديريّة َ وسألتُ عـنه وكـتاب التعـيـين بـيدي ! رأيته وسلمتُ عـليه وقـلتُ له : خالي يسلم عـليك ! فـقال : مَن هـو خالك ؟ قـلتُ : جـرجـيس !!! نـظر إليّ بإستغـراب وطلب مني أولاً الأوراق التي بـيدي فـمسكـها بـيده بقـوة وكأنه حـجـزها عـنـده ثم قال : أنا لا أعـرفك سابقاً ولا أعـرف خالك ولا أعـرف شخـصاً بهـذا الإسم ولكـني سوف لن أترك أوراقـك مِن يـدي إلاّ حـينما أوصلها إلى المكان الذي تـريده ، فـما الذي تـريده ؟ في الحـقـيقة أنا إصطدمتُ وخـجـلتُ من الموقـف وتلعـثـمتُ بالكلام وقـلتُ له : أرجـو عـدم المؤاخـذة فأنا مجـرد أوصلتُ سلامه لك ولا أريـد غـير سلامتكَ وأنا أستأذن كي أذهـب وأتابع تـعـيـيني ، ثم مددتُ يدي نـحـوه لأخـذ أوراقي منه !! فـكـرّر كلامه أنه لن يترك أوراقي من يـدَيه إلاّ بعـد أن يصل بي إلى ما يُـريحـني ، فـقـلتُ له : إنّ هـذا أول تـعـيـين لي وأنا لا أعـرف شيئاً عـن أفـضل مكان شاغـر في مدارس الكـوت ! فـقال : إجـلس وسآتيك بعـد قـليل ، ولما جاء أخـبرني بأن أفـضل مكان شاغـر في حـينها هـو في مدرسة ثانـوية تبعـد عـن المركز بالباص زمناً أقـل من خـمسة دقائـق كما ويمكن الذهاب إليها مشياً عَـبر سـدة الكـوت حـيث تـقع في نهايته مباشرة ، فـشكرتـُه عـلى شهامته . والآن ، كم من أمثال هـذا الرجـل نـجـد في المجـتـمع ؟ ولماذا لا نـكـون أصحاب نـخـوة مثـله للمحـتاجـين قـبل أن يطلبوا منا حاجـتهم ، طالما لا يكـلفـنا ذلك دولاراً واحـداً ؟ بعـد ذلك عـلمتُ بأن خالي لا يعـرفه شـخـصياً بل يعـرف أخاه وهـو جاره في منـطقة البتاويّـين .
ثالثاً : تسرحـتُ من خـدمة الإحـتياط بتاريخ 5 تشرين الثاني 1984 أثـناء ساعات هـجـوم سيف سعـد ، وأنا في الجـبهة سلمتُ تجـهـيزاتي العـسكرية كافة وإرتديتُ ملابسي المدنية وصرتُ أنـتـظر كـتاب تسريحي من وحـدتي العـسكـرية المطبوع والجاهـز لإمضاء السيد الآمر المقـدم الذي لن يكـلفه أكـثر من شخـطة قـلم ، إلاّ أنه كان مشغـولاً بالإستـلقاء في ملجـئه للراحة فـلم يوقعه في ذلك اليوم ونمتُ عـلى مسؤوليتي في معـسكر قاطع سيف سعـد وبالملابس المدنية . وفي صباح اليوم التالي إنـتـظرتُ حـتى إستـراحة الساعة العاشرة ولم يوقعه حـيث قال لعـريف الفصيل قـل لـ مايكل أن ينـتـظر . ثم صارت فـتـرة الغـداء وقـدّم العـريف كتابي إلى السيد الآمـر لتـوقـيعه ، فـقال له : لمذا مايكل مستـعـجـل ؟ وأخـيراً قال لي البعـض أنّ هـناك شخـص يمكـنه التأثير عـلى الآمـر هـو نائب ضابط ورفـيق في قـلم اللواء ، فـذهـبتُ إليه وقـلتُ له : أخي أنا لا أعـرفـك ولا تـعـرفـني ولكـني في مأزق ، وقـيل لي أن لا أحـد يمكـنه مساعـدتي به إلاّ أنـتَ ، فـقال : قـل لي ما هـو وإعـتـبـره مقـضياً . ولما أوضحـتُ له كل شيء ، قال : هات الأوراق ، فـذهـب إلى الآمـر ووقع كـتابي خلال ثوان وسلمني إياه وشكرته . إن المقـدم الآمر قـبـِلَ عـلى نـفـسه أن يركع أمام نائب ضابط رفـيق حـزبي ولم يقـبل أن يكـون قائـداً عـسكـرياً محـتـرفاً ويسلك وفـق السياقات العـسكـرية ومحـتـفـظاً بكرامته .
رابعاً : حـينما وصلنا إلى اليونان كـمحـطة إنـتـظار ، كان عـلينا في البـداية أن نبحـث عـن أيّ عـمل حـتى يمكـنـنا مواصلة الحـياة لحـين حـصولنا عـلى موطىء قـدم ثم وصولنا إلى المستـقـَـر . وبعـد مدة عـلمنا أن هـناك فرصة عـمل سهـلة حـيث تـؤخـذ أجـزاء اللعَـب من مصنع أو مخـزن إلى الدار ، وتــُجـمع ( تــُـرَكـّـب ) ثم تــُرَد إلى صاحـبها لقاء أجـرة بسيطة هي أفـضل من لا شيء . وفي تلك الأثـناء كـنا قـد تـعـَرفـنا عـلى رجـل يوناني يخـدم العـراقـيّـين كـثيراً ، وحـكـينا له الموضوع فـقال لنـذهـب الآن ونـكلم صاحـب العـمل ـ قـلتُ له : إذا تـكـلمنا مع اليوناني نـحـصل عـلى عـمل وإذا كان الأمر بـيد عـراقـي لن نـحـصل عـلى شيء ، فإستـغـرب وقال : أنا أعـتـقـد العـكس . ولما وصلنا إلى المكان رأينا شاباً عـراقـياً جالساً مثل المدير وبمثابة ( المسؤول عـن التـعـيـينات !) فـكـلـّمتــُه بالسورث عـن الموضوع فـقال أنا ليس بـيـدي شيء بل بـيـد صاحـبة العـمل ، قـلتُ له : كـلـّمها عـوضاً عـني فأنا لا أعـرف اللغة اليونانية ، قال : طيّـب سأكـلمها بعـد مشوار ، قـلتُ : قـل لها أنّ لي عائلة كـبـيرة وحـديثة الوصول ونـحـن بحاجة فـعلاً ، فـقال : هل تـريدني أن أحـكي لها قـصة حـياتك ؟ فـعـلمتُ أنه لن يعـطي لنا فـرصة عـمل وعـليه قـلتُ له : إترك الموضوع ولا تــُـزعج نـفـسك ، ثم شكـرته وغادرتُ ، فـقـلتُ لصاحـبي اليوناني الذي معي إنّ تـنـبّـئي كان صحـيحاً ، فهـذا العـراقي من جـماعـتـنا لن يعـطي لنا فـرصة عـمل ، وغادرنا المكان .
والآن إستـمتـعـوا بـبعـض الأبـيات الشعـرية من إيليا أبو ماضي :

أيقِـظ شــــــعـورَك بالمحـبة إنْ غـفا     لولا شــــــعـور الناس كانوا كالدّمى
وإعـمل لإسعاد السِّـوى وهـنائــــهم   إنْ شِـئـتَ تسعـد في  الحـياة وتـنـعّـما
أحـسِنْ وإن لـم تــُجـزَ حـتى بالــثـنا    أيَّ الجـــزاء الغـيثُ يبغي إنْ هـمى ؟
لا تطلبنَ مَحَـبة مِن جاهــــــــــــــــلٍ    ألمرء ليسَ يُحـِـبُ حـتى يَـفهــــــــما
وإرفـِق بأبناءِ الغـــــــــــــباءِ كأنهم    مرضى ، فإنَ الجهلَ شيءٌ كالعَــــمى

ومِن الإمام الشافـعي :

سـلام عـلى الدنــــيا إذا لم يكن بها     صديق صدوق صادق الوعـد منصفا
إذا لم يكـُن صَـفـْــوَ الوداد طبـيـــعة     فلا خـيــــــــر في خـل يجئ تـكَـلــُّـفاً
إذا المرء لا يَـرعــــــــاكَ إلاّ تـكـلفاً    فـدَعه ولا تـكـثر عـليه التأسُّــــــــــفا
ولا خـير في خـل يخـون خـليلــــــه     ويلقاه مِن بَعـد المودّة بالجـــــــــــفا
ويـنكـرُ عَـيشـــــاً قـد تـقادمَ عـهـدُه     ويظهر سراً كان بالأمس قد خــــــفا
فـما كـلُّ مَن تــَهـواهُ يَهـواك قـلــبُه      ولا كـل مَن صافـيتــَه لك قـد صفــا
فـفي الناس إبدال وفي الترك راحة    وفي القـلب صبرٌ للحـبـيب ولو جَــفا

وأخـيراً ، قال شاعـر :

فـلـقـد نصحـتـكَ إن قـبلتَ نصيحـتي    والـنصح أغــــلى ما يُـباع ويـوهَـب

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *