مرثية ذاتية لها بقية… خاطرة قصصية رقم (9) بعنوان:كتاب أم كباب؟

كُتب على العراقيين أن يكون رغيف خبزهم اليومي المطعّم بالرمل ونشارة الخشب عنوانا لـ “الصمود والتصدي” خلال السنوات التي تلت خروج الجيش العراقي من الكويت، وكانت لفافة التبغ المحلية، الحبلى بورق العنب والديدان، وربما روث الحيوانات، عنوانا لـ ” النصر” و”الكبرياء”. كانت لفافتي تحديا أمام الدخان المنبعث من سيكارة المالبورو التي كان يتغنى بها نفر من الطلبة العرب، وبعض الفاشلين من طلبتي العراقيين، جيئة وذهابا أمام مكتبي في الكلية. ورغم وضوح الرسالة التي كانت سحابات دخان تلك السيكارة بالتحديد تحملها إلى مكتبي لمئات الأيام من الحصار أثناء الدوام، لم استسلم أمام المغريات من أجل شراء علبة مارلبورو. رفضت التدريس الخصوصي كوسيلة لكسب العيش. رفضت التدريس في البرنامج المسائي لنيل درجة البكالوريوس. كان بإمكاني أن أكون تاجرا كوالدي منذ أن نبت شاربي، ولكنني اخترت العلم دون التجارة، على عكس ما كان والدي يتمناه لي. تذكرت الديك الذي أهدته والدتي (رحمها الله) إلى المعلم أوغسطين (رحمه الله) في قرية باطنايا  شمال مدينة الموصل سنة 1956، وتذكرت يحي برصوم، المدرس في كلية بغداد سنة 1964، عندما أخذني والدي إلى داره في الكرادة لأتلقى منه دروس خصوصية في مادة الكيمياء التي اخفقت بها في الدور الأول ونجحت في الدور الثاني. تلازم عقدة النجاح والرسوب كل تلميذ، ولكن ربّ عقدة هادية! لم أساوم على العلم سوى مرتين مكرها أخاه. الأولى كانت سنة 1973عندما توقفت التعيينات في دوائر الدولة العراقية، باستثناء منطقة الحكم الذاتي، أيام تأميم النفط. لم أكن مدرسا رسميا، لكنني كنت خريجا متفوقا يساعد أخاه في محل لتصليح الأجهزة الكهربائية. طـُلب مني تدريس ثلاثة من طلاب البكالوريا الراسبين في اللغة الإنكليزية بالدور الأول، كل على حدة. نجح الثلاثة في الدور الثاني وقبضت أجوري من اثنين منهما، بينما ولـّى الثالث هاربا. أما الثانية، فكانت سنة 2000 في ليبيا التي حجبت رواتبي ورواتب زملائي العراقيين دون مبرر لمدة أشهر عديدة. ولهذا السبب، كان التدريس الخصوصي في ليبيا أمرا مألوفا بين العراقيين. لقد زلت قدمي من أجل لقمة عيش عائلتي ودفع بدل إيجار الشقة والفواتير التي لا ترحم أحدا.  والأنكى من ذلك، فقد شمل الحجب مكافأة نهاية الخدمة إلى يوم القيامة رغم حصولي على موافقة وزارة المالية في هذه الدولة الغنية بوجوب صرفها. ومع كل ما تقدم، أشعر بازدراء إزاء التدريس الخصوصي، وإن شرعنه الكثيرون.

ورغم رداءة الحصة التموينية وتدني الراتب الشهري إلى ما يعادل أربعة دولارات إلا ربعا (وهذا أعلى راتب كان يتقاضاه البروفيسور في الجامعات العراقية) إمتنعت عن تدريس طلبة البكالوريوس في الحصص المسائية لإيماني بأن التدريس سيكون شكليا ولا يمكن معادلته بالتدريس الصباحي. لقد إستشرى الفساد العلمي الذي تشمئز النفس من الخوض في تفاصيله. وبديهي أن الاستثناءات أمر وارد في هذا المقام لأن هنالك من أكمل الدراسات العليا بجدارة. كان يأتيني بعض طلبة الدراسة المسائية إلى مكتبي صباحا للإستشارة وبين أصابعهم سيكارة المارلبورو أو الروثمنز. كان الأستاذ أحمد يتردد إلى مكتبي، ولا يمانع في أن يقبل منهم سيكارة يضعها خلف أذنه كي يعطيها لي بعد انصرافهم. والحق يقال: كنت أدخنها بعمق وحسرة، بينما يواسيني أحمد بروحه الخفيفة المرحة ونكاته الساخرة وهو ينوب عني بـ “لف” السيكاير المحلية الواحدة بعد الأخرى ويودعها في علبة المارلبورو الفارغة. كان دائما يذكرني بالعلم والكتاب ويقول بلهجته المصلاوية:

أبو لورا، أيما كتاب، أيما بطيخ…

وعندما كنا نعبر الشارع المقابل لبوابة الجامعة، الذي تنتشر على ناصيته المطاعم، كان يستنشق رائحة الدجاج المشوي ويناغي معدته:

– الحمد لله رب العالمين… لقد شبعت من الرائحة…

وما أن نقترب من شوّاية الكباب، يسحب أحمد نفسا عميقا وكأنه يطير على سحابة الدخان المنبعث إلى الأعالي، فيقول:

ها أبو لورا… لو خيّرني أحد بين الكتاب والكباب، لما ترددت في طلب الكباب ونبذ الكتاب.

كنت أضحك، بينما هو يسترسل في كلامه مشيرا إلى الجالسين في المطاعم:

أنظر من هناك؟ جماعة المارلبورو… أغلبهم طلبة عرب وجماعة البورصات.

كنت أتفق مع أحمد في كل ما يقوله عن هولاء النماذج من الطلبة. كان أغلب الطلبة العرب من المبعوثين على حساب القيادة القومية أو وزارات بلدانهم أو ممن كان يعلم ذووهم بأن المائة دولار التي يرسلوها لهم شهريا مبلغ يحسدون عليه في العراق… شقق مفروشة وسهرات ليلية حتى الفجر. أما جماعة البورصات، فهم اولئك الطلبة الفاشلون أكاديميا ويتاجرون بأرزاق المعدومين من مواطنيهم. إنهم تجار حروب يسخرون من منصب “أستاذ جامعي” بسبب راتبه المتدني. ومع ذلك، لم أتفق مع الأستاذ أحمد في تفضيل الكباب على الكتاب الذي كنت أرسل في طلبه وأحصل عليه مجانا ليس من الصين فقط، وإنما من أرجاء العالم، رغم الحصار، والشهود من طلبتي ممن حصلوا على الماجستير أو الدكتوراه ما زالوا أحياء يرزقون، وأغلب ظني أنهم، كأستاذهم، من عشاق الكتاب مهما تعددت أسباب تفضيل الكباب،

وإلى مرثية قادمة…

الأردن في 3/1/2010

gorgis_3@yahoo.co.uk

You may also like...