مثل الكنز واللؤلؤة

< مثل ملكوت السموات كمثل كنز دُفِن في حقل وجده رَجُلٌ فأعاد دفنَه، ثمَّ مضى لشدَّة فرحِه فباعَ جميع ما يملك واشترى ذلك الحقل > (متّى13: 44).

 

الكنز المدفون

لقد تحدَّثنا في المثالين السابقين عن دور الكنيسة في نشر بشارة الملكوت بشكل عجيب وغريب معاً وببدايةٍ صغيرة، مُقَدِّمةً شخصَ المسيح سِرّاً للملكوت الحقيقي. أما في هذا المثل فلا بدَّ أن يقومَ المؤمنُ بدوره بكفاح مستمر ودائم للبحث عن الكنز المخفي في الحقل ” يسوع المسيح “. الحقل يُمَثِّل ” الصلاة والصوم وتطبيق وصايا الله” أما تَعَـلُّم الكتاب المقدس بِعَهدَيه فهو الحقل الذي يَكمُنُ في طَيّاتِه سِرُّ المسيح يسوع ككَنزٍ مَخفي، لا يملكُه ويتلذَّذ به إلاَّ الدؤوبون في البحثِ فيه. واجتهاد الإنسان يجب أن يتركَّز على معرفة شخص يسوع المسيح جيِّداً وبمعرفة ذلك سيلـتَذُّ بالرِّفقة معه ويكون قد حصل على “الكنز” المخفي في الحقل. وللأسف فالكثير مِن البشر يعيشون ضِمن الكنيسة ” الحقل ” ولكن بشكلٍ سطحيٍّ روتينيٍّ لا يوصِلُهم الى الفرح والإستِلذاذ بصُحبة المسيح.

مِن المعلوم أنَّ المسيح قد جاء الى بيتِ اسرائيل خاصتِه وطلبَ مِنهم ثِماراً فلم يَجِد، سَعَى الى لَـمِّ شَملِهم ومُباركـتِهم فرفَـضوا، فاضطرَّ الى زَرْع زَرْعِـه الطيِّب في سائر الأماكِن الأخرى ليُعَوِّضَ عَن خاصتِه الضالة بشعبٍ ينتسبُ إليه عَن طريق كلمة الله، ويَبدو أنَّ العَدُوَّ الشرير حاول إفساد الغَلَّـةِ وقد أفلحَ بحسب الظاهر، حيث يُرينا يسوع في مَثَل الزارع بأنَّ رُبْعاً واحداً مِن البِذار أتى بثِمار جَيِّدة بخِلاف الثلاثة الأرباع الأخرى فاستحقَّت الدينونة. وفي مَثل الخميرة رأينا كيف تَسَرَّبَتْ التعاليم الفاسدة بين أتباع المسيح وباسم المسيح فأصبحت كخميرةٍ فاسدة أفسدَت العجين. أما في مَثل حَـبَّة الخردل فنرى أنَّ نِظاماً عالمياً قد قام باسم المسيح وتحت رايتِه. فقرَّرَ المسيحُ الرب المُحافظة على المُنتمين الى هذا النظام ويقتنيهم مهما كان الثمن، ومِن أجلهم ترك كُلَّ حقوقِه وامتيازاتِه كابن الإنسان وابن داود بن ابراهيم بحسب الجسد الى حين، وقَبِل باحتمال الإهانة والعار بالموت على الصليب، ولدى قيامتِه المجيدة استعادَ كُلَّ حقوقِه وألقابه بشكلٍ أمجد وأسمى. وأُوليَ كُلَّ سلطانٍ في السماء والأرض (متى28: 18) لأنَّه قد استحَقَّه بتواضعِه وموتِه انظر(فيلبي2: 5 – 11).

ليس بإمكان أحدٍ أن يستوعِبَ مضامين الكتاب المقدس في قلبِه ويتفاعَلَ معها، إنْ لم يُنَقِّي قلبَه مُستَهيناً باللذائذ التي يطلُبُها الجسد، ويتحَكَّمَ باشتياقاتِه الأرضية دون أن يُهمِلَ التعاليم الإلهية، ويتفرَّغ على استيعابها ليلتقي مع المسيح الرب المتجَسِّد. علينا أن لا نسعى الى مديح من الناس عن كُلِّ عمل صالح نفعله، إذْ يجب أن نقوم بأعمالنا الظاهرة بطريقةٍ تبقى فيها الغاية خفية، وبهذا نجعل مِنها مثلاً لقريبنا، في حين تبقى غايتُنا غير مكشوفة وهي التي يُسرُّ بها رَبُّنا.

اللؤلؤة الثمينة

قال الرَّبُ يسوع: ” ومَثَـلُ ملكوت السَّموات كمَثَـل تاجرٍ كان يطلُبُ اللؤلؤَ الكريم، فوجدَ لؤلؤة ثمينة، فمضى وباع جميعَ ما يَملِك واشتراها ” (متى13: 45).

يُرمز الى التاجر هنا بأنَّه المسيحُ نفسُه، فقد شَبَّهَ نفسه في مَثَل الكنز بإنسانٍ كان ماشياً في طريقه وبالصدفة وجد كنزاً مطموراً. ولا بُدَّ في هذا المَثَل أن هذا التاجر يمتلك خِبرةً ودِرايةً بالأشياء الثمينة، فسَعى للبحث عَن اللؤلؤ الكريم ليختار ما يُناسِبُه مِنه، وفي خِلال بحثِه وجدَ لؤلؤةً واحِدةً غالية الثمَن. ففي مَثَل الكنز وجدناه إنسانا آتياً الى العالَم بصِفتِه ابنَ داود بن ابراهيم، وعند رفضِه مِن بني اسرائيل خاصتِه غدا وكأنَّه حسبَ الظاهر بقيَ وحيداً لم يَعُد يملك شيئاً، ولكِنَّه وجدَ كنزاً مخفياً مِن قِبَل العناية الإلهية. أما في مَثَل اللؤلؤة فنتخَيّلُه في حالتِه السابقة لمجيئه الى العالَم. ولما حضِرَ الى العالم سَعَى للحصول على لآليء كريمة فوجدَ واحِدةً باهضة الثمن، فمَضَى وباعَ جميعَ ما يملِك واشترها.

نستخلِـصُ مِن هَـذين المَـثَـلـين مَعْـنيَـين جَـميلـين مِن ناحية عَـمَل يسوع الفدائي، فقـد شَمَلَ الجميع بتعمـيـمِه، أما فوائـده فقد اقتصرَتْ على كُلِّ المؤمنين به.

1 –  بذلَ يسوع المسيح نَفسَه  فِداءً عَن سائر البشر على الإطلاق < وكما رفع موسى الحيَّةَ في البرية فكذلك يجب أن يُرفعَ ابن الإنسان لِتَكونَ به الحياة الأبدية لِكُلِّ مَن يؤمِن …> (يوحنا3: 14- 18) < أنا الخُبزُ الحَيُّ الذي نَزَلَ مِن السَّماء مَن يأكُلْ مِن هذا الخُبز يَحْيَ لِلأبد. والخُبزُ الذي سأُعطيه أنا هو جسدي أَبذِلُه لِيَحْيا العالَم > (يوحنا6: 51). < أما الآن فقد أُعلِنَ البِرُّالذي يمنحُه الله، مُستقلاً عَن الشريعة، ومشهوداً له من الشريعة والأنبياء … > (روما3: 21 – 26) < وكُلُّ شيءٍ هو مِن عند الله الذي صالَحَنا مع نفسِه بالمسيح، ثمَّ سَلَّـمَنا خِدمة هذه المُصالحة > (2قورنتوس5: 18 – 21) <  إنَّ اللهَ واحِدٌ. والوسيط بين الله والناس واحِدٌ، وهو الإنسان المسيحُ يسوع الذي بَذَلَ نفسَه فِديةً عِوضاً عن الجميع، هذه شهادة تُؤَدَّى في أوقاتها الخاصة > (1طيمثاوس2: 5 – 6).

وهناك شهاداتٌ أُخرى كثيرة  جداً تؤيِّد هذه الحقيقة السامية، بأنَّ عدالة الله قد اكتفَتْ كُلِّياً بموتِ المسيح وكُلُّ الآتين الى الله عن طريق المسيح يُقـبَلون، فلنَكُن واثقين تماماً بذلك، حيث إنَّ هذه الحقيقة هي أساسُ تبشيرنا الراسخ بالخلاص للجميع. إنَّ دَم يسوع الذي سُفِكَ كُفّارةً عن خطايانا له قيمة ثمينة في نظر الآب السماوي، إذْ لو تابَ الخطأَة جميعاً مُلتجئينَ إليه لَـنالوا الخلاص، ويُسَر الله الآب بخلاصِهم وليس بهلاكِهِم < ولما اقتربَ فرأى المدينة “اورَشَليم” بكى عليها وقال: ” ليتَكِ عَرَفْتِ أنتِ ايضاً في هذا اليوم طريق السلام! … > (لوقا19: 41- 44) < أَحَـقّاُ أُسَرُّ بموتِ الشِّرّير يقول السيد الرَّب؟ أليس برُجوعِه عَن طُرُقِه الآثِمة فيحيا؟ > (حزقيال18: 23). هذه هي نتائج الإفتداءُ بالكفارة، فالمسيح قد اشترى بموتِه حَـقلَ العالَم، فينبغي على كُلِّ إنسان أن يستودِعَ نفسَه لدى مَن اشتراه. < وكما كان في الشعب قديماً أنبياءُ دَجّالون، كذلك سيكونُ بينكم أنتم ايضاً مُعَلِّمونَ دجّالون. هؤلاء سَيَدُسُّون بِدَعاً مُهلكة، ويُنكِرونَ السيد الذي اشتراهم لِنَفسِه. وبذلك يَجْلِبون على أنفسهم دماراً سريعاً. وكثيرون سيسيرون وراءَهم في طُرُق الإباحِيَّة. وبسببهم تُوَجَّه الإهانة الى طريق الحَق > (2بطرس2: 1- 2) وبناءً الى هذه الكُفّارة تَمَّ توجيه الدعوة الى الجميع < فقال له يسوع: ” صنع رَجُلٌ عشاءً فاخراً، ودعا إليه كثيراً مِن الناس. ثمَّ أرسل خادمَه ساعة العشاء يقولُ للمدعوين تعالوا، فقد أُعِدَّ العشاء… > (لوقا14: 16- 24).

2 – إنَّ يسوع المسيح قَبِل بالصلبِ نيابةً عن الذين يؤمنون به مُحَمِّلاً ذاتَه دينونةَ خطاياهم < وهو الذي حَـمَلَ خطايانا في جسدِه على الخشبة … > (1بُطرس2: 24).أيها الإخوة القراء الأعزاء إنَّ الوحيَ لا يقصدُ مِن الأمثال توضيح حقيقة الكنيسة وما لها مِن امتيازات باعتبارها جسدَ المسيح السِّري وعروسَه، فهذه الحقائق تمَّ الإعلانُ عنها بعد موت المسيح وقيامتِه وارتفاعِه داخلاً الى مجدِه وحلول الروح القدس في قديسيه انظر (اعمال الإصحاح 2). وإذْ إنَّنا الآن وقد عَرَفنا ما هي الكنيسة، فلا حَرِجَ علينا إنْ قلنا عنها أنَّها هي اللؤلؤة الواحدة الغالية الثمَن، التي أحَبَّها المسيح وفضَّلها على كُلِّ مِما اشترى العالَم < بما أَولَيتَه مِن سُلطانٍ على جميع البشر لِيَهَبَ الحياة الأبدية لجميع الذينَ وَهَبتَهم له. > (يوحنا17: 2) < إنَّه كُفّارةٌ لِخطايانا لا لِخطايانا وَحْدَها، بل لِخطايا العالَم أجمع. > (1يوحنا2: 2). فهذان المعنيان لعَـمَل الفداء اجتمعا معاً، فإنَّ الآب قد أولى الإبنَ سُلطاناً على كُلِّ جسدٍ بحسب المعنى الأول، وأعطى الإبن حياةً أبدية للذين أُعطوا له مِن الآب وفقاً لقصدِه الأزلي وهذا بحسب المعنى الثاني.

مَـثَلُ الشبكة

” ومَـثَلُ ملكوت السَّموات كمَـثَلِ شبكةٍ أُلقيتْ في البحر فجمعت مِن كُلِّ جِنس. فلما امتلأت أخرَجَها الصيادون الى الشاطيء وجلسوا فجَمَعـوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطرحـوا الخبيثَ. وكذلك يكـونُ عـند نهاية العالَم: يأتي الملائكة فيفـصِلـون الأشرارَ عن الأخيار، ويقذِفون بهم في أتّون النار فهناك البُكاءُ وصريف الأسنان “(متى13: 47 – 50).

الشبكة المُلقاة في البحر كناية عن المناداة بالبُشرى السارة ” الإنجيل ” في جميع أنحاءِ العالَم، وكذلك تُقارَن بالكنيسة المقدسة والتي هي ايضاً سُلِّمَت للصيادين، وهي التي انتـشلـتنا مِن أمواج هذا العالَم المُضطرب وأحضرتنا الى ديار المملكة السَّماوية  لتقينا مِن الوقوع  في لُجَج الموت الأبدي. شَمَلَتْ في ظِلِّها كُلَّ أنواع البشر كما جمعت الشبكة  مُختلف أنواع السمك، فعروس المسيح الكنيسة المقدَّسة تمنح الغفران باسمِه للأثرياء والفـقراء، للحكماء والجُهلاء، للأقـوياء والضُّعـفاء، للأحرار والعَـبـيد، ولذلك قال المُرَتِّل < يا سامع الصلاة إليك يُـقبـِلُ كُلُّ إنسان > (مزمور56: 2). وما إن تحتضِن هذه الكـنيسة ” الشبكة ” كُلَّ الجنس البشري فـتمتـليء بالكامل، عندها يَجلِسُ الصيادون بجانب الشبكة على شاطيء البحر. ويَـقومون بعملـية فَرز السمك الجـيِّد ” فيُحفَـظ  أما الرديء فـيُطرَحُ خارجاً. السمك الجَـيِّد يتمثَّـلُ بالناس الأخيار الذين يُدخَـلون الى مسكن الراحة الأبَـدية، أما السمكُ الرديءُ فيتمثَّل بالناس الأشرار الذين فقدوا نور الملكوت فيُطردونَ الى الظلمة البرانية. وكما كان السمك بنوعيه الجَيِّد والرديء معاً في الشبكة، كذلك نحن سنكونُ معاً الأخيار والأشرار مُختَـلطين في الكنيسة المقدسة، وما دُمنا على هذه الحال فهناك لا زالت للأشرار فرصة ليتغَيَّروا الى صالحين، إذاً أيها الإخوة علينا أن نُفَكِّرَ مَلياً ونعمل جُهدنا بتغيير مسلكنا الرديء لكي لا نَخسَرَ الحياة الأبـدية في الملكوت، وللعِلم فلا نَـدامة تُقـبَـل بعد الـمَوت، ولذلك على الإنسان أن يكونَ حَـذِراً على مصيره الأبدي ويتركَ كُلَّ ما يُبعِده عن الربِّ يسوع.

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *