سـرهـد جـمّـو : أنا لستُ مبادراً أو قائـداً لمؤتمركم

في مقـدمة بديهـية اقـول: إن أبناء أيّ قـوم تـقع عـليهم مسؤولية الدفاع عـن

حـقـوقهم، إنْ كان بالتـفاوض أو بالتحالف، أو بعـقـد إتـفاقـيات أو

بالمساهـمة في إقامة منشآت، أو باللجـوء إلى المؤسّـسات ذات الطابع

الحـقـوقي والقانونيات، واليوم نـحـن الكـلدان لا نريد حـرباً ولا بنادق ولا

أرتالاً مسلحة ولا ميليشيات، فـقـد ولـّى زمن العـنـتريات، وها إنـنا نرى

الشعـوب قـد تـخـلـّـتْ عـن الإجـتماعات السرية والمؤامرات، وتوزيع

الأسلحة والأدوار للقـيام بالإنـقـلابات، وتركـَـتْ سُـبل الغـدر والتخـطيط

للإغـتيالات، فـقد نضج وعـيها وأدركـتْ إنسانيتها حـتى صارت تـنـزل إلى

الشارع سلمياً وعـلناً مُـطالبة بحـقـوقها والحـريات. وهـنا لا بـدّ أن ينبري

من بـين القـوم، قادة وروّاد وكـُـتــّاب وشعـراء وفـنانون يتـحـسّـسون أنين

شـعـوبهم ويشعـرون بمظالم أبنائهم فـيتـزعـمونهم ويقـودون أرتالهم

المسالمة وهم في مقـدمة مواكـبهم للمطالبة وإنـتـزاع تلكَ، حـقـوقهم. وهـنا

نـرى أنـفـسنا عـلى طـرَفــَي معادلة رياضية: القائـد والشعـب، تـتـوازن حـين

تـتـساوى هـمّة الزعـيم وإخـلاصه وإقـدامِه وتـضحـيته! من طرف، أما

الطرف الآخـر – الشعـب – عـليه أن (لا يتبع) بل يتابع قائده ويسانـده

ويحـميه ويثـق به كي يأتي بأثماره.

كـتبتُ هـذه المقـدمة ومؤتمر النهـضة الكـلـدانية المزمع عـلى الإنعـقاد،

وقـبل أن يـبدأ أعـماله بدقائق والجـميع جالسين، دخل سيادة المطران

سـرهـد جـمّـو ووقـف عـند باب القاعة في إشارة منه إلى أنّ له مَـهَـمّة

أخـرى وسيغادر، حـيا المؤتمرين ورحـب بهم ووجّه إليهم كلاماً بسيطاً

وقـصيراً قائلاً: أنا لستُ مبادراً وقائداً لمؤتمركم، أنا مسانـدٌ وداعـمٌ له. ومن

الطبـيعي لسيادته كـرجـل كـلـداني أن يكـون له آراؤه السـديدة، ومداخلاته

اللاحـقة المفـيدة بشأن المؤتمر وأهـدافه الحـميدة، إنه بالإضافة إلى عـمله

الدؤوب ليلاً ونهاراً كـكـلداني من أجـل إستـحـصال أيّ مُـنـجَـز للكـلدان، إلاّ

أنّ دعـمه المشـكـور كان ملفـتاً للنـظر بمؤازرة الأسقـف الوقـور مار باوي

سـورو وحـضرة الأب نوئيل وبقـية الآباء الأفاضل مع المِلاك العامل في

الكـنيسة والجالية الكـلدانية قاطبة في سان ديـيـﮔـو، وحـبذا لو أنّ جـميع

قادتـنا، أساقـفة وكهنة وعـلمانيّـين تكـون لهم مثل هـذه الهـمة والحـماس،

رغم الظروف الخاصة المحـيطة بالبعـض منهم. نعـم إن الأيام شِـرّيرة، إلاّ

أنّ تلك الظروف لا تمنعهم من أن يكـونوا ودعاء كالحـمام وحـكماء

كالحـيات، فالمسيح لم يُـعـطِ عـلى نـفـسه مستمسكاً كي يُـدان به، ولكـنه

صُـلِـبَ! لماذا؟ لكي تـكـون الحـياة بالقـيامة، التي لولاها لـَـما كان عـندنا

اليوم عـروشٌ حـمراء اللون لأساقـفـتـنا أصحاب السيادة ولـﭙـطاركـتـنا

أصحاب الغـبطة، ولخـلفاء مار ﭙـطرس الأحـبار ﭙاﭙـَـواتِـنا المعـظـَّمين.

ذكـرتُ هـذه المقـدمة والعـد التـنازلي لساعة توقـيت المؤتمر ما بَرِح في

أرقامه قـبل الصفـر مقـتـرباً من بـدء إنطلاقة فـعالياته، وعـليه فمقالي هـذا لا

يـزال قــُـبَـيل بـدء أعـمال المؤتمر .

ليس صعـباً عـلى دولة ما أن تعـقـد مؤتمراً بفـضل إمكاناتها المادية

والبشرية، ولكـن الكـلدان لا يملكـون ميـزانية دولة، وهُـم ينـتـشرون في

أقـطار متـعـدّدة في العالم اليوم لكـنهم لا يمـثــِّـلون دولة، بل أنّ العـراق

وطنهم الأصلي وليسوا فـيه دولة، وليس في مخـيلتهم يوماً أن يُـقِـيموا

حـواجـز كـونكـريتية حـول العـراق ويعـتبرونه لهم دولة، كما وليس لهم

مسانـدين في وطـنهم الأصلي هـذا الذي هـو دولة، بل بالعـكس فإن هـناك

مِن المتـربّـصين بهم، مَن يـريد تهـميشهم وإقـصاءهم وتـذويـب إسمهم

العـضوي الحي، في قاطـرة حامضية خانـقة دون معادلته بمحاليل قاعـدية

رائقة تــُـنـعِـشهم وتــُـبْـرِز ملوحـتهم، ولهـذا فإن الترتيبات المرئية اليوم في

الوطن الأم، تـوحي بوجـود مخـطـط لإلغاء مُـلوحَـتِهم، ثم تلاشيهم وضياع

وجـودهم بـين شـرائح الشعـب العـراقي في العـراق الدولة، وبسبـب أولئك لم

تــُـتــَـح لهم فـرصة، لا بل حُـرِمـوا من ممارسة نشاطاتهم القـومية بـِحـُـرّية

كي لا يـبـرز لهم وجـودُ في عـراقهم رغم أنها لا تـمسُّ كـرامة الدولة،

فـحـين فـكـَّـروا بعـقـد مؤتمرهم هـذا، كان لابـدّ أن يـبحـثـوا عـن مكان خارج

وطـنهم بـيث نهرين الدولة.

إن عـقـد المؤتمر خارج الوطن ليس بالأمر السهل عـلى العـلمانيّـين القائمين

به، من حـيث تهـيئة مستـلزماته، تـوجـيه الدعـوات إلى المؤهـَّـلين في

مخـتلف بلدان العالم لحـضوره، وإستلام إجاباتهم، تهـيئة إقاماتهم

وضيافـتهم، إستـقـبالهم وتوديعـهم من وإلى المطار والفـندق، وسائـط

النـقـل من وإلى محـل الإقامة ومكان إنعـقاد المؤتمر وطيلة أيامه، تهـيئة

وسائل الإعـلام المغـطية والناقلة لفعالياته، ودعـوة المسؤولين الحـكـوميّـين

في البلد لحـضوره، وأمور آخـرى كـثيرة قـد لا تـخـطر بالبال الآن، أقـول إن

كـل ذلك يتـطلب جـهـوداً شخـصية إستـثـنائية وإمكانيات مادية لا يُـستـهان

بها، لـذلك كان لا بـدّ من مؤسسة كـبـيرة سانـدة تــُـسَـخـِّـر إمكانياتها من

حـيث بنيتها التحـتية وتـكـنولوجـيتها المتوفـرة لديها والتي لا تـتـوفـر لنا

بسخاء عـند أية مؤسسة مقـرّبة إلينا حالياً إلاّ الكـنيسة (هـذا شاهـدناه

بأعـينـنا) ولماذا لا! أليست الكـنيسة أم المؤمنين تبسط جـناحـيها فـتجـمع

أولادها للصلاة ؟ فـما المانع أن تـكـون كـذلك في بقـية النـشاطات المكـرّسة

للحـياة؟ ورغـم أنّ أحـداً لم يحـكِ لنا شيئاً عـن الميزانية المرصودة للمؤتمر

ولكـنـنا نستـنتج منطقـياً أنّ هـناك مؤسّـسات أو أفـراداً مُـتمكـِّـنون وقادرون

في سان ديـيـﮔـو، بـذلوا بسخاء لعـقـد وإنجاح المؤتمر إكـراماً للمؤتمرين

وتمجـيداً للقـومية الكـلدانية.

إن مشاركة رجال الدين الأفاضل في أي نشاط عـلماني، يعـطي دائماً زخـماً

منـظـوراً وقـوة دافعة بارزة في نشاطات مجـتمعـنا الكـلداني مما يرفع من

شأن الكـنيسة في عـيون منـتـسبـيها وتـترك إنـطباعاً لديهم بأن الآباء

الموقـرين ليسوا معـزولين عـنهم، مثـلما الطفل الذي يرتمي غـريزياً بـين

أحـضان أمِّه، ولكـنها إذا تـثاقـلتْ منه وتـكـبَّرتْ عـليه، فـما الذي سيفعـله

…… ؟ وهـكذا وبالطريقة نـفـسها يرتـفع شأن المؤمنين في نـظر

الإكـليروس حـينما يواظـبون عـلى الحـضور إلى الكـنيسة بصورة منـتـظمة

ومستمرة، وإذا لم تـتجاذب عـيون المحـبٍّـين نحـو بعـضهما فإنها تـتجه إلى

الجـوانب! لذلك حـين جاء الرب يسوع إلى خاصّـته وخاصّـته لم تقـبله، لم

يـبقَ ساكـتاً ساكـناً، بل قال: (( إنّ الله قادر أن يُـقـيم من هـذه الحـجارة

أبناءاً لإبراهـيم … )) فأمسَـتْ الأمم هي البديلة عـن شعـب الله المخـتار.

وبالإخـتـصار نـقـول: إن مؤتمر النهضة الكـلدانية كان مِن نهضة الكـلدان،

مِن نبض فـؤاد الكـلدان وعـلى الله التـكلان، فـلماذا إزدادت دقات قـلب

الإخـوان، وصاروا ينـضحـون مرارة الزيوان بدلاً من عـطر شـقائق

النعـمان؟ .

رائـدا الوحـدة الكـنسية والقـومية( 9 )

كـثيرون هم القادة الذين ينادون بالوحـدة بـين أبناء شعـبنا سياسيّـون كانوا

أم كـنسـيِّـون أو عامة الناس، وكل جـماعة تـريد قـميص الوحـدة ملوناً

ومُـفـصَّـلاً عـلى مقاسات أعـضائها الضيقة كي تـظهرَ تمـوّجات عـضلاتهم

ومفاتن أطرافهم ورشاقة قامتهم ونحافة خـصرهم لوحـدهم، وكل فـريق

(ليس يأمل، بل) يريد أن يفـوز لوحـده بالجائـزة الأولى لجـمال جـسمهم،

دون أن يكـونَ إنجازاً لفـريق عـمل جـماعي مثـلما كان تلاميذ المسيح

يجـتمعـون كإخـوة فـيما بـينهم .

والأغـرب من كل ذلك نرى الرؤساء الروحانيِّـين من جـميع المذاهـب،

الشرقي والغـربي، الشمالي والجـنوبي، بـين فـتـرة وأخـرى يلتـقـون سوية

في رياضة تـرانيمية وتأمّلات روحـية، وكلهم يغـفـرون خـطايا بعـضهم

للبعـض الآخـر في الصلاة الربّانية، من أجـل الوحـدة المسيحـية، ويـبتهلون

الباري من أجـل الحـصول عـلى مفاتيحـها الروحـية، وكأنها مخـبأة في عـلبة

فـولاذية، لا يفـقه مكانها إلاّ مالك العـصا السحـرية، ولا تــُـفـتح إلاّ بقـدرة

إلهية، لكـنهم في داخـلهم يـرفـضونها بالجـملة التـفـصيلية، في الوقـت الذي

هم أصحاب القـضية، لماذا؟ لأن لكل واحـد منهم كـلمة مروره السـرية! ليس

بإمكانه الدخـول إلى كـومـﭙـيوتـر الآخـر لقـراءة برامجه الداخـلية، فـنراهم

يُصَلـّـون أمامنا بقـلوب خاشعة وعـيون دامعة وصلبان لامعة، وفي عـيونـنا

يتراءى لنا يسوع وأمُّه والقـديسون بتماثيلهم الرائعة، واقـفـون بجـوارهم

يشاركـونهم بـبركاتهم الشافعة، قائلين لهم: طالما إلتـقـيتم بنيّة صادقة

خاشعة ومن القـلب نابعة، طـيـب فـلماذا لا تجعـلون وحـدتـكم واقعة؟

وحـقـيقة الأمر ليست هـذه ولا تلك القارعة، بل الحـقـيقة هي: مَن منهم له

الشجاعة ويجـرأ عـلى غـسلِ أقـدام الآخـرين !!! وهـنا الفاجعة ؟ .

أما سياسيّـينا (ولا أعَـمِّـم حـتى لا يزعـل عـليّ البعـض) فـحـدّث ولا حـرج،

تـرى عـلى منضدتهم العـريضة، أوراقاً مملوءة بتعـليمات الفـريضة، إنهم

يُـفـسِـدون كل شيء، عـفـواً! بل إنّ الكـراسي الدوّارة تدور بالإتجاهَـين

فـتــُـدَوّخهم وتـفـسِـدهم ، والأموال المقـطوفة من شـجـرة السياسة

تــُـعَـفِـنهم، ويَحـمون بالكـونكـريت المسلح أنانيَّـتهم وأوحَـدِيَّـتهم، فإذا

جَـرّدتـَهم من بخـشيشِهم ومنصبهم ومنضدتهم، فإنهم سوف لن يعـرفـوا

الأمة ولا شعـبهم. فالقائد يُـلصِق الكـواكـب الذهـبـية عـلى كـتـفه المجـيد،

ولا يتـنازل عـنها لغـيره حـتى في غـمرة فـشله الأكـيد، والمال هـو هـمّه

وهـدفه الوحـيد، أما المبادىء فـقـد صارت حـبات حـنطة في فـخاخ حـقـول

الصيد، ينادون بها كي يأتي الرفاق ومعهم باقات ورود عـيديّة العـيد،

وآخـرون في أياديهم أكـياس فـيها عُـلب الكـليـﭽـة والـﭽـوكليت، فـيقـعـون

في مصيدة الرفـيق صاحـب دكان الـ (أنا المخــْـلِصُ الفـريد). وبعـد هـذا كله،

هـل إنـقـطع الأمل العـتيد؟ كلا، فـكل صباح جـديد وشعاع شمس مفـيد. إنّ

بصيصاً يمكن أن يولـِّـدَ شعـلة بالتأكـيد، فـفي البارحة عـندما إحـتـرقـتْ

فـحـمة العالِم أديسون وصارت رماداً لم يَـيْأسْ هـذا الـصـنديد، بل واصَـلَ

هـو ومَن جاء بعـده حـتى تـحـوّلتْ اليوم إلى سلك التـنـﮔـستن في المصباح

المتوهّج ويـبعـث ضوءاً للبشرية عـلى المدى البعـيد .

حـين وصولي إلى سان ديـيـﮔـو عـصر يوم 29 آذار ، لاحـظـتُ عـند

إستعلامات الفـندق فـتاة أنيقة ورقـيقة ، سألتها بفـضولية: من أين أنتِ؟

فـقالت : ASSYRIAN فـكـبرتْ في عـيني لسبـب بسيط وهـو أنها لم تـقـل

من البقعة الفلانية بل ذكـرتْ إسم قـوميتها، وبعـد أن تجـوّلنا ورجعـنا بعـد

الساعة الحادية عـشرة ليلاً كان عـند الإستعلامات ذاتها شابٌ بديلاً عـنها،

وسألته السؤال السابق نـفـسه فـقال: CHALDEAN ثم عـلِمنا أنه

ألقـوشي، فإزددتُ غـبطة لسبـبـين، أولاً لأن الوعي القـومي لدى أبناء

شعـبنا في أميركا حيٌّ وناهـضٌ، يذهـبون معاً في سـفـرة كل بعـربته إلى

حـيث يريدون، ولا يركـبون عـربات القـطار الذي يأخـذهم إلى حـيث يريد

هـو، وثانياً لأن الكـلدان والآشوريّـين يعـملان سوية في حـقل واحـد، كـل في

نوبته دون مزاحـمة! وقـلتُ مع نـفسي هـذه أولى إمكانيات الوحـدة، لا بل،

إن بوادر الوحـدة تـظهر هـنا وتبعـث فـينا الأمل .

وفي صباح يوم 30 آذار كـنا في كـنيسة القـديس ﭙـطرس وتوجَّهنا نحـو

قاعة المؤتمر، ولما إقـتربنا من بابها جـذبني منظر رائع، حـيث رمز نينوى

(الثور المجـنح) عـند يمين الباب واقـفاً كحارس شامخ ، أما من الجـهة

اليسرى (فالأسد الكـلداني) رمز بابل، رأسه مرفـوع يربض ويزأر مراقِـباً،

إذن هـنا نينوى وبابل، في قاعة واحـدة ومَن يريد الإقـتداء والإهـتداء، فـليأتِ

إلى هـنا ويتبرّك بها ورأسه مرفـوعاً إلى العلاء، في قاعة الوحـدة الحـقـيقـية

التي هـنـدسَـها الجـليلين مار سرهد جـمو ومار باوي سورو بجَـلاء،

وللحـديث صلة.

You may also like...