فلك الدين كاكائي الإنسان.. التواضع من خصال الكبار

 

الراحل فلك الدين كاكائي ( 1943ـ 2013) اسم لأنسان معروف على الساحة السياسية والأدبية والفكرية في اقليم كوردستان وعلى عموم الساحة العراقية ، ومن الصعوبة بمكان خلق توازن بين متطلبات العمل بين تلك النواحي ، لا سيما العمل السياسي الذي يتطلب ، في كثير من المنعطفات ، الخوض في متاهات المصالح وتبرير الوسيلة مهما كانت لتحقيق تلك المصالح . لقد كانت هنالك تجارب تاريخية قليلة استطاع اصحابها التوفيق بين تلك المسائل والخوض في العمل السياسي . لقد استطاع الزعيم الهندي مهاتما غاندي من اتباع اسلوب النضال المدني السلمي من اجل تحقيق اهداف سياسية في استقلال بلده ، كما استطاع الزعيم التشيكي فاتسلاف هافيل ( 1936 ـ 2011 ) من تحقيق ثورة مخملية لبلده وهو كاتب مسرحي ونصير للسلام ، وان يتبوأ منصب الرئاسة في تشيكوسلوفاكيا ومن ثم رئاسة جمهورية التشيك في عام 1993 وحتى عام 2003 ، وحاز على جائزة غاندي للسلام لأسهاماته حيال السلام العالمي .

المهم هنا ان شخصية الراحل المرحوم فلك الدين كاكائي كان يحمل كثيراً من افكار مهاتما غاندي السلمية ، إذ استطاع ان يوفق بين عمله النضالي ووظيفته السياسية مع بقائه مساهماً في عالم الثقافة والأدب والفكر والأعلام ، بل استطاع ان يحقق بعض طموحاته الثقافية والأدبية حينما كان وزيراً للثقافة فكان له المجال الواسع للوقوف الى جانب الثقافة والمثقفين وتعضيدهم وتقديم الدعم لهم ولنشاطاتهم .

لقد تعرفت على الأستاذ فلك الدين كاكائي يوم كان لنا دعوة لحضور مؤتمر في اربيل كرس لتكريم الراحل ناجي عقراوي ، وتمت لقاءات اخرى خارج قاعة المؤتمر ، كان دائماً يتخاطب معنا بمنطق المثقف وليس بصفته كوزير مسؤول . بعد اكثر من سنة التقيت مع الأستاذ فلك الدين كاكائي في احد فنادق اربيل ، وسلمته نسخة مستنسخة من مسودة كتابي الموسوم ” البارزاني مصطفى قائد من هذا العصر ” وطلبت منه ان يراجع الكتاب قبل طبعه ، وأن يكتب مقدمة للكتاب ، وحينما سلمت له الأوراق وكانت حوالي 1500 ورقة لأنه مطبوع على جانب واحد من الورقة ، ونظر المرحوم الى كمية الأوراق وقال :

يا رجل انه عمل كبير ويتطلب جهداً فائقاً ، وأنا صحتي ليست على ما يرام ، ولكن مع ذلك سوف استلم النسخة وأبذل جهودي وقدر الإمكان . وهكذا بعد اشهر وصلتني الملاحظات القيمة للاستاذ كاكائي ومرفقة بنص المقدمة للكتاب وهي مكتوبة بخط يده، وهكذا افتتحت الكتاب حين طبعه بتقديم الأستاذ كاكائي وكان تقديمه تحت عنوان : عودة البارزاني ، وقد استهلها بقوله :

وكأني بالفيلسوف الألماني فردريك نيتشة المتوفي سنة 1900 م. وهو يستنبط من تراث الحكيم زرادشت فكرة لصورة السرمدية التي كشف عنها في كتابه ( هكذا تكلم زرادشت ) .. اقول : ان نيتشة إنما يعبر ايضاً عن مسيرة مصطفى البارزاني الذي كلما حاول خصومه إخفاء وطمر حقيقة كفاحه وأهدافها الإنسانية ، إذا به يتجلى من حيث لا يتوقعون ولا يريدون ، سواء في كتاب او حديث مهم او تذكير بالماضي القريب .. ( كتابي ” البارزاني مصطفى قائد من هذا العصر” دار ئاراز ص11 ) .

أجل تحمل الرجل جهوداً كبيرة لمراجعة الكتاب وتقديمه ، وهو سعيد بهذا التعب ما دام يخدم قضية وتاريخ الشعب الكوردي ويخدم الثقافة .

من خصائل الكاكائي انه مثقف وإنسان متواضع ومناضل من اجل تحقيق اماني شعبه ، فلقد انضم كاكائي وهو في سن مبكرة إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وبعد انقسام اتحاد الطلبة إلى قسمين الأول تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني، والآخر إلى الحزب الشيوعي، أصبح فلك الدين عضوا في الحزب الديمقراطي الكردستاني بشكل طبيعي، حيث كان الحزبان يتقبلان ذلك الأمر دون إشكالات. وظل في الحزب إلى حين انهيار ثورة التحررية التي قادها الزعيم الراحل مصطفى بارزاني، ثم عاد مرة أخرى للالتحاق بالثورة التي أعلنها نجلا بارزاني، إدريس ومسعود، وظل معهما حتى آخر لحظة في حياته(جريدة الشرق الأوسط في 4: 8 : 13).

كان للراحل فلك الدين كاكائي مكانة محترمة ومتميزة في كوردستان ، إن كان على نطاق الوسط الشعبي او على مستوى المسؤولين في اقليم كوردستان فقد كتب الرئيس مسعود البارزاني الى عائلة الفقيد أكد فيها أن :

«الراحل كرس جل حياته من أجل النضال للدفاع عن شعبه، وكان له دور متميز وكبير في ثورة كأحد أفراد البيشمركة ثم سياسيا ومثقفا وإعلاميا، وسطر لنفسه مجدا في وقت كانت الأنظمة الديكتاتورية تواجه شعبنا بالحديد والنار، لكن كاكائي لم يبال بمصاعب وقسوة ظروف النضال وكان دائما موجودا بخنادق النضال، سواء كبيشمركة، أو كادر إعلامي، أو رجل سياسي .

كما كان هنالك اشتراك متميز من قبل الاستاذ نيجرفان البارزاني رئيس وزراء حكومة اقليم كوردستان حيث كان في مقدمة مشيعيي الراحل ومن اشترك في حمل نعشه الى مثواه الأخير . وقال في رسالة حزينة وجهها إلى شعبه بهذه المناسبة وقال فيها:

«أكتب اليوم هذه الرسالة وقلبي يعتصره ألم كبير بسبب رحيل أحد أقرب المقربين إلي، وهو فلك الدين كاكائي الذي أعتبره معلما لي». ويستطرد بارزاني: «بعد نكسة ثورة سبتمبر (أيلول) كنت أرى كاك فلك الدين دائما في بيتنا وفي مقرات البيشمركة، وكان المرحوم يلازم والدي الراحل إدريس بارزاني خلال تلك الفترة العصيبة من تاريخ شعبي، وكانت الأواصر النضالية تقربهما، لذلك كانت جهودهما المشتركة تثمر دائما عن توحيد الموقف الكردي، ولذلك أرى أنه من الطبيعي اليوم أن يحضر تشييع جنازته ممثلون عن كل أجزاء كردستان الأربعة ..

كان فلك الدين كاكائي يجد نفسه في حقل الثقافة اكثر من السياسة ، فلم ينقطع عن الثقافة مهما كانت الظروف ورغم مشاغل الحياة فقد استطاع كتابة مؤلفات مهمة ومنها بالعربية «العلويون»، و«موطن النور»، و«احتفالا بالوجود» و«حلاجيات»، و«البيت الزجاجي للشرق الأوسط»، و«انقلاب روحي». أما مؤلفاته باللغة الكردية فهي «بيدارى» و«روناهي زردشت»، إلى جانب مئات المقالات والدراسات والبحوث التي ساهم بها ، وحتى وظيفته كانت في وزارة الثقافة حيث تولى حقيبتها لمرتين .

وعن انطباعاته الشخصية يقول عبد الوهاب علي ، وهو احد رفاقه في دروب النضال يقول :

«كان سرعان ما يمل تلك الوظائف الحكومية والحزبية، ويهجرها ليعود إلى عشه الأصلي، وهو الوسط الثقافي، الذي كان أحد فرسانه الأساسيين». ويضيف :

إن «آخر تكريم لهذا المفكر الكبير كان من عندنا بالسليمانية، فقد دعوناه أخيرا لعقد ندوة ثقافية بالمدينة، وعلى الرغم من اعتلال صحته، والذي بدا عليه بشكل واضح أثناء حضوره إلى السليمانية وتقطع أنفاسه أثناء الحديث، لكنه كما بين لي، فإنه جاء إلى السليمانية ليلتقي بشبابها وشاباتها ولكي لا يحرمهم من لقائه ومن ثقافته، وكان ذلك آخر نشاط ثقافي للمرحوم، وكرمناه خلال الندوة، وكان هو التكريم الأخير أيضا».

كان للقامة السامقة للراحل فلك الدين كاكائي حضوراً كبير في الساحة السياسية والفكرية والثقافية وسوف يترك فراغاً كبيراً ، كما سيبقى ما سطره قلمه وذكريات شخصيته الإنسانية سوف تبقى خالدة مع الأجيال القادمة . رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح ملكوته السماوي والصبر والسلوان لأهله ومحبه وذويه .

د. حبيب تومي : عنكاوا

في 06 : 08 : 2913

 

 

 

 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *