ما أسباب انهيار الدولة الآشورية الحديثة؟

لماذا انهارت الدولة الآشورية الحديثة، بل والسؤال الأهم من ذلك: لماذا لم تر النور

ثانية؟ كانت سياسة الملوك الآشوريين أنفسهم على رأس قائمة الأسباب الرئيسية التي

أدت إلى الإنهيار، فقد إتسمت هذه السياسة بالشمولية والمركزية المتطرفة، إذ لم تسلم

منها شؤون مثل بناء العواصم الجديدة ومنح رتب عسكرية عالية للقادة من دون

استحقاق بحيث تفشت المحسوبية وتلاشت الهرمية المفترضة بين الملك وقياداته.

وهذا، بطبيعة الحال، ما يؤخذ على أي حكم يتجاهل القاعدة الجماهيرية ويتشبث

بالطبقات العليا والمتنفذة في المجتمع. فالذي حصل في دولة آشور الحديثة هو تعزيز

العلاقة بين الملك وبلاطه والجيش وأهل الذوات (النـُخب)، أي علاقة أفقية غير هرمية،

الأمر الذي تسبب في ضعف الولاء للنسب والتقاليد الموروثة والوطن، وبالتالي ضياع

التناغم بين من كانوا في قمة هرم السلطة نتيجة التبجح والتشبث بمواقع الدولة

المتقدمة التي انقلبت عليهم وبالا في آخر الأمر. لقد طال انهيار السلطة، وبالتالي

الدولة برمتها، ثلاث طبقات إجتماعية. أما الطبقة الإجتماعية الرابعة فكانت مؤلفة من

الأسرى والمهجرين والنازحين إلى بلاد آشور، أي أن هويتهم لم تكن آشورية. تجدر

الإشارة هنا إلى حقيقة أن نزوح هؤلاء الأقوام بدأ منذ العصر الوسيط لقيام

الإمبراطورية الآشورية، لكنه إزداد تباعا وبأعداد غفيرة في عصر الدولة الحديثة، إذ

أبعدهم ملوك آشور من مواطنهم الأصلية قسرا وأرغموا على الإقامة الجبرية في

المستعمرات القديمة والجديدة بحيث برعوا في أنواع الفنون وتشييد القصور الفخمة،

ومن هؤلاء القبائل الإسرائيلية العشرة المفقودة. كما تم ترحيل الكثيرين إلى القرى

والأرياف فامتهنوا الزراعة وشقوا قنوات الإرواء تحت نظام إقطاعي بإمرة القادة

العسكريين الذين حققوا نصرا عسكريا بتكريم من الملك. لم تكن لغة أغلبية هؤلاء

العمال والفلاحين الآشورية (إحدى اللهجات الأكدية المهمة)، وإنما الآرامية، اللغة

الرئيسية لشعوب سوريا وفلسطين واسرائيل. ولهذا من البديهي ألا تعير هذه الأقوام

أية أهمية تذكر للأحداث السياسية، وربما لتاريخ وثقافة آشور. نعم، لقد كان ارتباط

هؤلاء الأقوام ببعضهم إرتباطا أفقيا أيضا، ولكن كان ارتباطهم بالطبقات الإجتماعية

الآشورية العليا إرتباطا هزيلا. وهذا نقيض حالات الإنهيار المماثلة في وادي الرافدين،

إذ بسقوط السلطة تنهض الطبقات الدنيا من المجتمع وتتولى زمام الأمور (والدولة

الآشورية الوسيطة، بعدما انهارت القديمة، خير دليل على النهوض). لم تنهض الدولة

الآشورية الحديثة لأن الطبقة الدنيا المؤلفة في معظمها من القرويين والعمال لم تبد أي

اهتمام بإعادة إعمار أي شىء يحمل إسما آشوريا بسبب اختلافهم في العرق والدين

واللغة.

ومن المفيد أن نعرج قليلا على العلاقات بين بابل وآشور أيام سقوط الأخيرة. بابل

وآشور، كما نعلم، مكونان رئيسيان لحضارة وادي الرافدين، وكل منهما يـُعرف بلهجته

المشتقة من اللغة الأكدية التي شهدت التدوين في عهد سرجون الأكدي. أحد أهم

الجوانب الثقافية المثيرة التي شغلت حيزا في السياسة المركزية للدولة الآشورية

الجديدة كان ما نستطيع تسميته بـ “الصراع الثقافي” أو “المشكلة البابلية” التي

واجهت الملوك الاشوريين. ففي الوقت الذي كانت بابل قـِبلة الملوك الآشوريين الذين

حملوا معهم أدب وطقوس بابل إلى بلادهم، نظروا إليها نظرة إزدراء وعدوها بلادا

منحلة وبؤرة للفوضى. وما اندلاع التمرد في بابل بوجه الملك الآشوري سنحاريب

واغتصابه بابل، هذه البلاد التي كانت تحكمها دمى آشورية خلال القرن الأخير من

سطوة الدولة الآشورية على مقاليد الأمور، إلا عقوقا، كما وصفته بعض المقاطعات من

بلاد آشور. إن ما يؤكد هذا الوصف هو تعبير أسرحدون عن أسفه للدمار الذي سببه

والده سنحاريب بعد اغتياله. تبعت هذه الأحداث لاحقا تقسيم الحكم بين ولدي

أسرحدون، أحدهما في بابل والآخر في آشور. ولكن الغريب العجيب في هذا الحكم هو

أن الملك البابلي، رغم كونه آشوريا، تمرد على أخيه في آشور. وبعد أربع سنوات من

الحرب الأهلية سيطرت آشور على الجنوب. ومع ذلك، فقد كلفت هذه الحرب الطويلة

خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، ناهيك عن الغنائم التي كان من المفترض أن

تكون مكسبا للجيش الآشوري في حملاته العسكرية. لقد كان القضاء على الحرب

الأهلية نصرا مكلفا للغاية، وهدية للقوى الأقوى المتحالفة بوجه الدولة الآشورية

المريضة التي لم تنهض بعدها.

المصدر:

Yoffee, Norman (2009). “Collapse in Ancient Mesopotamia: What Happened, What Didn’t”. In: Questioning Collapse – Human Resilience, Ecological Vulnerability, and the Aftermath of Empire – Edited by Patricia A. McAnany and Norman Yoffee. Cambridge: Cambridge University Press, pp. 176-204.

نبذة عن الباحث:

هو البروفيسور المتمرس نورمان يوفي الذي عمل في قسمي دراسات الشرق الأدنى

وعلم الأجناس بجامعة مشيكان للأعوام 1993- 2010 وفي جامعة أريزونا

للأعوام  1972 – 1993. عمل كباحث أقدم في معهد دراسات العالم القديم بجامعة

نيويورك سنة 2010 وهو يحاضر حاليا في قسم علم الأجناس بجامعة نيفادا في لاس

فيجاس. كما كان أستاذا زائرا في عشرات الجامعات الأمريكية والعالمية خلال حياته

الأكاديمية. ترأس تحرير سلسلة كيمبرج الدولية المختصة بعلم الآثار، وهو عضو هيئة

تحرير عدد كبير من المجلات العلمية ذات الصلة. هو غزير في إنتاجه الفكري، فقد

نشر العشرات من الكتب والبحوث التي يشار لها بالبنان، وهو غني عن التعريف في

مجال اختصاصه.

ملاحظة:

جاءت هذه الترجمة بتصرف لضرورة نقل المعلومات الواردة في رسوم المؤلف وجعلها متناغمة مع سياق النص المترجم وتفادي التكرار مع الحفاظ على الأمانة في النقل.

سان دييـﮕو/ في 8/6/2011

gorgis_3@yahoo.co.uk

You may also like...