ما أشبه أحداث اليوم بالأمس

 

                                          في عام 1977 كنت أدرِّس في إحدى ثانويات مدينة الموصل/محافظة نينوى , وكُلفت رسمياً كسائر المدرسين والمعلمين بالمشاركة في عملية التعداد السكاني الذي أجري في حينه ، وكان الواجب المناط بي في إحدى القرى الصغيرة التي يقطنها أبناء الطائفة اليزيدية .

كان على جميع المكلفين بالعملية الإنخراط في دورة معلوماتية مكثفة لإستيعاب أهداف وأبعاد ذلك الإحصاء إضافة إلى تقديم شرح تفصيلي لهم عن كيفية تدوين المعلومات في الحقول المتنوعة للإستمارة . وقبل بدء العملية بأيام إجتمع بنا أحد المسؤولين في مدينة الموصل وأبلغنا بتعليمات رسمية محددة تُلزمنا بتثبيت الإخوة اليزيدية عرباً في حقل القومية حتى في حالة إعتراضهم ورفضهم ، وأكد لنا أن ذلك القرار كان صادراً من “القيادة” ولا مجال للمناقشة أوالإجتهاد (ومن كان يتجرأ أن يفعل ذلك) ، وأخبِرنا بوجوب عقد ندوات مع أهالي تلك المناطق لإقناعهم بأن قوميتهم عربية عن طريق سرد أدلة وأحداث تاريخية ذكرها لنا والتي لم تكن في واقع الحال مُقنعة لأحد ، فكيف الحال بالنسبة إلى الإخوة الأيزيدين .

قبل يوم من التعداد وصلتُ مع عدد من المعلمين إلى القرية المذكورة لتهيئة المستلزمات المطلوبة ، ثم عقد لقاء مع الذين يحق لهم المشاركة من الرجال والنساء في محاولة لثنيهم عما يؤمنون به وبعبارة أدق الإستهانة بمشاعرهم وسلب هويتهم ومصادرة أعز ما يملكون .

لذا إلتقينا مع أهل القرية داخل ساحة المدرسة الإبتدائية الصغيرة ، وبدأتُ الحديث معهم وأنا في صراع مع نفسي حول كيفية تنفيذ تلك الأوامر لأنها تتنافى مع أبسط معايير حقوق الإنسان التي تمنح أية مجموعة بشرية أو طائفة أو أقلية في أي مجتمع الحق والحرية الكاملة بتمسكها بهويتها التاريخية وإعتزازها بإنتمائها القومي ، وتذكرت كيف ستدور الدوائر علينا نحن المسيحيين حين يواجه أبناء قومي في بلدات أخرى من وطني ذات الموقف ، لتُفرض علينا قسراً قومية غريبة على هويتنا العريقة التي نحملها منذ ألاف السنين . كيف سأتجرد من ذاتي وأحاول أن أغيّر قناعات أولائك الناس البسطاء لإلغاء وجودهم بجرة قلم، وكيف سأطلب منهم بالإكراه تدوين كلمة بخلاف ما يؤمنون به . 

أثناء حديثي معهم عن حقيقة جذورهم التاريخية كان عدد من الشباب ممن خُيل لي بأنهم كانوا يفقهون اللغة العربية التي كنت أخاطبهم بها ، يصغون إلي وقد إرتسمت على وجوههم علامات تذمر واضحة فكانوا بين الفينة والأخرى يجولون بنظراتهم في متاهات الأفق البعيد محاولين تجاهل كلماتي وأحياناً أخرى يتأملون وجهي وكأنهم يقولون لي بلغتهم الصامتة “عما تتحدث يا رجل ، أن ما تقوله لا يمت إلى الحقيقة والتاريخ بصلة ، بينما كان أحد الشباب طيلة الوقت يهز رأسه ويردد بصوت خافت كلمات إستهجان غير مفهومة . “

 وبعد إنتهاء تلك المسرحية الساذجة إقترب مني شيخ وقور وهمس بإذني وهو يبتسم ، كلمات عاودني صداها مع إبتسامته الساخرة طيلة الأعوام السبعة المنصرمة لتكرار ذلك المشهد حين قال : “كاكا إنت شيريد يكتب يكتب ، والله إحنا ما عربي ، بس ما يكدر يكول اليوم ( لا ) أكَر دنيا يدور.”

يبدو أن التاريخ يعيد نفسه هذه الأيام ولكن بتعليمات من ” قيادة ” جديدة وبشعارات مختلفة ودوافع وأهداف مغايرة وبكلمات حق يُراد بها باطل ، والأنكى من ذلك أن بعضاَ من أبناء قومنا يقومون بأداء نفس الدور ولكن بهمة عالية وحماس منقطع النظير لنيل بركات ورضى الباب العالي ، وبعضهم سعياً لتجاوز المأزق المادي الذي يعيشون فيه ولكن على حساب التضحية بمبادئهم القومية وقناعاتهم الفكرية وإلتزاماتهم الأدبية تجاه أمن وسلامة ومستقبل أبناء شعبهم .

وهنا أذكّر من يحاول أن يفرض علينا تسمية ثلاثية مُبتكرة رغماً عن أنوفنا وضد إرادة شعبنا ومناقضة للمنطق ولكثير من الشواهد والمراجع التاريخية وأحاديث كتابنا المقدس، إضافة إلى مخالفتها القانونية للدستور المركزي الذي يُقر بأن الكلدان قومية رئيسية إلى جانب الأشورية والمكونات الأخرى، مستغلاً بذلك بعض الظروف العصيبة التي يمر بها شعبنا والأزمات المالية لتنظيماتنا نتيجة الحرب غيرالمعلنة عليها ، أذكره وأقول أن كرتنا الأرضية الجميلة كما قال ذلك الشيخ الحكيم لن تتوقف عن الدوران ، وما لا نستطيع أن نفعله اليوم بسبب بريق الدولار وإغراءات المناصب وأحلام الجلوس على المقاعد الوثيرة ، سيكون بمقدورنا أن نحققه غداَ بإرادتنا وصبرنا وعند تغيير موازين السياسة والقوى الحالية ورحيل أو إنتهاء دور من يحاول أن يفرض علينا إرتداء الزي البنفسجي الموحد بدلاً من ألواننا التراثية الزاهية ، وبروز الحاجة أمام الذين تنكروا لحقوقنا وأداروا ظهورهم لتضحياتنا ، إلى جهود ومساهمة جموع الكلدان في الوطن والمهجر لتأييد ومساندة قضاياهم العادلة وطموحاتهم المستقبلية .

أما عندما تتزاحم الأحداث الساخنة في آوانها وتنجلي الظلال القاتمة التي تلف المشهد الدرامي أمام أبناء شعبنا ، فسوف تنكشف حقيقة النوايا الكامنة للشعارات المضلِلة التي يرفعها بعض تجار السياسة ومقاولو المشاريع الوهمية التي تبدو كالسيرعلى رمال متحركة نحو واحة من السراب الخادع ، حيث تظهر فيها مياه عذبة وأشجار، وخير وفير وأثمار، ووعود بمستقبل زاهر وتحقيق أحلام ، وتسودها مع من حولها علاقات أخوة وإنسجام وإحترام حرية الإختيار في إتخاذ القرار، وإن غدِاً لناظره قريب .

كما أن بعض التصريحات والعروض السخية لبعض المسؤولين لا تخرج عن نطاق المزايدة الإعلامية المرحلية التي تحمل في طياتها أقراص مهدئة لإمتصاص ردود الأفعال الدولية الغاضبة للجرائم التي تُرتكب بحق المسيحيين إضافة إلى السعي لتنفيذ أجندات مرسومة للمنطقة ، مستغلين مأسي شعبنا وتطلعاته المشروعة نحو السلام والإستقرار والأمان .

أتمنى من أعماقي أن لا يدرك أشقاؤنا ما يجري في الخفاء بعد فوات الأوان ، أما نحن فعلى العهد باقون للحفاظ على تاريخ وهوية شعبنا ، وعلى قدر أهل العزمِ تأتي العزائم .

                                               1/1/2011                 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *