غبطة البطريرك ساكو – جددنا ولا تؤاخذنا على ما يقولهُ الأنداد منّا

ما أننا ما زلنا في الأسبوع الأول والثاني من القيامة، لذا أهنيء كل من يتخذ حدث القيامة أساس لإيمانه ومن يحتفل بهذا العيد كتقليد، متمنياً للجميع حياة ملؤها الحب.

وبهذه المناسبة الكبيرة والمهمة في حياة المسيحيين، حضرت القداس الصباحي أسوةً بآخرين غيري في كنيستي الحبيبة الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية، ولفت إنتباهي مشاركة رجل وإمرأة يتضّح من ملامحهم بأنهم من إحدى دول شرق آسيا، وكذلك مشاركة رجل ذو بشرة سوداء إفريقية.

إلى هنا لا توجد مشكلة، الأمر طبيعي جداً، المشكلة معي تحديداً، لأن وجودهم أبعدني عن جو القداس، وفي كلّ مرة ألملم عقلي لأركز في الصلوات، لا إرادياً ألتفت لهم ليتشتت ذهني مرة أخرى، ترى أين يشرد؟

قد يتصوّر البعض حال قراءة تلك المقدمة بأنني أستاء من وجود الأجانب في كنيستي، على العكس تماماً، فحضورهم يسعدني جداً، ويا ليت كنيستي قادرة على إستقطاب مئات وآلاف وملايين من العالم كي ينتموا لها رغم أن للكنيسة الكلدانية بُعـداً قومياً وهذا واضح وجلّي من خلال إسمها الكلداني العريق. لكن قلقي سببه قداسي حيث ليس فيه ما يجذب الغرباء! بل أحياناً ينفر منه المؤمنين من الكنيسة، وهذا ما حدث معي في مقتبل عمري حتى بلوغي الثالثة والعشرين، كوني لا أعرف اللغة الكلدانية، وقد يكون هناك أسباب أخرى أجهلها أو لا أرغب بذكرها.

المشكلة التي شتت ذهني في القداس هو مقالات البعض التي يتباكون فيها على اللغة الطقسية والتراث والألحان القديمة، ليصل البعض منهم بإلصاق التهم والتعابير الرزيلة بحق الفاتيكان ورجال الدين الكلدان! لذا وفي تلك الساعة التي شاهدت فيها الآسيويَين والأفريقي في كنيستي تذكرت تلك المقالات التي لا يمكنني أن أصفها بأكثر من مقالات هزيلة تفتقر لإستيعاب هدف الكنيسة الأول وهو التبشير، أو لا تتعدى مقالات تحريضية ضد الكنيسة الكلدانية والهدف منها هو أخذ موقف حاد من الإكليروس على إعتبارهم سبباً في تدمير الطقس بترجمته أو بتطعيمه بتراتيل حديثة، وكذلك تهدف إلى قوقعة الكنيسة الكلدانية حول ذاتها وهجرها من مؤمنيها الذين سيشعرون بأنهم ينتمون إلى كنيسة جافة لا تجدد فيها، والتي ستكون (أي الكنيسة) فناءاً للصلاة بلغة لا يفهمها سوى قلة من الناس (وأقصد اللغة الطقسية القديمة) أما المحكية والتي تسمى خطأ (السورث) فهي تحتوي على نسبة كبيرة من الكلمات العربية لمن يسكن مع العرب وكردية وأيرانية وتركية لمن يسكن في كنف تلك الشعوب، هذا وإن هناك الكثير من المفردات التي لا يفهمها من ينتمي إلى قرية تبتعد عن قرية المتحدّث!

أما من يعتقد بأن لغة قداس كنيسة المشرق هي لغة المسيح نفسها وكان يتحدث بها، فهذا نتيجة جهل حقيقي بالشيء، صحيح هي من نفس اللغة الأم إلا أن الإختلاف كبير جداً لدرجة أن الكلمات المشتركة قليلة جداً. وما يفوق الجهل هو التعبير الذي طالما سمعته وأسمعه “كيف أنت مسيحي ولا تتكلّم مسيحي؟)!! ويا عجبي على اللغة المسيحية من أين أتت؟ وما هو مصدرها؟ وكأنه لا يوجد مسيحيين في العالم سوى من يتكلمون اللغة الكلدانية أو الآرامية ومشتقاتها بحسب ما يحلوا للبعض تسميتها!!

صحيح وأجزم بأن ليتورجية كنيسة المشرق رائعة بألحانها ولاهوتها، لكن هذا لا يعني بأن من خلق مؤلفي الليتورجية وملحني صلواتها لم يخلق غيرهم على مر القرون ولن يخلق سواهم. وكلما نتمسّك بالصلوات القديمة قتلنا الإبداع ومنعنا الروح القدس من العمل من خلال مؤمنين لهم قابليات قد تفوق مار أدي ومار نرساي ومار أفرام وجبرائيل وماري القطري!! أم هذا غريب على الإيمان المسيحي؟

لنعتبر بأن الأسيويَين الذين قدما إلى كنيستي، لا ينتمون إلى أية ديانة، وقد عرفوا المسيح من خلال كلداني يتقّن لغتهم ودعائهم لحضور القداس، ماذا سيستفيدون من حضورهم، أو ماذا سأستفيد أنا المسيحي المعمذ من حضور قداس باللغة الهندية مثلاً؟

لذا لو أراد المبشّر المشرقي أن يكمل مسيرته معهم فعليه أن يأخذهم إلى قداس بلغة يفهموها، وبهذه الحالة سنبشّر نحن ويكسب الآخرين كوننا أصحاب تراث!! أصحاب طقس قديم جداً!! لدينا صلوات بلغة لا يفهمها السواد الأعظم من الشمامسة ولا أقول المؤمنين!! حرام على الكهنة والأساقفة ترجمتها!! المسيح تكلّم بلغتنا وكان يقول لرفاقه عند رؤيتهم “شلاما إلوخون” ويودعهم بـ “بشينا وبشلاما”!!

وأتمنى أن لا يفسّر مقالي هذا بأنني ضد اللغة كوني لا أعرفها أو لأي سبب يختًرع من قبل المتصيدين، لأن في ذلك تجنّي بحقّي، ولكني على الأقل أفهم الغاية التي من أجلها تأسست الكنيسة وهي التبشير بالقائم من بين الأموات وليس التمسّك بتراث بسببه نبتعد عن الهدف. وشخصياً أعتبر بأن الحياة مع المسيح والتبشير بإسمه أهم بكثير من التمسك بلغة يعرفها قلة قليلة، ومن يعرف اللغة ويحفظ القداس عن ظهر قلب ليس أفضل من شخص يفهم رسالة المسيح ويفضّل أن يكون قداسه مترجم للغة التي يعرفها ويفهمها.

مهم جداً أن نتمسّك بصلواتنا القديمة، لكن الأهم أن نعصرنها ونأنونها ونجددها حتى وإن إبتعدنا عن الأصل فهذا غير مهم بقدر أهمية أن يشترك المؤمنون بطقوس يفهموها بلغتهم وتعابيرهم.

في حدث العنصرة يقول العهد الجديد بأن ألسنة من نار إخترقت الرسل في العلّية، وخرجوا يتكلمون بالألسنة، وكل شخص يلتقون به يكلمونه بلغته، وفي قول لبولس يقول من له موهبة النبوءة فيجب أن يكون معه من يمتلك موهبة الترجمة، وهذا كان رد على من يدعي التكلّم بلغة غير مفهومة بحجة أن قوة الروح القدس جعلته يتكلّم بها.

نحن أيضاً، هل يمكننا أن نبشّر الآخرين بلغة غير مفهومة مدّعين بأنها لغة المسيح؟

نظّم القداس في وقت كان الناس يقولون “أوون د وَشميا نثقدّش” وبعد قرون لم يعد أحد يستعمل تلك الكلمات وإستعاضوا عنها بـ “بابَن ديلي بشميّا” وهؤلاء نسوا لغتهم الأصلية، وأنا وغيري كذلك، نسينا لغتنا الأصلية والفرعية ونقول “أبانا الذي في السموات” فهل سنصبح هراطقة؟

حسناً فعل غبطة أبينا الـﭙاطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو عندما وجه نداءاً إلى كل الفنانين والشعراء والموسيقيين للقيام بكتابة وتلحين أبيات باللغة المحكية (والتي يسميها السورث) ببلاغة وإبداع… ومن ثم أكمل قائلاً “هناك قابليات خلّاقة وإمكانيات بديعة نودّ الإستفادة منها لتطوير طقوسنا”.

هكذا يكون التطوير، بلغة حيّة وتعابير مفهومة، وإلا فلن يكون هناك تجدد في كنيستنا وتبقى متبرقعة أمام المؤمنين قبل غيرهم من الذين ينشدون “لا خو مارا د خلّا مودينَن” ولا يفهموا ما تعني تلك الكلمات!!!!

وأطلب من غبطته وبتوسّل، أن يعمل على تجديد ليتورجيتنا وترجمتها بعد التجدد مباشرةً لكل لغات العالم التي فيها كنائس كلدانية، كي نكون بحق كنيسة مبشّرة وليست جامدة يهجرها أبناؤها يوماً بعد يوم.

وقبل أن أنهي أرغب بتوجيه نقدي إلى كنيستي التي شاركت في قداسها ثاني يوم الفصح المجيد أيضاً، وأشكر الله بأنه لم يكن فيها غير مؤمنيها من الرعية، وأعتقد بأن منهم من سيقسم على عدم الحضور مجدداً طالما وجد فيها نفس الشمامسة الذين لو شكّلتُ فريقاً من خمسة متبرعين من الصومال وأرتيريا والموزمبيق وجنوب السودان وموريتانيا، وقمت بتدريبهم لمدة أسبوع واحد فقط لا غير على الألحان الطقسية، لكان أداؤهم أفضل من شمامستنا بأضعاف مضاعفة!! بينما لو تدربوا شمامستنا شهراً كاملاً سينشزون في ترتيلة!!

ياعذرا حبيني صوتكي الحلو سمعيني

لبسيني ثوب الطاعة كل وقت وكل ساعة

أطلب منك الشفاعة ساعة موتي عيني

ومن دواعي سروري أن أدخل في كنيستي يوماً وأرى مكانهم من يستحق أن يكون في هذا المكان… ألا يقول المثل الرجل المناسب في المكان المناسب؟

ويا ليت واحداً منهم فقط يعاتبني على نقدي هذا كي يكون لي مقالاً مطولاً عن مأساة كنيسة العائلة المقدسة في وندزور- كندا بشمامستها بإستثناء إثنين أو ثلاثة منهم ….ويرجع البعض من الكتاب ويقولون لغتنا وطقوسنا!!

وأرجع وأقول التجدد والتجدد ثم التجدد وترجمة القداس بكل لغة دولة فيها كنيسة كلدانية، ويا ليتنا نرى تجدداً في قانون رسامة الشمامسة ويكون أكثر صرامة، لأنه وللأسف الشديد لا يوجد مقياس صحيح بإختيارهم غير رغبة الكهنة والأساقفة بتسجيل عدد يتفاخروا بكبره فقط! وليس بنوعية المرسومين!!

زيد غازي ميشو

zaidmisho@gmail.com

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *