صفحة مشرقة من تاريخ الكلدان

يتناول مقالي لهذا اليوم فقرات محددة من الفصل الثالث عشر لكتاب المؤرخة دروسيلا دنجي هيوستن (1876-1941) تحت عنوان “بلاد الكلدان”. ما دفعني للكتابة نصيحة يسديها أحد المفكرين، يقول فيها: “من لا يقرأ التأريخ يظل صغيرا”، وأنا أزيد عليه فأقول: من يقرأ التأريخ بتبصر وروية يصبح كبيرا، ومن لا تأريخ له فهو قطعا يعيش على فتات تأريخ الآخرين وهامشه، وتلك مذلـّة ما بعدها مذلـّة. سأبدأ بقول منسوب للمؤرخ والآثاري المعروف جورج رولنسون، الذي يقتبس من كتابه الشهير”سبع ممالك شرقية عظيمة في العالم القديم” بعض المتعصبين من كتـّابنا ويشجعوني لقرائته، وهذا ما وجدت على أمل الكشف عن المزيد من الشواهد في أصل الكتاب. تقول المؤلفة نقلا عن رولنسون: “كان الشعب الكلداني يتمتع بمخيلة خصبة وعبقريه لا يمكن نكرانها، فهم أناس مبدعون رغم افتقارهم إلى موارد طبيعية، مما جعلهم يتبؤون مركز الصدارة في سلم الرقي بين الأمم، خاصة بين معظم تلك التي يقال عنها أنها تنحدر من أصل حامي”. وتربط المؤلفة هذا الاقتباس بقول شهير لأرسطو، مفاده أن لصاحب براءة الاختراع الفضل في أكثر من نصف الكل. وبناء على هذه المقولة، يكمل رولنسون حديثه فيقول: “إن الشعب الذي وضع حجر الأساس للقانون والفن والعلم يستحق أكثر من النصف الممتلىء لأنه هو الذي أوجد ونحن نبشر بما أوجده”. شكرا يا سيد رولنسون على هذا الوصف الجميل.ماذا أوجد الكلدان حتى يستحق هذا الوصف؟

هنالك إجماع لا ينكره أحد بأن البابليين وجدوا في الكواكب آلهة لتـُعبد، غير أنهم ومنذ قديم الزمان نسبوها مجتمعة إلى الإله الواحد في تعاليمهم كما تخبرنا نقوشهم المحفوظة في المتحف البريطاني، وإن طالها التلف. ولم يدخل السحر والشعوذة والاعتقاد بالأرواح الشريرة حياتهم إلا بعد اختلاطهم بالأقوام الوافدة إلى بلادهم. وقد غزت ثقافة الخرافات تدريجيا كل بقاع الأرض حتى العصور الوسطى الميلادية. ونجم عن هذه الطقوس قراءة الطالع بالإشارة إلى الكواكب في كل مكان، ولم تسلم منه أمة، لأنه أضحى ممارسة شعبية رائجة. لقد سعى الكلدان، كا أوردت في مقال سابق، إلى ربط مصير الإنسان ومستقبله بحركة النجوم والمذنـّبات والكواكب والخسوف والكسوف، ثم انتقلت إلى اليونان وروما بعدئذ. كان يفتقر تنجيم الكلدان الأوائل إلى مقومات علم الفلك التي توفرت في العصور المتأخرة، فأنتقلت بذلك مرحلة التنجيم البدائي إلى مرحلة متقدمة مبنية على أسس علمية رصينة. وبهذا الصدد، يروي لنا (ديودورس سيخولوس) عن الكلدان بأنهم كانوا يعزون حركة المذنـّبات إلى أسباب طبيعية وكان بمقدورهم التنبؤ بأوقات حدوثها. ويضيف (سينيكا) بأن النظرية الكلدانية في أمر المذنـّبات لم تكن بأقل دقة وبراعة مما جاء به المحدثون من بعدهم. كما يذهب الألماني (إدلر) إلى القول، وكما يقتبسه الفيلسوف (بطليموس)، بأن الحسابات الكلدانية القديمة المتعلقة بخسوف القمر لا تختلف عن حسابات اليوم إلا في دقة التفاصيل، مما يجعلنا نستنتج بأنه كان هنالك مراصد فلكية منتشرة في المدن الرئيسية للبلاد، إذ كان على فلكيي البلاط الملكي تزويد جلالته بتقارير منتظمة عما توصلوا إليه. وما زال المتحف البريطاني يحتفظ بأجزاء من خارطة ترينا بوضوح نصف الكرة السماوية، حيث تظهر السماء أثناء الاعتدال الربيعي (للفترة ما بين 21 آذار/مارس – 23 أيلول/سبتمبر). والشاهد العيان على تقنية الكلدان في الفلك هو الإسكندر المقدوني الذي احتل بابل سنة 331 ق. م. ونـُقل عنه قوله بأن عمر الفلك لدى الكلدان يقدر بـ (1903) سنة دون انقطاع، أي اعتبارا من سنة 2234 ق. م. ومن هذه الجهود الجبارة تمكنا في زماننا هذا من الحصول على علم  ندعوه اليوم بـ “علم الفلك” الحديث. ولا يراودنا شك في أن الكلدان تمكنوا من صناعة التلسكوب. ودليلنا في هذا، هو عثور المؤرخ المعروف (لايارد) على عدسات مكبـّرة خلال حفرياته في آثار بابل.

المصدر:

Houston, Drusilla Dunjee (2008 [1926]). Wonderful Ethiopians of the Ancient Cushite Empire. London: Hogarth Blake Ltd.

الأردن في 6/9/2010

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *