كذبة هابطة اسمها: الدكتاتور العادل / عبدالمنعم الاعسم

لا شئ يجمع الفجور بالعدالة. الاستبداد بالعدالة، الجلد بالعدالة، فالفاجر والمستبد والجلاد ابعد ما يكونوا عن فكرة العدالة وتطبيقاتها في الواقع. عدالة الحكم او عدالة القضاء.
لكن المجتمعات الزراعية الرعوية التي رُهنت بالتبعية لصاحب الارض وشيخ العشيرة ونمط الاسرة البطريركية اخترعت توصيف الطاغية العادل بواسطة ممثليها من الكتبة والمثقفين الدجالين.
ومنذ قرن ونصف تحدث فرويد في “الطوطم” عن الاب القوي القدرة والذي تآمر عليه ابناؤه وقتلوه، ثم عادوا وعبدوه من بعد ان شعروا باحتياجهم الى تلك القوة “لغرض التوازن”.
ثمة بيننا من الذين قاتلوا صدام حسين عادوا الآن ليعلنوا حاجتنا اليه، او اعجابهم بدكتاتوريته، او تمثلهم لسلطة القوة الباطشة التي استخدمها، بزعم ان العامة لا تلتزم القانون إلا بالخوف والبطش.
بل ان نائب رئيس الوزراء صالح المطلك اعطى صدام حسين صفة الدكتاتور الذي بنى، في مقارنة لم تكن موفقة مع رئيس الوزراء نوري المالكي الذي قال انه دكتاتور لا يبني، والغريب ان الاحتجاج على هذه المقارنة لم يكن ليشمل تزكيته لصدام بل اقتصر على الشق الثاني من المقارنة.
ان كاليغولا الذي اتقن حرفة نشر الرعب والموت واصدر مرسوما بتعيين حصانه رئيسا لمجلس الشيوخ وجد من يقول عنه انه كان (احيانا) عادلا، بل ان عشيقته قالت انه طفل برئ لا حدود لاحلامه.
اما صدام الذي كان اول “رئيس” في التاريخ المعاصر رمى شعبه بالسلاح الكيمياوي وحكم بلاده بالحديد والنار وعصّب عينها وزجها في ثلاثة حروب كارثية فقد وجدنا كاتبا اسمه امير اسكندر يجعل منه وريثا لحمورابي في عدله، بل انه حمورابي عصره.
لم يكن اباطرة الصين وحكام روما القديمة وفراعنة مصر وفرسان المغول وملوك اوربا في القرون الوسيطة وسفاحو الثورة الفرنسية بحاجة الى تشريعات ودساتير وعهود تمنعهم من التنكيل الجماعي بالمعارضين وابادة امم كاملة، غير ان الماركيز دي ساد رخّص لهم جميعا ولغيرهم ممارسة هذا الطغيان الاعمى الى اقصى ما يمكنهم “فكل ممارسة تجلب النشوة مبررة” كما افتى.
عدالة الدكتاتور فكرة تآمرية يتورط فيها مثقفون ودعاة وسياسيون، والبعض منهم، في حالة ستالين مثلا، يضعون حشوة ايديولوجية فاقعة في مبررات التنكيل بالضحايا والتمثيل بجثثهم. اما بول بوت الذي ارسل مليونين من كمبوديي المدن الى حفلات الموت في الغابات القصية المرعبة، فقد كان عادلا بالمعنى الذي يلفقه اصحاب نظرية الدكتاتور العادل، حيث كان سكان العاصمة فنوم بنه الناجون من الإجلاء القسري يجدون ماء صالحا للشرب ورعاية صحية طيبة وحرية في التجول من على مقربة بقصر الرئيس.
الى ذلك كان الرومان، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، يطلقون كلمة الدكتاتور على قياصرتهم ورهبانهم بموازاة النظر لهم بعين الرهبة والاحترام؛ ولم يشك احد في وحشيتهم وقسوتهم؛ كما لم يشك احد في انهم يعدلون احيانا في قضايا لا تمس سلطتهم وجاههم، وكان موصوف الدكتاتور شكليا من الناحية القانونية، ولم يكن ليمتد الى معنى الدولة الدكتاتورية، وبمعنى ما، استمر تداول كلمة الدكتاتور، قرون وقرون، من غير مطعن سلبي بصاحب السلطة، بل وكان يقبل به باعتباره اعترافا بهيبة اسمه ومكانته، ولم يكن، مقابل ذلك ليتشبث به.
وفي عصور الاقطاع استخدمت الدكتاتورية كتدابير شبه قضائية وظهرت في القرن الرابع الميلادي هياكل ادارية هدفها حل مشاكل مدنية بدون حاجتهم لاستخدام الجنود والعساكر، وكان يتم انتخاب مجلس قنصلي”دكتاتوري” لتسوية الأزمات والخلافات بين السكان والمقاطعات، وكان كل عضو من اعضاء هذه المجالس دكتاتورا بذاته ولم يكن النظام الاقطاعي ولا مؤسساته ديكتاتورية بل هي مهمة محددة لفترة زمنية معينة، وتنتهي صلاحية الدكتاتور بانتهاء المهمة أو عند حل الأزمة.
غير انه بمرور الوقت وتغيّر الحكام والاباطرة والصراع بينهم هجرت صفة الدكتاتور والحاجة اليه، لتعود الى الاستخدام بدلالتها الاستبدادية المتوحشة خلال الثورة الفرنسية والصراع الدموي على السلطة وكان روبيسبير اول من لصقت به بهذا المعنى السلبي، وفي القرن التاسع عشر شاع استخدام البونابارتية اشارة الى الحكم المطلق، المستبد، الدكتاتوري، وذلك قبل ان يأتي ماركس بمفهوم “دكتاتورية البروليتارية” تمييزا عن دكتاتورية الطبقات الراسمالية المستغلة، وهكذا انفتح الطريق لجدل طويل حول مفهوم الدكتاتورية كنظام سياسي.
ومنذ عشرينات القرن الماضي بدأت مفاهيم الدكتاتورية تطرح نفسها، في المؤلفات ومعاهد السياسة، والمناقشات، وذلك مع نشوء انظمة الحكم العسكرية السافرة، ثم انظمة الحكم الفردية المستبدة، والشمولية، وصعود الفاشيات الاوربية، والانقلابات العسكرية، حتى استقر المفهوم في جملة من المحددات تتفرع من سلطة الفرد المطلق الذي يملي ارادته على الشعب ويستفرد بالقرارات المصيرية للبلاد ويستخدم القوة والبطش والتآمر لاخضاع العامة لمشيئته، ويستعين، في الغالب، بحلقة صغيرة من الاتباع (حزب. عسكر. عائلة) لمواجهة المعارضة، وقد يأذن باجراء انتخابات مسبقة النتائج في محاولة لاضفاء الشرعية على حكمه.
واستطاعت انظمة الدكتاتورية النموذجية (هتلر. سالازار. بول بوت. صدام. القذافي.) بناء انظمة تبدو قوية ومهيبة من خارجها، كما مكنتها اليات التحكم بالثروات من تشييد مرافق ومدن وجسور وبيئات امنية وصناعية وتجارية مبنية على الرقابة والتدخل والخوف، وعلى طي حقائق معاناة الملايين ومصادرة الحريات واعمال القتل المنهجية وابادة الاقليات وقوى المعارضة تحت غلالة من الدعاية المنهجية والرشوة التي توظف لها الاموال الطائلة.
بكلمة، صارت الديكتاتورية عارا في جبين التاريخ. اما عدالتها فلا تعدو عن كونها كذبة يسوقها انصار الدكتاتوريات الجديدة.. قيد الانشاء.
*
“يكفيك من الزاد ما بلغك المحلّ”.
اكثم بن صيفي التميمي

You may also like...