لماذا لم ينعم العراق بالإستقرار منذ بداية الحكم الوطني!

لكي نعلم ذلك لا بدَّ لنا أن نُلقي نظرةً موجزة عن واقع الشعب العراقي فنقول: إن هذا الشعب يختلف كلياً في وضعِه وتركيبته عن غيره من الشعوب، فمنذ أن قُدِّرَ له أن يستلم زمامَ حُكم نفسه بنفسه عام 1921 بعد انعتاقِه من هيمنة السلطنة العثمانية البغيضة بفضل دول المحور ولا سيما بريطانيا وفرنسا اللتَين اقتسمتا المناطق التي استقطعتاها من ممتلكات الإمبراطورية الهرمة، وقع العراق والأردن تحت الإنتداب البريطاني، ووقعت سوريا ولبنان تحت النفوذ الفرنسي. فبالنسبة للعراق أراد المُستعمر البريطاني الجديد أن لا يهنأ هذا الشعب بحكم وطني تسود فيه العدالة والمُساواة، فاتبع معه اسلوباً سياسياً يضمن له السؤدد لمدى طويل عُرِف بإسلوب “فَرِّق تَسُد”، فأوقدَ نارَ الفتنة الطائفية المذهبية الخامدة منذ قرون طويلة بين أكبر مُكوَّنَين مذهبيَين من مكوَّنات العراق هما العرب السنة والعرب الشيعة، حيث أوكلَ مقاليد الحكم بأيدي السنة تحت راية ملكٍ سِنّي استقدمه من بلاد الحجاز، وجعل للشيعة دوراً هامشياً مقنعاً إياهم بمزاولة التجارة والأعمال الحرّة.

وسارت الأمورُ بعفوية تلقائية في ظِلٍّ من الأمان والإستقرار، ما كان يُعكِّرُ صفوها إلا بعض الحركات والأحزاب الناطقة بالوطنية ولكنَّها موجَّهة من قبل الجهات الأجنبية الخارجية المُتآمرة ذات الإيديولوجيات السياسية الخاصة، وبدأ منح إجازات لتلك الأحزاب منذ عام 1922 وحتى عام 1930 حتى بلغ عددُها تسعة أحزاب وكان هنالك حزبان على الأقل يعملان بشكل سري هما الحزب الشيوعي وحزب البعث. استطاع تنظيم عسكري من كبارضبّاط الجيش القيام بانقلاب ضِدَّ النظام الملكي في الرابع عشر من تموز عام 1958 سَمّاه ثورة ضِدَّ النظام الرجعي الديكتاتوري، وتسلَّم السلطة العسكرُ بزعامة قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم، ومنذ ذلك الحين فقدَ العراقيون الحرية والأمانَ وحلَّ مَحلَّها العنفُ والإستبداد، إذ لم يلبث قادة الثورة طويلاً حتى شكَّل بعضُ الضباط المشاركين بالثورة المُتأثِّرين بالمد القومي العربي تكتُّلاً سِرياً ضِدَّ قيادتهم التي كانت بنظرهم ضِدَّ القومية العربية وتُمثِّلُ مذهباً شيعياً مُخالفاً لمذهبهم السني، فسعوا لإزاحتها والإستئثار بالسلطة، إلا أنَّ محاولتهم انتهت الى الفشل، وكان الموت نصيبهم. وبالرغم من ذلك فإن المؤامرات تواصلت لذات الهدف، وتوالت الإنقلابات العسكرية، حتى انتهت بانقلاب 17 تموز عام 1968 بزعامة قادة عسكريين عقائديين منتمين الى عقيدة حزب البعث، ومن خلالهم استطاع الحزب فرض سيطرته الكاملة على كافة تنظيمات الدولة العسكرية والمدنية.

وهكذا عادت السلطة الى السنة، وجرت غربلة كُلِّ مُعارض لتوجهات حزب البعث القومية، وترسَّخ حكم الحزب الشمولي الواحد، وفي خلال العقد الأول من الحُكم البعثي، شهد العراق تقدُّماً ملموساً في مجالات عِدة كالتعليم والعمران والخدمات، وما إن استفرد بزعامة الحزب والدولة الرئيس الأوحد حتى جنح نحو ممارسة الديكتاتورية، فمنح نفسه أعلى رتبة عسكرية هي”المُشير”. كان الرئيس الأوحد سنِّياً قبلياً حتى النخاع يحلم بالخلافة الإسلامية المنقرضة، ويكره الآخر الشيعي كُرهاً شديداً، ومن هذا المنطلق زَجَّ العراق عام 1980 بحرب ضروس مع جارته ايران الفارسية الشيعية دامت ثمان سنوات. فكانت كارثة إنسانية ناءَ تحت كلكلِها الشعبان العراقي والإيراني، وقد احترق في أتون نارها آلاف مؤلفة من أبناء البلدين، مُخلِّفةً مِئات الآلاف من الأرامل والأيتام والمعوَّقين، كان نصيب المسيحيين الأوفر نسبة الى قلَّة عدد نفوسهم. ولم تنتهِ مُشكلة العراق بنهايتها بل تعدَّتها الى استدراج العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لغزو الكُويت لإتخاذها منه ذريعة من أجل تفتيت جيشه وتدمير مُعَداته وتخريب البنية التحتية للعراق. مِمّا ألَّبَ عليه غضب العالَم أدَّى به الى استنكار ذلك الغزو ودفعه الى تشكيل تحالف دولي كبير بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، فتمَّ فرض العقوبات عليه وأفظعها كان الحصار الإقتصادي القاسي الذي أثقل كاهل الشعب العراقي كثيراً، واستمرَّ ذلك إثنا عشر عاماً رغم تحرير الكويت عام 1991.

سُقتُ هذه المقدمة لأنها أوحت إليَّ في حينها بأن إطلالة القرن الواحد والعشرين كانت غير مُبشرة بالخير، إذ كان العالم يتوقع عمليات إرهابية في مكان ما غير مُعيَّن، ففي الحادي عشر من ايلول عام 2001 فاجأ إرهابيو تنظيم القاعدة بزعامة اسامة بن لادن بشنِّ هجوم غير مسبوق على الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها، وذلك بتفجير بُرجَي المُراقبة في مدينة نيويورك، فكانت هذه الفاجعة المؤلمة فاتحة لردِّ فعلٍ أمريكي عنيف تلتها أحداث خطيرة أصابت مناطق عالمية كثيرة أبرزها قيام الولايات المتحدة الأمريكية بضرب معاقل الإرهاب في أفغانستان المُتَّخِذ منها الإرهابُ مركزاُ، ثم غزو العراق.

وفي مطلع القرن الحادي والعشرين وبالتحديد في التاسع من نيسان عام 2003 جرى تغيير النظام السياسي في العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، حيث تَمَّ غزوُ العراق استناداً الى قرار دولي أصدره مجلس الأمن ردّاً على احتلال العراق للكويت، فأحدث ذلك تدميراً هائلاً وشاملاً بكُل مرافق الدولة العراقية المدنية والعسكرية وتخريباً للبنية التحتية. وعُيِّنَ بول برايمر الأمريكي كما تردَّد القول حاكماً مدنياً من قبل الرئيس جورج بوش بناءً الى تزكيته من قبل رامسفيلد، وزوِّد بخطة مُعدة من قبل الإدارة الأمريكية حول مصير العراق بعد الإحتلال ومن ضمن الخطة قرار اجتثاث آثار البعث من وسط المجتمع العراقي. أراد بول برايمر إقامة نظام حكم فيدرالي، وأن يكون للطائفة الشيعية النصيب الأكبر في تشكيلة مجلس الحكم الإنتقالي باعتبارها الشريحة الأكبر عدداً في المجتمع العراقي مع رغبته بسيطرة الإسلاميين على الغالبية العلمانية، وهنا بدأت عملية المحاصصة المعقَّدة حيث دبَّ نزاع مرير بين الفئات المُشكَّل منها مجلس الحكم وكُلٌّ منها تسعى لحصةٍ أكبر من غيرها.

فتوالت المُشاحنات بعد رحيل برايمر بين الكتل الطائفية والمذهبية واستفحل الخصام المذهبي المُزمن بين العرب الشيعة والسنة حتى تحولَّ الى صراع دموي بين الجانبين يسعى كُلٌّ منهما للإستحواذ على السلطة بالكامل لينتقم من خصمه ويحُدَّ من طموحاته، أما المكونات الصغيرة الأخرى باستثناء المكون الكردي فقد غدت ضحية هذا الصراع وبخاصة المكوَّن المسيحي الذي اتخذ موقف الحياد ومع ذلك لم ينج من الإضطهاد! إذاً أساس البلاء في العراق هو عمق العداء المتوارَث بين الشيعة والسنة منذ انتهاء عهدِ الراشدين من الخلفاء! وللأسف يظهر أنَّه غير قابل للإنتهاء!!! وها نحن نُشاهد اليوم تداعياته المريرة بسيل لا ينقطع من الدماء!

الدكتور كوركيس مردو
في 17 / 7 / 2014

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *