كوردو قاسم.. وداعاً صديقي / محمد مندلاوي

رحل عنا يوم الاثنين الماضي, المصادف للرابع عشر من ديسمبر 2015, ابن “گرميان” البار, المناضل المِقدام (كوردو قاسم) القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني, قبل أن ينشق عنه, ويشارك السياسي الكوردي (نوشيروان مصطفى) بتأسيس حركة التغيير عام (2009) التي بجهوده وجهود رفاقه فيها حصلت الحركة في الانتخابات الماضية على أربعة وعشرون مقعداً في البرلمان الكوردستاني, وبهذا الفوز الكبير جاءت الحركة في المرتبة الثانية بعد الحزب الديمقراطي الكوردستاني, الذي أصبح بعد تلك الانتخابات الحزب الأول في إقليم كوردستان.

إن علاقتي الوثيقة مع المناضل الكبير (كوردو قاسم) تعود إلى أوائل السبعينات من القرن الماضي, وتوطدت علاقتنا أكثر في سجن المركزي (سجن أبي غريب) عند زياراتي المتكررة لأعضاء منظمة “الصقر الأحمر” في السجن المذكور, وهم كل من الأصدقاء, سعدن قاسم (كوردو قاسم), عامر عبد الكريم, إبراهيم فيلي, ومحمد سمين,وصلاح جان, رعد بشير وآخرون. منهم من واصل مسيرة النضال في طريق ذات الشوكة بكل صدق وأمانة إلى النهاية, وعلى رأسهم خالد الذكر (كورد قاسم) ومنهم من انحرف أخلاقياً وسلوكياً وهو لا يزال في بداية الطريق, كذاك العاهر, نزيل بلاد الثلج؟, المشكوك بانتمائه لهذه المجموعة النبيلة, حيث ظهرت عليه علامات الخيانة والانحطاط من خلال تصرفاته المشبوهة مع إدارة السجن المذكور, التي أحزنت غالبية المساجين الشرفاء كورداً وعرباً, عندما كان في كل يوم صباحاً يجبر المساجين بالاصطفاف في قاعة السجن كالعسكر ويقرأ عليهم بصوت عالي جريدة الثورة الناطقة بلسان حزب البعث المجرم. أضف إلى هذا الفعل المشين, علاقته المشبوهة مع إدارة الأمن المشرفة على السجن المذكور. لقد لوث هذا المخنث..؟ سمعة تلك المجموعة المناضلة المضحية بمجرد  ذكر اسمه الذميم بجانب أسمائهم الشريفة. وفي بلاد المهجر حيث يقيم منذ أواسط الثمانينات القرن الماضي, أصبح هذا العاق بين أبناء الجالية الكوردستانية والعراقية رمزاً لكل العيوب المشينة, التي تُنكس الرأس؟ إلا أن هذا المثقوب لا يكترث, لأنه فاقداً لإحساس الرجولة؟. أرجو أن لا ينزعج مني القارئ العزيز لصراحتي المؤلمة وتطرقي بكل وضوح وشفافية للأعمال الجبانة والخسيسة التي قام بها هذا المسخ الذي بحجم البعوضة, وهو أقل من أن نذكر اسمه. لكن التطرق إلى تاريخ منظمة “الصقر الأحمر” المناضلة احتاج إلى هذه الوقفة الصريحة, لكي نعري ذاك ابن الشارع, السرسري, الحرامي, الذي خان العهد, و أساء بقصد دنيء وخسيس إلى مناضلي الشعب الكوردي.

بعد تهجيرنا إلى إيران عام (1980) واستقراري في شرقي كوردستان, وتحديداً في مدينة (إسلام آباد). في أول زيارة له إلى إيران, زارني كاك (كوردو) ومكث عندي عدة أيام حيث كنا نسهر و نتجاذب أطراف الحديث و نعيد ذكرياتنا عن تلك الأيام الماضية في بغداد بحلوها ومرها, والهجمة الشرسة التي قام بها حزب البعث العنصري المجرم ورئيسه المقبور صدام حسين ضد شريحة الكورد (الفيلية) عندما قام بإسقاط الجنسية العراقية عن مئات الآلاف منهم, واعتقل الآلاف من خيرة شبابهم وأودعهم في معتقلاته الرهيبة سيئة السيط و السمعة, وفيما بعد, تم تصفيتهم جسدياً وبدم بارد على أيدي العروبيون الأوباش وبمشاركة إخوان الريف؟. وبعد أن انتهت إجازته توادعنا وعاد إلى جنوب كوردستان إلى صفوف البيشمركة الأبطال لدك مواقع جيش النظام العراقي المحتل لجنوب كوردستان. وبعد مرور عدة أعوام أخبرني “صلاح جان” وأنا في أوروبا أن كاك (كوردو) تبوأ منصباً قيادياً في الاتحاد الوطني الكوردستاني, استغلت ذهاب أحد الكورد إلى كوردستان وكتبت له رسالة مطولة هنأته فيها على تبوئه موقعاً قيادياً في الحزب, ألا أنه اثناء وجود الشخص الذي سلمته الرسالة في كوردستان كي يوصلها له باليد لم يكن كاك (كوردو) في مدينة السليمانية فلذا عادت لي الرسالة. لقد مرت أعوام على زيارته لي في (إسلام آباد) والتقينا ثانية عام (2000) عندما زرته في السليمانية في إقليم كوردستان, وبقيت عنده أسبوعين, زرت خلالها عدة أشخاص وعوائل مناضلة, منهم والدة صقر “صقر الأحمر” (سلمان داود) وشقيق بطل “صقر الأحمر” (جمال سعيد), وزرت برفقة كاك (كوردو) بعض المسئولين في الإقليم. وعرض علي البقاء عنده والعمل معه, ألا أن ظروف جمة وقاهرة منعتني من البقاء في كوردستان. وبعد عودتي إلى بلاد الغربية, كنا على تواصل دائم من خلال الهاتف, حيث كنت أكلمه بين حين وحين, وفي كل مرة كان يلح علي بالعودة إلى كوردستان. وفي آخر مكالمة التي جرت بيننا قبل عدة شهور لم أفهم عليه جيداً, بسبب رداءة الخط الهاتف اللعين, وحاولت مرات عديدة على أمل أن أفلح بمكالمة واضحة, ألا أنني لم أفلح, وكانت تلك المكالمة التلفونية غير الواضحة آخر حديث جرى بيننا.

وفيما يتعلق بالمسئوليات الكبيرة التي أنيطت به في الاتحاد الوطني الكوردستاني, لقد أدارها على أكمل وجه. وكان دائماً أكبر من الموقع الذي يشغله, بل كان المنصب يكبر به, وليس هو من يكبر بالمنصب. وخير شاهد ودليل على عفته ونزاهة وأخلاقه العالية, حب واحترام وتقدير الناس له في عموم كوردستان. دعوني أنقل لكم حادثة سردها لي كاك (كوردو) عام (2000) عندما زرته وكان حينه مسئولاً على منطقة “گرميان” التي تشمل نصف مساحة إقليم كوردستان, قال يا محمد ذات يوم جاءني شخص غني من “گرميان” وشكا لي مدير آسايش (الأمن) في المنطقة بأنه أخذ منه مالاً عنوة, قال لي الشاكي أنا مستعد أن أتبرع للاتحاد الوطني بأي مبلغ تحدده, ألا أن مدير الآسايش أخذ المبلغ له. قال كاك (كوردو) بعثت ورائه وأحضرته وبعد أن أمرته باسترجاع المال لصاحبه أقسمت له بأغلظ الإيمان, أن حاول مرة أخرى تخويف المواطنين وأخذ المال منهم عنوة أو إهانتهم تحت أية ذريعة كانت, قسماً عظماً سوف أقوم بضربك أمام الناس وأهينك إهانة لا ترفع راسك بعدها بين الناس أبداً. كانت هذه واحدة من مؤازراته ووقوفه الإنساني النبيل بجانب المواطنين الكورد. وخلال الأسبوعين اللذين قضيتهما عنده رأيت بأم عيني كيف أن العشرات من المواطنين يزوروه في بيته المتواضع الذي منحه إياه القيادي (جبار فرمان) ويطلبوا منه المساعدة والدعم ولم يرد أحد منهم خائباً أبداً. كما أسلفت, شاهدت هذا التواضع وخدمة الناس دون مقابل بنفسي. بخلاف المسئولين الآخرين عديمي الذمة والضمير, الذين أهانوا المواطن الكوردي وأثروا ثراءاً فاحشاً على حساب قوته اليومي. وقبل عودتي من كوردستان إلى أوروبا بيومين أو ثلاثة زرنا أحد المسئولين للحصول على كتاب خروجي من كوردستان, للحق أقول أن ذاك المسئوو كتب خلف الكتاب الرسمي يعفى من ضريبة الدخول, ألا أني طويت الكتاب و دفعت المبلغ, قلت في نفسي أن ظروف المعيشة صعبة في كوردستان ليقتسموه البيشمركة فيما بينهم لأني لا أحتاج إلى هذا المبلغ. وبعد خروجنا من عند المسئول, قال لي كاك (كوردو) يا أبا مهاباد أن هذا المسئول راتبه كذا ألف دينار شهرياً, ومصرف بيته في اليوم الواحد أكثر من هذا المبلغ, إذا لا يرتشي من أين يأتي بهذا المال؟. هذا هو (كوردو قاسم) الذي نذر نفسه للكورد وكوردستان, لقد رحل عنا وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً, ورصيده ليس الملايين والمليارات, بل هو حب الناس له. لقد شاهدت التشييع المهيب الذي جرى له, والفاتحة التي أقيمت على روحه الطاهرة في السليمانية, التي جمعت كل أطياف السياسة في الإقليم, وهذا قلما يحدث في كوردستان. عندها أدركت, أنه بحق كسب حب واحترام الجميع دون استثناء. حتى أن اسمه وسمعته الطيبة تخطى حدود إقليم كوردستان, ها هو نشاهد كيف أن الجاهير الكوردية تنصب له سرادق العزاء في كل من بغداد والسويد ومناطق أخرى. لقد خسرناك يا كاك (كوردو), ولن يستطيع أحد أن يملأ الفراغ الذي تركته برحيلك المفاجئ عنا. إلى اللقاء يا رفيق الدرب, أن لقائنا في هذا العالم الفاني بات مستحيلاً.              

“هذي الحقيبة عادت وحدها وطني … ورحلة العمر عادت وحدها قدحي … أصابح الليل مطلوباً على أملٍ … أن لا أموت غريباً ميتة الشبح”. (مظفر النواب)

محمد مندلاوي

26 12 2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *