فاجعة جديدة للمسيحيين في العراق

لقد هـزَّ خبر الإعتداء الغاشم على المسيحيين الأبرياء داخل كنيسة سيدة النجاة الواقعة في قلب بغـداد الشعـبَ المسيحي في مختـلف أنحاء العالم ، يا له من هجـوم بربري إقترفـته زمرة من زُمر الشرِّ والإجرام عدوة الإله وعباده البشر . هذه الزُمَر الخبيثة التي تقف وراءَها جهات متطرفة من داخل العراق وخارجه وتدفعها لإرتكاب أبشع الجرائم بحق المسيحيين المسالمين الذين لا ذنب لهم سوى كونهم مسيحيين . إن الدافعـين لهؤلاء القتلة سفاكي الدماء لا ينتمون الى أيِّ دين أو مذهب ، إنهم مرضى النفوس الأمارة بالسوء .

تذكرنا هـذه المأساة التي لا مثيل لها بالمسيحيين الأوائل الذين كانوا يتسابقـون لـنيـل اكليل الشهادة عـلى أيادي الوثنيين الذين لم يكـونوا يعرفـون الله ، فكيف بنا اليوم نحن مسيحيو هذا العصر أن نتعرَّض للقتل على أيدي مَن يدَّعون أنهم يؤمنون بالله ، فأيُّ فرقٍ بينهم وبين الوثنيين ؟ وكيف يُبرر الإنسان المؤمن بالله أن يقـتل مَن يفوقه ايماناً بالله ؟

لقد ذاق مسيحيو بلاد الرافدين الأمرَّين في العهود الوثنية تحت ذرائع واهية واتهامات باطلة ، ولدى مجيء العرب المسلمين استبشر المسيحيون خيراً حيث أخبروهم بأن رسالتهم هي توحيدية وأنهم يعـترفـون بالمسيح مما شجَّـع المسيحـيين للوقـوف الى جانبهم ضدَّ الوثنيين ، وسارت الأمور متأرجحة بين الـقسوة أحياناً وبين التسامح واللين أحياناً اخرى . ولدى استيلاء المغـول على البلاد شمل الإضطهاد جميع سكان دون استـثـناء ، وما إن أسلم بعـض الملوك المغـول حتى دارت الدائرة على المسيحيين وبعـنفٍ شديد ، وكان الأشد قسوة بينهم الفاتح المغولي العاتي تيمورلنك، فقد اضطهد المسيحيين بشكل رهيب فاضطر الذين نجوا من سيفه الى هجر مساكنهم في البصرة وبغداد وهربوا الى المناطق الشمالية القريبة والنائية من العراق .

ولم ينجُ المسيحيـون من الـذبح والسلـب والنهـب والتدمير أثناء الحرب العالمية الأولى حيث كاد العـثمانيون من القضاء على الوجود المسيحي ، وقد قُـدِّرعددُ القتلى من عموم المسيحيين بما يقرب من ثلاثة ملايين من ضمنهم نصف مليون من الكلدان بمختلف مذاهبهم . ولدى قيام الحكم الوطني في العراق عام 1921 تآخى أبناء العراق بمختلف قـومياتهم وأديانهم ومذاهـبهـم واشتركـوا في عـيش مشترك حتى عام 1933 حـيث تعـرَّض أبـناء طائفة الكـلدان النساطرة المسيحيين الى مذبحة سميل، إذ  قتـل فـيها عدة آلاف بـينهم رجال ونساء وأطفال ، فكانت نـذير شؤم وإيذاناً بعودة الإضطهاد ، ولكن الأمور تحسنت بعد ذلك، واستقـرَّت الأوضاع السياسية وانتعش الإقتصاد في المدن العراقية الكبرى ، فتدفـق الكثير من المسيحيين من قراهم الى بغداد والبصرة وكركوك ، و تراوح عـددهم في هذه المدن قرابة المليون ونيِّـف واحتوت بغداد القسم الأعظم .

ولدى تسلم حزب الـبعـث السلطة ، وتمَّ تأميم النفط دخـل العراق مرحلة اقـتصادية انـفجارية ، جعـلت منه مركز استقطاب للعمالة العربية والأجنبية ، ولكنها كانت فترة محدودة حيث دخل العراق في حرب استنزافية مع ايران جاءَت على الأخضر واليابس، ثم تلتها عملية الإستيلاء على الكويت، ومن جرائها فرضت العقوبات الإقتصادية على العراق ، فـتدهور اقتصاده مما حدا بالمسيحيين اعتماد طريق الهجرة ومنذ بداية الحرب العراقية الإيرانية العبثية، رغم استشهاد عددٍ كبير من أبنائهم الذين أبلوا أحسن البلاء في تلك الحرب الضروس، وكان ذلك دليلاً على شجاعتهم ودحضاً لإتهامهم بالجبن مِن قبل بعض المتوهمين، كما كان أيضاً برهاناً على إخلاصهم الكبير لوطنهم .

وبعد زوال النظام البعثي وبداية مرحلة الإحتلال عام 2003 اشتدَّ نزيف الهجرة بعد مرور سنة أو أقل ، حيث عاد الإضطهاد ثانية ليشمل مسيحـيي العـراق ، فـتعـرضوا لأبشع أنـواعه من قـتـل وخطـف وابتـزاز وتشريـد وأسلَـمة وتهجير قسري، قامت به زمر سلفية وافدة تعضدها جهات معادية من داخل الوطن وخارجه ، قد نال منهم التزمت وأعمى الحقـد بصائرَهم ، فـنادوا بالجهاد الكريه  ضد الأبرياء، مستغـلين الإنفلات الأمني نتـيجة التخبُّـط السياسي والصراع الدائرة رحاه بين الحكام حول المناصب ونهب ثروات الوطن ، غير عابئين بما يجري لشعـبهم بمخـتـلف فئاته وأطيافه ولا سيما المسيحيون منهم من قـتل وذبـح وتـدمير ، هـذه الشريحة المؤمنة بـتعاليم المسيح المُـثلى والنبيلة المرتكزة على محبة الآخرين حتى لو كانوا أعداءً لهم .

هـذه الحالة المزرية إضطرَّت المسيحيين للهجرة من جـديد ، وبإطرادٍ مع ازدياد هجمات الإرهابيين التي شملت الكنائس والأديرة ، وطالت الكهنة والأساقفة بالخطـف والقـتل لا لشيء إلا لأنهم مسيحيون ، وإلا بماذا يُبـرَّر هذا الإعتداء الهمجي الخالي من الرحمة المملوء بالحقـد والكراهية . بالتأـكيد لا يمكن أن يكون منفـذو هذه الأعمال الوحشية من المسلمين العـراقيين ضِدَّ إخوانهم المسيحيين العـراقيين ، ولكن لا يمكن تبرئة بعـض العناصر من مسلمي العراق المغرر بهم من قبل الجهات السلفية المسلمة الحاقدة على تآخي أطياف الشعب العراقي والتي لا يروق لها استقرار العراق .

إنها مؤامرة قذرة تُـحاك ضِدَّ المسيحيين في العراق من قبل أطرافٍ حاقـدة بهدف إخلاء العراق منه، وعلى مسلمي العراق الإنتباه لهذه المؤامرة، فخلُـوُّ العراق من المسيحـيين ليس بصالحهم،لأن وجـودهم هـو الدليل الوحيـد الذي يربط تاريخ العراق الحاضر بتاريخ ماضيه العريق الباهر، فلأسلافهم القـدماء الـفضل في إرساء أركان حـضارته التي صارت أساساً لحـضارة العالم بشتى أنـواعها، وعـلى العرب المسلمين أن لا يـنسوا فـضل أجداد المسيحـيين الذين بفضل العلماء من أبنائهم وطدوا اسس الثقافة العربية وطوَّروها  خلال مسيرتها الطويلة . إنهم اليوم في محنةٍ شديدة ويواجهون عدواً غريباً ومجهولاً، فحتى متى يبقى المسلمون صامتين جامدين لا يتحركون لنـجدتهم ألستم أنتم الأكثرية ومن واجبكم حماية الأقلية ! اللهم أنر العقـول وجَـدِّد في القلوب الرحمة وكُن في عون قطيعك الصغير ، واحفظه من أنياب الذئاب الخاطفة !

الشماس د. كوركيس مردو
عضو الهيئة التنفيذية
في الإتحاد العالمي للكتاب والأدباء الكلدان
 في 2 / 11 / 2010 

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *