رموز تاريخية ستبقى في ذاكرة شعبنا

                        

           في تاريخ بعض الشعوب التي أنعم الله عليها بالإستقرار والتطور والامان برز في

فترات من مسيرتها قادة وطنيون ، سياسيون مخلصون أو رجال دين إصلاحيون حقيقيون

يؤمنون بقضية شعبهم ، ويكرسون سنوات حياتهم ويضحون براحتهم وطموحاتهم الشخصية

من أجل تحقيق أماله وتطلعاته المشروعة ، فيتركون بصماتهم الواضحة على مجريات

الأحداث في زمنهم وعلى الخارطة السياسية لبلدهم ومستقبل أمتهم ، لذلك يخلدهم تاريخ ذلك

البلد ويطرز أسمائهم في قلوب أبنائه بأحرف من الفخر والمحبة والوفاء . وعلى سبيل المثال

لا الحصر ، الشخصية التاريخية الفذة الراحل الأسقف مكاريوس الذي قاد نضال شعبه في

قبرص في أحلك الظروف ووقف بقوة وشجاعة بوجه التحديات المصيرية التي عصفت بتلك

الجزيرة الصغيرة التي تقاذفتها أمواج الصراعات القومية والدينية وأدت إلى تقسيمها في

نهاية المطاف.

 

إن تاريخ شعبنا المسيحي القديم والحديث يزخر بمثل هؤلاء القادة الوطنيون والدينيون الذين

يتوجب علينا تسديد جزءاً يسيراً من الدَين الذي لهم في أعناقنا لمواقفهم القومية ومبادئهم

الإنسانية وتضحياتهم البطولية التي وصلت في كثير من حلقاتها إلى درجة الإستشهاد كمثلث

 الرحمة الشهيد المطران فرج رحوالذي قدّم حياته قرباناً لمواقفه الوطنية الثابتة والأباء رغيد

 كني وبولص إسكندر وأخيراً الشهيدان الأب ثائر والأب وسيم ومن كان معهما من شهداء

الصليب، وما زالت مسيرة الإستشهاد مستمرة  .

 

 ومن هذا المنطلق أجد لزاماً على المؤرخين والكتّاب أن يتناولوا في مقالاتهم ودراساتهم

السيرة الذاتية ومأثر رموز شعبنا من أجل إلقاء الضوء على تضحياتهم ومواقفهم التاريخية

ودورهم المشرف في الدفاع عن أبنائهم في أيام الأزمات وسنوات الشدائد والمحن التي مرت

 بنا ردحاً من الزمن وما زالت ، ثم كشف نوازع وأهداف ومن يقف وراء مجاميع الضباع

البشرية التي ما برحت تنهش بجسدنا المتعب منذ عقود وقرون ، وما زالت تطاردنا ونحن

نهرب نحو الحافات الأخيرة من وطننا .

 

إن الأفكار القومية والتوحيدية التي يجاهر بها سيادة المطران سرهد جمو بجرأته المشهودة

 وثقافته النيرة وتقييمه لما يجري حوله بحكمته المعهودة ، ليست وليدة اليوم كما لم تأتي

من فراغ ، بل من أحاسيس صادقة تسري كالدماء في عروقه ، ونابعة من إيمانه المطلق

بقضيتنا العادلة وقناعتة الأكيدة بضرورة الوقوف إلى جانب شعبنا المضطهد الذي سُلبت

إرادته وصودرت حقوقه المشروعة . إنه يحمل إلى جانب إلتزاماته القومية الجسيمة ، أعباء

رسالته الدينية بطريقة إيمانية ناضجة مستوحاة من دروس وعبر الأحداث التاريخية الماضية

 ومستندة إلى مجمل التحديات المصيرية التي ألقت بظلالها القاتمة على مستقبل هويتنا،

بحيث لا تسمح بشكوك المتربصين بإختراقها ولا بأساليب الناقدين للنيل منها لأنه طرق أبواباً

 كانت موصدة فأيقظ من كان قابعاً خلفها في سباته العميق منذ عهود وأحيا شعوراً مكبوتاً

بين جدران الكنيسة كان في طريقه إلى الزوال والنسيان .

 

إنه شعلة متجانسة من المشاعر القومية والإنسانية والكنسية المتفتحة ، يعمل بصمت لرسم

 صورة واضحة المعالم لمستقبلنا وخارطة طريق لمسيرتنا ،  وبنفس الوقت يحمل في وجدانه

 هموم ومعاناة شعبه في أرض الوطن ويمد من أبرشيته بإستمرار يد العون إلى المهاجرين

المحتاجين القادمين إلى سان دييغو ، ويشارك أبناء مدينته في جميع المناسبات والإحتفالات

ويقدم المشورة والنصح في كافة أحاديثة ولقاءاته مع أبناءه ، إضافة إلى حضوره المؤثر

الدائم في معظم المؤتمرات واللقاءات في بغداد وإقليم كردستان إلى جانب عمله المتواصل

الدؤوب داخل أروقة كنيستنا لتوحيد الصفوف ولم شمل أبناء المسيح تحت سقف واحد .

 

 وكان أخرها ترأسه للتظاهرة الإحتجاجية الحاشدة في مدينة الكهون / سان دييغو إستنكاراً

للمجزرة البشعة التي إرتكبتها مجموعة من الوحوش المفترسة في كنيسة سيدة النجاة في

بغداد قبل أسابيع وإلقائه كلمة إرتجالية مثيرة ، سرد فيها بعض أحداث الماضي التي يعيد

التاريخ كتابة بعض صفحاتها المأساوية من جديد . كانت كلماته صرخة مدوية لإيقاظ أمريكا

 من غفوتها، فتردد صداها في كل مكان ، وأطلق عبارات تستصرخ الضمير الإنساني وتطالب

 المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته الأخلاقية وبذل كافة الجهود الممكنة لإنهاء معاناة شعبنا

الذي يُذبح كهنته وأبناؤه الأبرياء كالنعاج فتسيل دماؤهم كقرابين داخل كنائسهم وأخرون

مُهددون بالموت وهم في بيوتهم وعلى أرض وطنهم دون إكتراث أو وقفة جادة من قبل الدول

 الكبرى التي تعاملت مع هول الجريمة بإستنكار هزيل أو بيان مقتضب وكأن الأمر حدث يومي

 عابر .

 

 إن مار سرهد جمو من الرواد القلائل الذين ستذكرهم الأجيال القادمة بما قدمه من إنجازات

 بارزة على الصعيدين القومي المعروف والكنسي الذي أود التطرق قليلاُ إلى إحداها فقط :

 

بعد غياب طارئ عن حضور القداديس في كنيسة سانت بيتر في سان دييغو لبضعة أسابيع ،

دخلت بعدها كالعادة إلى الكنيسة في صباح أحد أيام الأحاد الذي بعده . شعرت منذ الوهلة

الأولى بإحساس غريب لم أألفه من قبل ، كما لم يتضح لي ماهيته في بداية الأمر . تلفتُ يميناً

وشمالاً لأتبين ملامح اللغز الذي أثار الحيرة في نفسي . لفني صمت عجيب وهدوء غريب لم

أعتاد عليهما وشعرت بأحاسيس متدفقة ورغبة جامحة للتأمل والبحث عن شيئ مألوف حولي

، ولكني سمعت همساً من أعماقي وناقوساً يقرع بين جنبات صدري يدعوني للصلاة . بعد

حين أهدتني نظراتي إلى السر الذي كنت أبحث عنه ، أنها الصور اًلمقدسة الكثيرة التي كانت

معلقة ومرسومة على الجدران والأعمدة ، وقد إختفت بهيئتها الطبيعية ولكنها تركت في

مواقعها شعاعاً روحانياً متوهجاً في أركان الكنيسة ، كان ينير قلوب ونفوس المؤمنين الذين

حضروا ذلك القداس .

 

إنها خطوة مباركة على الطريق الصحيح للتقرب أكثر من ربنا يسوع المسيح بقلوب خاشعة

ونيات صادقة وإزالة بعض التقاليد التي علقت بكنائسنا المباركة خلال مسيرتها الطويلة

وظروفها البالغة الدقة لفتح الابواب على مصراعيها من أجل لم الشتات المبعثر لشعبنا الجريح

 وتوحيد كيان وكلمة ” كنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية . “

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *