قضيتي مع البطريرك مار روفائيل بيداويذ ” والمطران مار سرهد جمو “

منذ ان بدأت الكتابة ونشرها في المواقع الالكترونية عن الكلدان وعلاقتهم بالاثنيات الاخرى الاشورية والسريانية على شكل مقالات علمية منطلقا من رؤية سوسيولوجية، منذ ذلك الحين بعد كل مقالة تنشر وما الا ان بعث احدهم لي تسجيلا لحديث البطريرك مار روفائيل بيداويذ الذي هو عبارة عن مقابلة تلفزيونية معه في القناة اللبنانية في أواخر التسعينات، ولكن لم اعثر في اية من المرسلات على تاريخ المقابلة تحديدا. وبعدها ترسل ايضا المحاضرة التي القاها المطران مار سرهد جمو في 24/5/1996 . ولتكرار هذه العملية بعد نشر كل مقالة قررت ان احدد موقفي من هذه الحالة التي لا يتبناها الا الذين يمتازون بنقص المعرفة والعلم ومنهجيته وصفاته وماهيته، ويفعلون ما لا يعلمون لتأثرهم بمخدر الايديولوجية السياسية، تصور اخي القارىء ان احدهم بدأ رسالته بهذه الصيغة وباللغة الانكليزية: (اني لا اخاطبك بالدكتور عبدالله لانه اسم عربي وانما اسميك الدكتور مرقس، يا للتعصب الاعمى وضعف الادراك ونقص الخبرة) فهو يجهل تماما ان عبدالله اسم كلداني بمعنى (اودي دآلاها) – وهل تعتقد مثل هؤلاء يدركون معنى العلم وانثروبولوجية الاسماء؟. (وبالرغم من وجود في التسجيلين نوع من التشويش والخدع والتقطيع والحذف المتعمد من قبل المرسلين، الا ان الرسالة الموجهة لي مفهومة على كل حال). وأجد بعضهم يبعث بالتسجيلين الى المواقع الالكترونية كأنما اكتشفوا شيئا أو نظرية ظنا منهم سيؤثرون على الرأي العام الكلداني.

قبل البدء في تحليل المسألتين، لابد من تحديد بعض الامور المتعلقة بمفاهيم المعرفة والعلم لكي يتسنى لنا ربط الموضوع وتحقيق الهدف من هذه المقالة، ويتعرف ويدرك أولئك ماهية العلم والمعرفة والفكر، ومن هو المفكر والباحث الاكاديمي والكاتب العادي.

المعرفة في علم الاجتماع هي مجموعة المعاني والمعتقدات والاحكام والمفاهيم والتصورات الفكرية التي تتكون لدى الانسان نتيجة لمحاولات متكررة لفهم الظواهر والاشياء المحيطة. وهناك نوعان من المعرفة: الاولى تأتي عن طريق الحواس التي يستخدمها الانسان العادي في حياته اليومية لادراك وفهم الظواهر والاشياء ووظائفها. والنوع الثاني، المعرفة الراقية التي تجتاز الحواس الى التفكير الراقي التي تتمثل في العملية العقلية التي يستخدمها الذين يمتلكون القدرات العقلية الراقية، لادراك العلاقة بين متغيرين أو أكثر لحل مشكلة ما، سوى على النطاق الطبيعي أو الاجتماعي، والمفكر هو الذي يمتلك مثل هذه القدرات التي يستخدمها في الحكم والتجريد والاستقراء والتعميم ليحقق الموضوعية، ويتحول المفكر لاحقا الى المرحلة العلمية ليطلق عليه عالما.

والعلم هو نسق من المعارف النظرية والعملية المكتسبة المضبوطة والدقيقة في ميدان معرفي معين، وهو بناء عقلي يكونه الباحث نتيجة ادراك العلاقات والسمات المشتركة بين مجموعة من المثيرات. واهم سمات العلم، التكرار، التراكم والتغير. فاذا بتكرار المعلومات وتراكمها عند الباحث يدرك الشيء المبحوث على حقيقته. ولكن بعض الحقائق التي يتوصل اليها العلماء اليوم قد لا تكون معتمدة في الغد القريب مما يستوجب التخلي عنها، ولهذا نقول ان التغير من صفات العلم. ومن هذا المنطلق يقول (انشتاين ): (ان العلم نظريات وتصورات تدنو من الحقيقة تدريجيا ولكنها لن تصل اليها ابدا).

وهناك امثلة متعددة في العلوم الطبيعية لتغير هذه الحقائق عند العالم الواحد او غيره من العلماء، فمثلا في سنة 1667 توصلا (جوهان بيجر وجورج ستال) الى نظرية مفادها: ان المواد القابلة للاشتعال هي مركبات تحوي (الفلوجستون) وثم جاء (لفوازييه) وفسر الاحتراق بتفاعل الاوكسجين مع العناصر المختلفة فاثبت خطأ النظرية الاولى. ولعله ابرز مثال في تغير الحقائق العلمية هو ما توصل اليه اسحاق نيوتن: ان الضوء عبارة عن جسيمات صغيرة وتسير وفق خطوط مستقيمة ما لم يعترضها مانع بينما تناقضت الحقائق التي توصل اليها (كريستان هوغتس) فتوصل الى ان الضوء هو عبارة عن أمواج، واكتشف ظاهرة حيود الضوء. ولكن نظرية ميكانيكا الكم (كوانتم) فسرت الضوء انه عبارة عن فوتونات فيها خصائص الجزيئات والموجات. وهكذا غيرت نظرية ميكانيكا الكم مفاهيم الحركة عند نيوتن فاصبحت قوانين كلاسيكية للعلم الحديث.

ولما كان هذا التغيير في الحقائق يحصل في العلوم الطبيعية، فكيف الحال في العلوم الاجتماعية والانسانية التي لم تتوصل الى قوانين علمية ثابتة لان المبحوث هو الانسان والمجتمع وليس المادة، وعليه هناك امثلة متعددة على تغير النظريات في العلوم الاجتماعية والانسانية، ولعل ابرزها هي التغيرات التي حدثت على ما توصل كارل ماركس من أفكار وعرفت بالماركسية الحديثة، وكم من التغيرات حصلت في نظريات علم الاجتماع والاقتصاد والتاريخ بعد ان انطلق الانثروبولوجيون منذ القرن الثامن عشر لدراسة المجتمعات البدائية الطوطمية لتوصل الى حقائق مذهلة لنشوء الاقتصاد والعائلة والزواج والدين ونشوء الحضارات البشرية، وغيرها من الظواهر الاجتماعية. وتعد النظريات العنصرية التي ظهرت في المانيا في القرن التاسع عشر لتبرر تفوق الانسان الابيض التي بدأها (آرنودي جوبينو)1816 – 1882، وبنى هتلر حزبه النازي سياسته العنصرية في ضوئها أبرز مثال لتغير الحقائق في العلوم الاجتماعية، وثم توصل علماء الاجتماع والنفس الى حقائق جديدة لدحض تلك النظريات.

وهناك أمثلة متعدة لا مجال لذكرها، فالعديد من العلماء في مختلف ميادين المعرفة بدأت افكارهم تجاه الظواهر بتصور معين ولكن بتراكم المعرفة عندهم تغيرت بمرور الزمن،فالمقصود ان مفهوم العلم هو مفهوم مرن قابل للنمو باضافة حقائق جديدة وقابل للتطوير والتعديل والتخلي عن بعض من المفاهيم التي كانت حقائق يوما ما.وفي عصرنا الحالي تتغيير هذه المفاهيم بسرعة مدهشة عند الباحث نفسه بفضل التكنولوجية المعلوماتية والاتصالية السريعة مما تسبب تلاقح الافكار سريعا.

يمتاز الباحث في العلوم الاجتماعية والانسانية كعلم الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والنفس والاعلام وغيرها بنفس الخصائص للباحث في العلوم الطبيعية لاتباعه الخطوات العلمية في بحوثه، وعليه يمكن ان يصل الى حقائق عن الظواهر الاجتماعية والانسانية،وبعدها قد يتخلى عنها لوصوله لحقائق اخرى عن الظاهرة نفسها لتراكم المعرفة عنده لاستخدامه الاستقراء والتجريد في عمله العلمي.ومن هذا المنطلق المنهجي لا يمكن ان تعتبر بعض طروحات السياسيين ورجال الدين وغيرهم من الكتاب مقبولة علميا لعدم الاعتماد في صياغة افكارهم على اسس البحث العلمي المقنن والمستوفي للشروط المنهجية المعروفة لدى الباحثيين الاكادميين.

ولعل اكثر الكتابات والبحوث والمؤلفات التي تحيد وتبتعد عن الحقائق العلمية تلك التي تكتب وتبحث من قبل السياسيين وذلك لتأثرهم بالنسق القيمي التي تقوم على المشاعر والامزجة، ومن هنا يتطابق تفكير الكاتب السياسي مع القيم والاهداف المتطابقة لايديولوجية حزبه السياسي المنتمي اليه.ولهذا لا يرى (ماكس فيبر)عالم الاجتماع الالماني اية قدرة للعلم للوقوف موقفا عقلانيا في مجال التأثر بالقيم.وعلى نفس المنوال يؤكد عالم الاجتماع المعرفة(كارل مانهايم )ان الحكم القيمي لا يقرر طابع الاشياء وانما المضامين النفعية التي تقررها المصالح المتناسبة مع العلاقات الشخصية والاجتماعية،ومن هذا المنطلق ايضا توصل (فلفريدو باريتو )عالم الاجتماع الايطالي الى ان الدوافع التي تتميز بالمظهر العاطفي ينطلق منها الايديولوجي لتفسير الظاهرة،ولكنها تسعى لاخفاء الاصل العقلاني لكثير من افعال الانسان.

والان اين نضع البطريرك مار روفائيل بيداويذ والمطران مار سرهد جمو في ضوء ما تقدم من الحقائق المرتبطة بالعلم والباحثين؟

من متابعتي للسيرة العلمية للبطريرك بيداويذ لم اجد من ضمن مؤلفاته كتابا أو بحثا يخص الشان القومي أو اللغوي أو الاثني أو التاريخي أو الاجتماعي والحضاري لبلاد النهرين فكتبه هي:رسائل البطريرك طيماثاوس الاول وهي اطروحة دكتوراة 1947،الغزالي وهي اطروحة دكتوراة ايضا في الفلسفة1956،الدراسات العربية في اسبانيا1960،الموصل في القرن الثامن عشر حسب مذكرات دومنيكوا لازو مترجم من الايطالية مما يدل ان الكتاب ليس من تأليفه،رسالة العذراء فاطمة 1930.واخيرا اشرافه على اعادة طبع القاموس (كلداني – عربي ) للمطران يعقوب منا سنة 1975.

ولم يذكر ان البطريرك قد مارس التدريس الاكاديمي الذي يجعل من الشخص مواكبا للتطورات العلمية والابداعات الفكرية، ولم يتلق في دراسته الاكليريكية دروسا في التاريخ الاثني لان المعروف من المدارس الدينية انها تركز على اللاهوت والفلسفة، ولم يشارك في لجنة أو ندوة أو مؤتمر اقيم لهذا الغرض، مما يدل بوضوح انه لا يمتلك معرفة اكاديمية مقننة علميا عن المسائل القومية والحضارية والاجتماعية والتاريخية، وان امتلكها فهي المكتسبة عن طريق القراءة كما عند عامة القراء أو بعض الكتاب الذين يطالعون كتابا معينا ويصبح ذلك الكتاب بالنسبة لهم منزلا.

وهذا يبدو جليا من الاجابة التي تلقتها المذيعة في المحطة التلفزينية من البطريرك أن الجواب كان سطحيا جدا لعدم طرح دعائم وحجج وبراهين لما قاله. فهل مسألة تحديد الهوية القومية لشعب ما تثبت بمجرد بمثل هذا التصريح الذي يقول كان جدي نسطوريا وعليه نحن أشوريون (نسطورية مذهب كنسي، هل اشورية مذهب ايضا؟)، وعلى هذا النهج فان كل من الفرس والعرب والترك والصينيين وغيرهم هم اشوريون لانهم كانوا نساطرة قبل دخولهم في الاسلام ، لايمكن على عاقل أو مثقف ان يتوقع من البطريرك مثل هذا الجواب الا اذا كان الجواب مقصودا لتحقيق هدف معين الذي هو مد جسور الالتقاء والوحدة بين الكنيستين الكاثوليكية والنسطورية في تلك الفترة التي كاد الالتئام يتم، واعتقادا منه واضفاءا للدبلوماسية في حديثه لتلطيف الاجواء، وكان على دراية تامة بان المسائل القومية هي من الاولويات النساطرة في كل المناسبات.

ان لم يكن هذا الهدف من اجابته يدل ذلك ان البطريرك تنقصه الخبرة التاريخية في الحضارات البشرية في بلاد النهرين ومن هم الكلدان والاشوريين والسريان وما علاقة بعضهم بالبعض، واني لا أظن ذلك فهو الذي اشرف على اعادة طبع القاموس الذي وضعه العلامة المطران يعقوب اوجين (كلداني –عربي) وقدم للطبعة الجديدة وبدأها بعبارة (كان بودنا وضع معجم جديد متطور للغة السريان من المشارقة – وهم الكلدان – والمغاربة – وهم السريان). ياترى لماذا لم يأت بذكر الاشوريين طالما هوآشوري الاصل؟ ويأتي في الفقرة ما قبل الاخيرة في مقدمته (نظرا الى طبعه بالحرف الكلداني وباللهجة السريانية الشرقية، الكلدانية، اللهجة الاكثر استعمالا في الكنيسة الكلدانية والكنيسة المشرقية – الاشورية-) أليس هذا اعترافا صريحا من البطريرك ان اللغة هذه هي لغة كلدانية لقوله الحرف الكلداني ومتداولة في الكنيستين؟ ومن جهة اخرى لماذا لم يعلق البطريرك في مقدمته عن ما أورده المطران (منا) في الفصل الذي وضعه لمعالجة موضوع الذي سماه النزاع بين الكلدان والسريان حول الاصالة وفي الفصل براهين عديدة لاصالة الكلدان (ص 13 وما بعدها من القاموس ) لو كان منذ البدء يمتلك هذا الموقف الذي يروج له.

اذا كانت حجة هؤلاء اننا يجب ان نأخذ بما صرح به البطريرك لانه رأس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وعلينا اطاعته، ذلك وهم لان هذا الاجتهاد ليس اجتهادا دينيا، فلو كان ذلك لقلنا جميعا نعم، فهي مسألة لا ترتبط باسرار الكنيسة ليحلها ويربطها ونحن نخضع لذلك. ومن جهة اخرى لم يكن تصريحه صادرا من سينودس رسمي للكنيسة، وقد تعتبر مثل هذه الحالات تعبير عن الرأي الشخصي وليس الا. فبدلا من التشبث بالمقابلة هذه لماذا لم تروقوا لهم نتائج السينودس الذي عقده الاساقفة الكلدان في اربيل بتاريخ 5/5/ 2009 ووقعوا جميعهم باستثناء المطران ربان القس راعي ابرشية العمادية على مذكرة مرفوعة الى لجنة صياغة الدستور في اقليم كوردستان لتثبيت التسمية القومية للكلدان، علما ان الموقعين من الاساقفة اغلبهم من المفكرين والمؤلفين لكتب تأريخية عديدة، وان توقيعهم جاء عن قناعة تامة دون ضغوط سياسية أو مجاملات لجهة معينة.

يتبين مما تقدم عن البطريرك مار روفائيل بيداويذ ان تصريحه الاعلامي لا يمكن القبول به علميا اذ لا تنطبق على سيرته العلمية في الشأن القومي والتاريخي والاجتماعي، وأن نشاطه العلمي اقتصر على اللاهوت وبمحدودية لعدم ممارسته العمل الاكاديمي مما افتقد الى التراكم والتجديد المعرفي، ولا يعني وصوله الى السدة البطريركية انه ملم بكل ميادين المعرفة، وان ما يطلقه من التصريحات علينا الاخذ بها. اضافة ان مثل هذه التصريحات الاعلامية أو ما يكتب في الصحافة لا يعد اكاديميا مصدرا أو مرجعا علميا يستند عليه في دراسة الظواهر الاجتماعية ما عدا تلك التي تنشر في المجلات المقننة منهجيا وتصدر من مؤسسة اكاديمية. وتذكرني هذه الحالة بمناقشة رسالة الماجستير لزميلة لي في قسم الاجتماع في جامعة بغداد سنة 1983 حينما اكتشف أحد الاساتذة المناقشين انها اعتمدت على صحيفة يومية كمصدر لمعلوماتها في الاطروحة، فأكد (بان تعوض عن هذه الصحيفة بمصدر علمي لقوله اننا لايمكن الاعتماد على كلام الجرائد لكي ندرس ونشخص ونعطي المعالجات للظاهرة المبحوثة)، وعليه الزمت الزميلة بتغيير المصدر. ولهذا نؤكد دائما ان بعض من كتابنا وساستنا تنقصهم الخبرة العلمية والمنهجية، ومنها انهم يتصورون كل ما يرد في الصحافة من معلومات يمكن القبول به وهذا خطأ وتجاوز كبير جدا بحق العلم والعلماء.

أما من متابعتي للسيرة الذاتية للمطران (مار سرهد جمو) الذي نال شهادة الدكتوراة في الدراسات الشرقية الكنائسية الموسومة (تركيبة الطقس الكلداني)، 1969 تبين انه توجه منذ البدء الى مزاولة العمل الاكاديمي اضافة الى عمله الكهنوتي، وقد مارس التدريس في المعهد الشرقي في روما بين سنة 1977 -1979 . وعمل محاضرا في جامعة نوتردام في انديانا الامريكية وفي الجامعة الكاثوليكية في واشنطن سنة 1984 ولمدة ثلاث سنوات. ومنذ عام 1993 يحاضر فصلا دراسيا من كل سنة في المعهد الشرقي البابوي. واصبح عضوا بارزا في اللجنة المشتركة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة النسطورية الشرقية سنة 1995 للتوحيد بين الكنيستين.

وابرز الكتابات العلمية للمطران مار سرهد جمو في هذا الموضوع هو البحث الموسوم (الهوية الكلدانية في الوثائق الكلدانية) مقالته الاخرى (كنيسة المشرق بين شطريها)، فهو من النتاجات الفكرية التاريخية الاجتماعية التي استخدم المنهج الاستقرائي لجمع المعلومات وتحليلها، معتمدا على الوثائق الثبوتية والمصادر المباشرة للحدث من المراجع التاريخية والمراسلات التي تمت بين البطاركة في الكنيسة المشرقية وروما وتقارير المرسلين الكنسيين، وثم ما يحتويه الطقس الكلداني من اثبات الكلدانية ضمن محاوره المختلفة، ففي هذا البحث اثبت بحجج وبراهين متعددة الهوية الكلدانية القومية محللا للينابيع الفكرية الاولى بهذا الصدد. وأما بحثه الثالث هو ( النهضة الكلدانية رؤية اساسية موجزة) الذي يطرح بايجاز ماهو عليه اليوم الكلدان مستخلصا العوامل الذاتية والموضوعية التي تؤثر على الوجود الكلداني .

يمكننا بوضوح ان نستنتج مما تقدم، ان المطران مارسرهد جمو يمتلك فكرا وسياقا اكاديميا في الكتابة والبحث والتحليل طالما انه زاول العمل الاكاديمي الذي يصقل فكر الكاتب بمنهجية علمية مقننة، ويدفع به الى التواصل العلمي والوقوف على المستجدات العلمية وعلى اخر النظريات والنتاجات الفكرية في المجالات المعرفية المتعددة لانها من متطلبات العمل الاكاديمي، مما تتيح الفرصة للاكاديمي لتطويرمواقفه العلمية سوى كانت من نتاجه أو من نتاج غيره لتراكم المعلومات محاولا اكتشاف الجديد ونبذ القديم، وهذا ما يميز الكاتب والباحث الاكاديمي عن الكاتب العادي الذي يعتمد بشكل مباشر وغير مباشر على مؤلفات الاخرين دون التعمق في التحليل واستخدام المنهجية، فالكاتب العادي يجمع من هنا وهناك ويحشرها ليكون مقالا أو مؤلفا .

وابرز ما نستخلصه هو، ان اهتمامات المطران (جمو) تتمحور حول القضايا التاريخية والثقافية،والجغرافية والاجتماعية وتحديدا تلك التي تدور حول الهوية القومية والعلاقة بين الكلدان والاشوريين والسريان، فهو يؤكد ان التسمية الاشورية هي جغرافية وليست تسمية اطلقت على مجموعة بشرية، وقد ساعدت عضويته في اللجنة المشتركة للحوار بين الكنيستين الالمام وتكوين المعلومات بغزارة عن الهوية الكلدانية، مما تقودنا الحالة الى القول انه اختصاصي في الموضوع ومرجعا مهما في الفكر والمعرفة عن هذا الموضوع الشائك والمعقد. وهذا مايتميز به المطران مار سرهد جمو عن البطريرك مار روفائيل بيداويذ.

وأما ما يتعلق بمحاضرته التي القاها في 24 /أيار /1996، والتي اصبحت ذريعة وهمية يتخذها بعض من القاصرين في المعرفة وتحليل المضمون لكي تخدم ما تمليه الاحزاب الاشورية في عقولهم اضافة للمقابلة التلفزيونية للبطريرك مار روفائيل بيداويذ. ومن مشاهدة المقطع الفديوي الذي يرسل لي والسماع اليه تبين:

أولا: يوجد تشويه وخدع فنية احدثت على المقطع الفديوي اذ أحيانا لايتوافق الصوت مع الصورة فبعد ما يقول المطران عبارة (بحثوا اي اجدادنا على اسم لا يشمل على زمن واحد وانما اسم …ويتم القطع) ولعدم ارسال النص الكامل للمحاضرة يدل على ان التعمد والتشويه قد حصل فعلا، اذ ان عملية تجريد المقطع من النص الكامل لايعطي معنا لان المعنى والمغزى من المحاضرة لابد استيعابه وتحليله من النص الكامل، وهذه الطريقة يستخدمها المتأثرين بأيديولوجية سياسية معينة في النقد والتحليل، فهم يختارون مقطعا أو عبارة من الكتاب أو البحث أو المحاضرة فيؤدي الى تشويه الصورة عند القارىء أو المستمع، وقد حصلت هذه الحالة تجاه مقالاتي الشخصية حيث قبل أيام انتقد أحدهم المقالة المعنونة (تهميش الكلدان ) بتذرعه بعبارة اقتبسها من كتابي الذي اصدرته سنة 2001 المعنون (الكلدان المعاصرون) وهي (لا يساعدنا اي من المحكات أو المتغيرات، العرقية، الجغرافية، اللغوية والدينية على التفريق بين الجماعتين –اي الكلدان والاشوريين) واكتفى بهذا القدر، فالقارىء يظن ان هذا النص وقعني بالتناقض في أفكاري، ولكن الحقيقة تتبين لو اكمل واشار الناقد الى مابعد الاقتباس الذي راق له اذ كتبت (فما هو السبيل لحل هذه المعضلة؟ هذا ما سأجيب عليه في الفصل القادم) فالفصل الثاني من الكتاب المذكور وضعت نظرية اجتماعية انثروبولوجية لحلها وقد تجاهلها الناقد لانها لا تخدم مصلحة حزبه السياسي (ص42 الكلدان المعاصرون)

وثانيا: ان المحاضرة القيت في زمن كانت الكنيستين الكاثوليكية والنسطورية تسعى للاتحاد وكان مار سرهد جمو عضوا بارزا في لجنة المساعي، فلابد منه تكييف محتوى المحاضرة للوضع العام والرأي العام الذي ساد آنذاك لاحتواء الاختلافات وتلطيف الاجواء بين مؤمني الكنيستين.

وثالثا: لو تجاوزنا اولا وثانيا اعلاه من تحليلي، وجدلا لو قلنا ان المقطع هو صحيح، يمكننا تفسير تطوير وتوضيح رأي المطران الى كونه مفكرا وباحثا اكاديميا وهو متواصل في البحث والدراسة فتتراكم لديه المعرفة والمعلومات ومن الطبيعي جدا وفقا لمبادىء البحث العلمي وخصائص العلم والمعرفة التي حددناها اعلاه ان يوضح المطران سرهد جمو نظريته عن الظاهرة هذه ويطوّر الفكرة التي حملها عن الموضوع المدروس وهذا شأن كل الباحثين والمفكرين، ولو باعتقادي ان ما قاله المطران مارسرهد يقصد به ان اجدادنا ادركوا انتسابهم الى نينوى جغرافيا وليس الى بابل ،ولا يدل ذلك انهم اشوريوا القومية .

وخلاصة القول

ان مثل هذه المحاولات اليائسة لا يمكن ان تغير مواقف الباحثين والكتاب تجاه الظواهر الاجتماعية والمفاهيم القومية، فمن المستحسن، ان لا يتعاملوا مع الاحداث بازدواجية مفرطة تجاه المقالات والبحوث محاولا انتقاء تلك التي تخدم آرائهم وقضيتهم السياسية ويتجنبوا تلك التي لا تتوافق مع تطلعاتهم، أو يقتبسوا مقطعا ليشوهوا للقارىء المحتوى الكامل للموضوع. فبدلا من هذه المحاولات التي لاجدوى منها ادعوهم الى البحث عن السبل التي توحدنا بالاحترام المتبادل ونتطلع لمستقبل زاهر لشعبنا الكلداني والاشوري والسرياني في الوطن والمهجر _________________
“كان البطريرك ماروفائيل بيداويذ بطريركا للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية من سنة 1989 والى سنة وفاته 2003 .

“المطران مار سرهد يوسف جمو هو راعي ابرشية مار بطرس الكلدانية الكاثوليكية في الولايات الامريكية المتحدة منذ عام 2002 ومقرها في مدينة سادييكو .

“تماشيا مع قواعد المنهج العلمي انني لا استخدم كلمات المرحوم والسيادة وغيرها فلا يجوز مثلا القول المرحوم سيجموند فرويد عند الحديث عن نظرياته، فعذرنا للقاريء الكريم.
الدكتور عبدالله مرقس رابي
استاذ وباحث اكاديمي

You may also like...