لقـــــــــــــاء مســـــــــــاء الثلاثـــــــــــاء والأضــــــــــــواء ( رأي مستـقـل )

 

بقـلم : مايكل سـيـﭙـي / سـدني – كانون الثاني 2011

الإنـتمائية إخـتيار وإرتباط ، والمنـتمون يخـتارون فـيرتبطون ، مثـلما الإستـقلالية حـرية والمستـقـلون أحـرارٌ ولكـنهم منـتمون أيضاً بدون ملء قـسيمة أو إجـتماع في خـلية أو تـحـت سلطة أمير ، إنهم منـتمون إلى وطنهم وأمتهم وإنسانيتهم وفـكرهم ، ومن وجهة نـظري أقـول : ما أحـلى إستـقـلالية المرء ، ذلك الذي لا يرتبط بأشكال تـَجَـمُّعـية أو قـيود تـنـظيمية أو ولاءات شخـصية ، عـندها يستـطيع أنْ يكـتب ويتـكـلم بإسمه الشخـصي دون أن يكـون ساعيَ بـريـد أو مراسلاً لآمرٍ أو مداهِـناً وفي ذات الوقـت خاضعاً لسيدٍ لإنجاز خـرائط لمشاريع غامضة وهـمية ، لكـن هـذا المستـقل يخـسر ! نعـم المستـقل يخـسر الجـلوس عـلى كـرسيّ المناصب الكارتونية ، ويخـسر طأطأة الرأس تأيـيداً للخـطابات الخادعة وهـو مستـمعٌ وساكـتٌ في ديوان الأكابر وجـلساتهم الفـراغـية ، وأيضاً بدون شك يخـسر تـذكـرات سـفـر للسياحة المجانية . المستـقل ينزل إلى الساحة لوحـده دون أن ينـتـظر تصفـيق المنافـقـين ، أو إهـتزاز ذيول ( الـلوﮔِـيّـين ) ، ولا يسمح لنـفـسه أن يكـون سُـلـّماً للصعـوديّـين . إنه يجابه ولا يُحابي ، يُجاهِـر ولا ينافـق ، يَـصْدُق مع نـفـسه ولا يُـكاذِب ذاته ، إنه لا يطمح إلى ما لا يستـحـقه فـلذلك لا يَـغِـير ولا يغـدر بغـيره ، يقـول ما يـراه حـقاً ويتحـمّـل المسؤولية لوحـده ، نـعم إنه يخـسر فـرصة قـطف الأثمار من الأشجار الباسقة إلاّ ما يتـناثر منها عـلى الأرض الواسعة ، وكـتحـصيل حاصل فإنه يقول رأيه دون أنْ ينـتـظر تـرفـيعاً أو كـلمة عـفـرم من أحـد لشخـصه .  

إستـلمتُ دعـوة من زميل وهـو مشكور عـلى دعـوته ، لحـضور لقاء في قاعة / سدني بـزائـر من أبناء جـلدتـِنا قادمٌ  من العـراق الحـبـيـب ، إستمعـنا إليه بشغـف وأفادنا بما كان لديه . رأيته مندوباً وليس قائداً ، رسولاً وليس مسؤولاً ، ناقلاً لنا الواقع وليس ناقـداً ، أميناً في واجـبه وليس مقـرِّراً ، مبشراً وليس سيـداً . إستمعـتُ إلى كـلماته المتباطـئة والهادئة ، فـتـخـيَّـلـْـتُ نـفـسي وكأنـني أقـرأ رسالة من قـريـب لي أو لبـيـب كـتـبَ كلماتها متـفـرّقة ، أنـتـقل من كـلمة في بداية السطر وعـلى إمتـداده فـراغ إلى منـتـصفه حـيث الكـلمة الثانية ، ثم تأتي الكـلمة الثالثة في نهايته ، وكأنها قلادة فـصوصها متباعـدة عـن بعـضها فـفـقـدَتْ رونـقها والتواصل في لمعانها .

إسترسل في بداية حـديثه ممهّـداً لفكـرة ( المحافـظة المسيحـية ) التي جاء من أجـل أنْ يعـرضها أمام أبناء جاليتـنا في أستراليا لا من أجـل أن يعـرف أنـنا موافـقون أم رافـضون ( لأنـنا لسنا في الساحة ولا نـحـسم الموقـف ) ، وإنما لإعلامِنا أنّ الفـكرة هـذه مطروحة في الساحة العـراقـية كـضرورة لإنهاء أزمة المسيحـيّـين ، وهي ليست قـيد البحـث فـقـط وإنما تجاوزتْ نصف الطريق للوصول إليها ووضع أسس دستورية لها ، وتصبح أمراً واقعاً ، وإستهـجن موضوع الحـماية الدولية ملمّحاً إلى أنّ ذلك يسبِّـب إستـفـزازاً أكـثراً . نعـم ، لقـد شارك عـدد من الحاضرين بأسئـلتهم فـكانـت إجاباته عـليها غـير مُشبعة لطموحاتهم ، والسبـب واضح فالرجُـل ليس مخـوَّلاً بحـسم الأمور ، وفي الخـتام صفـقـنا للزائر الكـريم . ومن المتوقع في مثل هـذه الإيفادات أن الموفـد سيزوّد مُـرسِـلـَـه بتـقـرير عـن لقائه هـذا ليُـثـْـريه بآراء أبناء الجالية العـراقـية المسيحـية الذين إلتـقى بهم .

وعـند خـروجـنا من قاعة اللقاء المشار إليه في أعلاه ، سألتُ أحـد الحاضرين معـنا ونـحـن نرتشف الشاي قائلاً : ( إذا كـنتَ في رحـلة صيد الغـزلان ، ورأيتَ منها واحـداً شرقاً وآخـراً غـرباً وفي الوقـت نـفـسه رأيتَ قـطيعاً منها وهي متجـمّعة وكـلها عـلى بُـعـدٍ متساوٍ عـنك ، فأيهما يكـون سهل الإصطياد ! هـل التصويـب نـحـو قـطيع الغـزلان أم نـحـو الغـزال المنـفـرد مثلاً ؟ ) . فأجاب الجـواب البـديهي وهـو : رميُ القـطيع يكـون أسهلاً لأنه مُـتـجَـمّع فـمساحـته تـحـت الرمي أكـبر ، وإحـتمال إصابتها أضمَن ( لابل سيصيـبها بالتأكـيد ) .  

وفي الموضوع ذاته كـنـتُ قـد كـتبتُ سابقاً عـن مصير الخـراف الوديعة التي تــُجـمَع في حـضيرة ، وهـنا أضيف لأقـول : في يوم من أيام الثمانينات من القـرن الماضي ونـحـن زملاء الهـيئة التـدريسية وحـديثـنا المشترك حـول مفارز التـفـتيش في الشوارع والأماكـن الرئيسية في بغـداد ، قال أحـدهم أنّ هـناك مفارز تـفـتيش خاصة حـتى في مداخـل كـثير من الفـروع السكـنية أيضاً ، ولما إستـفـسرتُ عـن الأمـر ، أفادني زميل آخـر بأنّ هـناك مسؤولاً كـبـيراً عـضواً في فـرع ( الحـزب ) يسكـن في الشارع الفلاني ، وفي المنـطقة الأخـرى يسكـن قائـد الجـيش ، وفي المحـلة الثالثة يسكـن عـضو القـيادة القـطرية ، وهـكـذا فإن الأماكـن التي يسكـن فـيها المسؤولون القـياديّـون كالوزراء والعـسكـريّـين القادة والحـزبـيّـين والأمنيّـين ، توجـد فـيها مفارز تـفـتيش خاصة لحـمايتهم خـوفاً مِن أنْ يكـونوا مستـهـدَفـين بحـكم مناصبهم الرفـيعة والحـساسة ، وهـذه الفـرق التـفـتيشية تــُـفـتـش المارّة قـبل دخـولهم إليها ، لابل فإن في بعـضٍ من تلك الفـروع لا يُـسمح بدخـولها إلاّ الساكـنين فـيها فـقـط ( إنْ لم نـقـل يتـعـرّض المارة هـناك إلى المُساءَلة وإلى ما لا تــُـحـمَد عُـقـباه ) . فـقـلتُ : طالما أن الموقـف حـسّاس إلى هـذه الدرجة والغاية هي ضرورة أمنية لحـماية المسؤولين الكِـبار ، فـلماذا لا يُـبنى حيٌّ سكـنيٌّ مسيَّجٌ مَـحـميٌّ ومحـروسٌ بالقـوات الخاصة المدجّـجة بالأسلحة المتـطوّرة ووسائل الإنـذار المبكــّر ، ويكـون خاصاً بهـؤلاء الكِـبار وفي مكان معـزول من ضواحي بغـداد وبأجـمل التـصاميم وأغـلى التـكاليف وهم أصحاب القـدرة والأمر والنهي ، وسوف لن يقـترب منهم أحـدٌ غـريـب طالما ستـكـون منـطقة خاصة ومحـظورة ، وليس لأحـد من المواطـنين حاجة هـناك . فـرَدَّ أحـد الزملاء وقال : هـذا أكـثر خـطورة عـلى حـياتهم ! قـلتُ : ولماذا ؟ قال : لأنهم حـين يتجـمّعـون في بقـعة واحـدة يكـون إستهدافهم –  جـماعـياً –  أسهـل مما لو كانـوا مبعـثرين ، فإذا خـطـّـطـ الأعـداء لساعة الصفـر ، فإن الحي هـذا سوف يُـدَكُّ بالهاونات من بعـيد ومن جـميع الجـوانب ولن يكـون هـناك منفـذ للفـرار . وبالمناسبة فإنّ هـذا المبدأ يُـتــَّـبَع في التـكـتيكات العـسكـرية أيضاً .

لقـد مرّت أيامٌ من ستينات القـرن الماضي كان شمال العـراق مكاناً غـير آمنٍ ، وكان البعـض الساكـنين والثابتين في ألقـوش وغـيرها ينـقـلون أفـراد أسرهم إلى الموصل أو أماكن أخـرى لتأمين حـمايتهم ، وإذا داهمَ الخـطرُ الرجـلَ في المنطقة المتوتـرة فإنه كـفـرد واحـد سيتـدبَّـر أمر نـفـسه بسهـولة . ثم مُـنِـعَـتْ الهـجـرة إلى الجـنوب خـوفاً من أنْ تـفـرغ بعـض القـرى الشمالية وتـصبح مرتعاً للثوار الأكـراد أو غـيرهم ، إلاّ لعائلة الموظف الذي كان يعـمل في محافـظات الجـنوب ( في عام 1974 سُـمِحَ بنقـل سكـن عائلتي من ألقـوش إلى بغـداد بعـد أن حـصلتُ عـلى كـتاب رسمي من السلطات الحـكومية في محافـظة واسط يفـيد بأنـني موظف هـناك ) . واليوم تـغـيَّـر إتجاه المعادلة الكـيميائية الهجـرويّة تلك 180 درجة فالشمال أصبح آمناً . ثم وفي سنوات حـصار التسعـينات أصبح السفـر إلى الشمال خاضعاً لتـفـتيش دقـيق ( في أيلول عام 1992 مُـنِـعـتُ مع عائلتي في نـقـطة تـفـتيش قـرب ألقـوش من السفـر إلى دهـوك ) ، وأسمع في هـذه الأيام ( وبالتأكـيد لأسباب أمنية ) أنّ العـراقي من أهـل الجـنوب لا يُـسمح له بالسفر إلى الشمال لأيّ سبب كان إلاّ بشروط قـد تبدو تـعـجـيزية للبعـض منهم . نستـنـتج أن عـراقـنا في السنوات السـتــّـين الأخـيرة ، أصبح ساحة تـتأرجح أوضاعها بـين الإستـقـرار والتوتـر ، وبحـراً يتـناوب فـيه المدّ والجـزر ، لا نـدري متى تهدأ أمواجه ليهنأ الناس للسباحة والتشمّس بسواحـله .

إن مَن يُـخـطط للمكان الآمن والمنطقة الآمنة والحـكم الذاتي والإدارة الذاتية وغـيرها من الأماكن المسيحـية والمصطلحات الثورية العـصرية المُمَـوّهة ، ( إنْ كان صادقاً ) لابـدّ وأن يستيقـظ من أحلام يقـظـته ويتـرك خـيالات المناصب والمراتب لـذاته ، ويكـون أكـثر بُـعـداً في نـظره ، ويتجـنـب التوجـيهات الغامضة من غـيره ، ليـبحـث عـن أسباب الهـيجان في المنـطقة ومنابعها وتـحـديد ﭭايروساتها ، ليمكـنه معالجة الخـلل في جـذورها وحـقـنها بالمضادّات الحـيوية لإبادتها ، وليس بالإنسحاب إلى مكان معـزول منمّـق ظاهـره ، ولكـنه يصبح أكـثر مسيلاً للعاب الإرهابـيّـين وأسهـل إستـهـدافاً ، وعـندها يكون فـريسة جاهـزة وكما قال الرب يسوع ( حـيثما تـكـون الفـريسة تجـتمع النسور ) . إنّ مَن إخـتبر النـكـبات في حـياته بتجارب خادعة مماثلة وتـحَـمَّـلَـها أكـثر مِن مرة ، هـو أولى بالتـفـكـير مرتين بدلاً من مرة واحـدة ، وهـو أدرى ممن لم تــُـصِـبْه النكـبات ، فإرحـموا البقـية المتبقـية من أبناء شعـبنا وجَـنـَّـبوهم السير في الظلمات .    

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *