شيرا دربان هرمز في القوش بين حمير الأمس وسيارت اليوم

مقدمة

المرحوم حبيب تومي وحبه اللامتناه لبلدته الحبيبة القوش  جعلته يكتب مقالات عدة عنها , وبما اننا قريبا سنستقبل شيرا ربان مار هرمز شفيع القوش لذلك ارتأينا ان نعيد نشر هذه المقالة الجميلة حول شيرا الربان هرمز ومقارنته بين الامس والحاضر . سلاما لروحك الحاضرة معنا دوما بمقالاتك وكتاباتك الجميلة القيمة الممتعة التي ستبقى كنزا لاجيال كثيرة قادمة .

المقالة  
ما هو الفرق بين الحمار والسيارة الحديثة ؟ هذا هو الفرق بين شيرا دربان هرمز في الماضي والحاضر وعلى مدى ذكرياتنا عبر المسافة الزمنية البالغة نصف قرن ونيف من السنين ، اي في اواسط الخمسينات من القرن الماضي إنه الزمن الجميل هذا هو التوصيف الذي اسبغه على تلك السنين ، وهل افلح في إعطاء صورة تطابق ذلك العصر ؟ هذا ما احاول نقله للقارئ الكريم عبر هذه السطور ،فالذكريات تتدفق وتفرض حضورها في الحاضر لتدق اجراساً بأن القوش لم تتغير فهي شامخة وراسخة في الأرض كما جبلها وديرها العتيد ، وإن الذي تغير فيها هو الوسائل المتوفرة عبر التطور في الزمكانية ، فالشيرا نفسه هو هو ، لكن القدوم الى الدير في ذلك الزمن كان بمساعدة الحمير واليوم هو بواسطة السيارة ناهيك عن الأدوات والوسائل الأخرى التي تطورت وتغيرت .
في الزمن الجميل يشترك الفقراء والأغنياء بالسير مشياً على الأقدام الى الدير ، مع حمل الأكل والشرب والأمتعة الضرورية للسفرة على الأكتاف ، والميسورين لهم حمير ينقلون على ظهورها بضائعهم من متطلبات السفرة ، كان الطريق مع سفح الجبل وقبل الألتفاف والولوج في وهدة الدير ولي كما هو حالياً بالذهاب الى دير السيدة ثم الأستادرة نحو الشمال ، لقد اختاروا قديماً اقصر الطرق بمحاذاة سفح لجبل ، فكانت ساحة او ميدان الشمامسة المعروف بالكلدانية ( جًري دشماشي: Churra D Shamashi) المشرف على وادي المهود ( دركوشياثا : Dargoshyatha) وهو مكان مناسب لألتقاط الأنفاس والأستراحة قليلاً للاستمرار في قطع الطريق الوعر نحو الدير .
من مدخل الكلي تبدأ العوائل بفرش البسط والأفرشة ثم تتوزع في منعطفات وكهوف الدير ويرتكز معظمهم قرب ( الكافا سموقا ) والجهة الشرقية اليمنى لوهدة الدير ، وفي مدخل الكلي كان ( صهريج صغير يعرف محلياً بـ ( سارجتا : Sarechta ) تستقطب عددا مهماً من العوائل لتوفر الماء العذب في هذا الصهريج الصغير نسبياً .
من المناطق المهمة في الطريق الى الدير وفي وسط الكلي تقريباً هنالك الكهف الأحمر ( كافا سموقا ) ، حيث يفترش اصحاب البنادق وينصبون الهدف ( عَمَنج : نيشان ) في الجانب المقابل من الوادي ، حيث يثبت احدهم قطعة حجر مسطحة او قنينة فارغة على صخرة ويبدأ حاملي البنادق بالرمي على الهدف ، وإمعاناً في التحدي يقوم احدهم بتثبيت سيكارة في فوهة القنينة ، والشرط يكون بالتصويب نحو السيكارة دون ان تنكسر القنينة الزجاجية فياسفلها .
الجدير بالملاحظة ان حمل البندقية يعتبر من اسباب الوجاهة والهيبة ، وهناك انواع من البنادق ( تَفكتا جمعها تفنكي : Tafengi ) وهناك انواع منها ( سيتيرا ) و ( انكليزية ) و ( جاردا خور ) و ( كجكجابي : Kichkchapi) و ( برنو) التي تعتبرافضلها وغيرها ، اليوم اختفت هذه الظاهرة ، لم يعد حمل السلاح مسموحاً به ، ولم يعد امتلاك البندقية من مظاهر الوجاهة .
بالأمس كان الألاقشة ينتشرون في انحاء الكلي ويستظلون بظلال الأشجار الوارفة ، اليوم اختفت تلك الأشجار ، وتلجأ كل عائلة الى نصب خيمة ولا يسمح بنصب الخيام داخل الكلي ، بل ينصبون خيامهم في السهل الممتد بين دير السيدة وفتحة الكلي ، ومن الفروقات ايضاً ، ان الجلوس سابقاً يكون على الحشيش مباشرة ، واليوم اصبحت الكراسي من الضروريات للسفرة .
في مطاوي الخمسينات لا تزيد السيارات القادمة من تلكيف وتلسقف وباطنايا لا تزيد على عدد اصابع اليد الواحدة ، وهي عبارة عن باصات خشبية ( باس : Pas ) اليوم لم يعد مهرجان الشيرة يستوعب الكم الهائل من السيارات القادمة من تلك المدن الكلدانية وألقوش ، فاضطر القائمون على هذه المناسبة على تخصيص يومين لأقامة المهرجان ، يوم لغير الألاقشة ( نخرايي) ويوم آخر لأهل الفوش . نعم انه فرق شاسع بين ما كان عليه الناس وما هم عليه اليوم ، ومن هذه الفروقات السيارات الحديثة التي يسوقها اولاد اليوم ، إنها تدل الى الرخاء والرفاهية .
ما يمكن وضعه في باب المقارنة ، ان الدير يفتقر اليوم الى ساكنيه الأصلين من الرهبان والقسس بل من المطارنة والبطاركة ، ففي احصائية اوردها في كتابي حول القوش : ان الرهبنة الهرمزية الكلدانية انجبت منذ تجديدها عام 1808 وحتى عام 1977 ( 354 ) راهباً منهم تخرج 143 كاهناً و19 مطراناً وبطريركاً واحداً هو البطريرك يوسف اودو . اليوم لم يعد في الدير سوى افراد الشرطة الذين مهمتهم تقتصر على حراسة الدير ومعالمه التاريخية .
الدير والتحديث
الطبيعة كانت تكتسي معالم الدير ، وكان في وضعه هذا يحمل في طياته سمات الهيبة والرهبة وعبق التاريخ ، فالهدوء والسكينة والصمت المطبق لا يعكر صفوها سوى زقزقة العصافير ورقصهم ومرحهم وهبوب النسيم العليل وحفيف الأشجار ، ومن المناطق الأثرية كانت في صدر الكلي اثر لنضوح ماء عذب نطلق عليه عين القديس( اينا دقيشا ) ، ويرجح ان يكون هذا المصدر للماء هو الذي اغرى الربان هرمز لاختيار هذا المكان للاستقرار والصوم والصلاة والتعبد والأعتكاف بعيداً عن البشر ، وكان في تلك الفترة ( اواسط الخمسينات ) يتوسط المكان جرن ( كارنا : Garna ) حجري كبير ، وكان المكان مظلماً ينبغي التريث والتوقف قليلاً لكي تستطيع العين تمييز معالم المكان ، وهذه الحالة تنطبق الى حد كبير ممرات المغارة الكبيرة المعروفة بـ ( بخشوكي ) اي بيت الظلام او المظلم ، وكان الولوج الى هذا الموضع يتم عن طريق الأضاءة بالشموع فالذي يسير في المقدمة يحمل بيدة شمعة لإضاءة الممر الذي يتطلب خفض الرأس والأنحناء قليلاً . وهناك مقبرة البطاركة وهيكل الكنيسة القديمة والرواق الواسع تحت ساحة الكنيسة الأمامية ، وثمة الى الشرق من بناية الدير كهف البارود ( كوبا دباروت : Guppa d Baroot) حيث ينضح من بين الصخور مياه معدنية صالحة لبعص الأمراض الجلدية ، هذا وهناك الكثير من المغارات والكهوف والمعالم التاريخية في هذا الدير العتيد .
اليوم تمتد الى الدير شبكة المياه لتزود الدير بكمية المياه المطلوبة وبذلك تنتفي الحاجة الى الصهاريج المتعددة المنتشرة في زوايا الدير ، كما ان الدير مزود بالطاقة الكهربائية المطلوبة ، وهنا ينبغي الإشارة الى ما فعلته الكهرباء بهذا الدير ، فبالرغم من اهمية الطاقة الكهربائية للحياة المعاصرة ، لكن انتشار الإضاءة في ثنايا وزوايا الكهوف ، قد افقد تلك الأماكن هيبتها وعبقها التاريخي ، اليوم اصبحت ( بخشوكي ) اي بين الظلام او المظلم اصبح البيت المضاء ، وعين القديس اصبح مضاءً وواضحاً غاب جرن الماء في الوسط ، وأصبح عبارة عن مغارة رطبة فيها قليل من الماء مسكوب على ارضها ، انا ارى ان الكهرباء او طريقة اضاءتها قد افقدها منظرها المهيب وربما كان من الأفضل تزويدها بمصابيح وإضاءة خافتة مناسبة لكي تلائم المكان الأثري ، وربما هذا ينطبق على الترميمات والصيانة الجارية فينبغي اختيار المواد المناسبة ، فليس من اللائق تزويقها بالسيراميك والمواد المستخدمة في ديكورات المطاعم وقاعات الأحتفال ، إنها اماكن اثرية تاريخية ينبغي حين إجراء اعمال الترميمات والصيانة مراعاة هذه السمة للحفاظ على طرازها الأثري .
مقتطفات من كتابي القوش دراسة انثروبولوجية .. حول دير الربان هرمزد
حينما يصل القادم الى القوش الى قرية شرفية تتراءى امامه الى الشرق من القوش وهدة عميقة يرتفع من صدرها بناية الدير والكنيسة ويخيل للقادم ان نسراً عملاقاً يفرش جناحيه متأهباً للانطلاق والتحليق في السماء العالية ، هكذا يتراءى الدير للقادم من بعيد وكلما دنونا منه برزت معالمه وتوضحت تفاصيله .
وإن كان الطريق الى الدير سهلاً ومعبداً الى مكان قريب من بناية الدير ، ففي السابق لم يكن كذلك فيكتب في اواخر القرن التاسع عشر السير وليس بدج حينما زار الدير يقول :
قام الرهبان بشق طريق في الصخر في بعض الأمكنة ، كما عبد الطريق هذا في بعض اقسامه بالحصباء ، وأخذنا نرقي منحدراً ولحسن الحظ كان قصيراً ، فبلغنا المنصة التي التي يقوم عليها الدير شامخاً باذخاً متجبراً ، وبتحري الدقة فإن بنايته لا تشبه بناية دير من النوع المألوف .
في تاريخ الدير نقرأ ان الربان هرمز قدم الى هذه الأصقاع حوالي سنة 640 ميلادية برفقة الربان ابراهيم الذي بقي في موضع قريب من باطنايا ليؤسس دير مار اوراها المعروف ، ولجأ الربان هرمز الى وهدة في جبل القوش بالقرب من ينبوع صغير للماء ، أرجح ان يكون المقصود (اينا دقديشا ) عين القديس الذي مر ذكره قبل قليل . وتوفي الربان هرمز في ديره وعمره 87 سنة قضى منها 20 سنة في البيت وفي الدراسة و39 سنة في دير الربان برعيثا و6 سنوات في دير الرأس و22 سنة ديره .
ومن المفيد ان نختم هذا المقال بمقاطع من المقام الذي كتبه المرحوم الأب يوحنا جولاغ يقول :
هذا الشموخ من واديك صوب العلى
آية ملؤها بهاء وجمال
وهذه الأطياف الجاثمة فوق آثارها
بطولات وعبر تخلدها الأجيال
لكن الطود الصامد باق مهما نطح به الغزال ..
….
يا دير يامثوى السكينة تشفها شوقاًالى الذرى تسابيح وأقوال
القلب فيك طائر ولهان وأعقل خواطره موجات طوال
صخورك الصماء خاشعة ناطقة بخير ما قاله الحكماء والعقال .
القوش في 12 ـ 05 ـ 2014
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
<1> ـ سارجتا تصغير سارج ( صهريج ) وهو عبارة عن حفرة في الأرض الصخرية لخزن مياه المطر ، ويصار الى جمع هذه المياه عبر قنوات صغيرة ينزل عبرها الماء من قمة الجبل ومنحدراته ليستقر في الصهريج ، الذي يمتاز بفتحته الصغيرة في الألى وتتوسع القاعدة كلما نزلنا الى باطن الأرض .
الجدير بالملاحظة ان راهب الدير كان ينذر على نفسه نقر قلاية لسكنه ولأعتكافه فيها والى جوارها ينقر في الأرض صهريج يجمع فيه الماء ، وإن نماذج لهذه القلايات والصهاريج محفورةفي الجزء الغربي من الدير .
كلابناء اليوم ونعيش احداثه ، الأمس الجميل كان جميلاً لي ولأقراني ، وحين المقارنة بين الأمس واليوم سنلاحظ هوة كبيرة تفصل اليوم عن الماضي ، نحن المخضرمون هل يمكن ان نعكس صورة للأمس ، لكن ما هي قدرتنا على تجسيد الماضي
<2> ـ كتابي الموسوم القوش دراسة انثروبولوجية اجتمعية ثقافية ص200 ـ 205 

بقلم : د. حبيب تومي ـ القوش

2014 / 5 / 11

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *