دور الاسرة في بناء الشخصية المتوازنة للابناء

 

الاسرة جماعة اساسية في الحياة الاجتماعية ومظهر رئيسي لكل مجتمع بشري, وبغض النظر عن شكلها فأنها تشير الى العلائق التي تتصل بعملية الانجاب والتي تنظم بواسطة القانون أو العرف، وهي المؤسسة الاجتماعية الوحيدة التي تضطلع دورا هاما في حياة الانسان وبالاساس منذ الميلاد وحتى نهاية الطفولة المتأخرة لحد عشرة سنوات. اذ اصبح قانونا علميا معروفا في علم الاجتماع ان للاسرة الدور الهام في صقل شخصية الطفل. وفقا للمعايير والقواعد الاجتماعية التي تتبعها الاسرة في المجتمع اذ هي الوسيلة الوحيدة لنقل المفاهيم والقيم والاعراف الاجتماعية التي تعد المثل العليا في المجتمع الى الاجيال اللاحقة بحيث تغرس في اذهانهم وتبقى جزءا من شخصيتهم, وتؤثر في تصرفهم في مقتبل العمر بصورة لا شعورية بالرغم من التأثيرات الخارجية للعناصر الحضارية الجديدة. فلا بديل للاسرة في صقل شخصية الانسان وفقا للمفاهيم التربوية السليمة التي ينشرها كل مجتمع. ولها الامكانية في توجيه الشخصية باتجاهاتها الاجتماعية التي تراها مناسبة للتكيف مع المجتمع، بالرغم من بعض الميول التي يحملها بعض الافراد التي قد تكون منافية للاعراف.


اننا بأمس الحاجة لدور الاسرة في المهجر لتحقيق التنشئة الاجتماعية السليمة للابناء بحيث تمكن ابنائها في التواصل مع الحياة الجديدة التي تختلف العناصر الحضارية لها عن تلك المجتمعات القادمة منها،لكي تحافظ الاجيال القادمة على هويتهم الحضارية دون الانصهار في المجتمع الغربي انصهارا كليا. وقد يعتقد البعض من غير الاختصاصيين اننا قدمنا الى المجهر وعلينا تقليد كل العناصر الحضارية القائمة لكي نتمكن العيش وتحقيق الاهداف، لان المجتمع الغربي مثال متقدم للمجتمعات الاخرى, انما في الحقيقة هذا الافتراض غير المدروس لا يمكن الاعتماد والاخذ به. اذ القدوم الى هذه المجتمعات هو لدوافع اجتماعية واقتصادية وثقافية وفكرية وسياسية تتباين من مهاجر الى اخر، فرضتها عليهم مجتمعاتهم وحكوماتهم. أي أن الاغلبية لم يقدموا طوعا وبرغبة جامحة بل أن الأيحاء واللاشعور بتأثير العوامل المذكورة دفعت الفرد ان يغادر بلده, و ثانيا ان المجتمع الغربي مليء بالتناقضات الاجتماعية اليومية والتفاعلات الاجتماعية المزدوجة في السلوك.


علينا التمييز بين ظاهرتين اجتماعيتين اساسيتين وهما التكيف الاجتماعي والتمثيل الاجتماعي (الانصهار الاجتماعي). فالعملية الاولى, اي التكيف الاجتماعي تعني ببساطة تنازل الفرد عن بعض قيمه وتقاليده لكي ينسجم مع الواقع الجديد, وأما التمثيل الاجتماعي فهو ذلك الانصهار الكلي في المجتمع الجديد بكل مفرداته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية و النفسية, ويتخلى عن كل ما تربى وعاش عليه في الماضي. انما هذه العملية شاقة وفقا لنتائج الدراسات والابحاث النفسية والاجتماعية التي اجريت في مختلف انحاء العالم, لأن الانسان لا يمكن ان يتخلى بكل سهولة ويسر عن كل العناصر الحضارية التي عاشها في مجتمعه الاول منذ الطفولة فهي مغروسة وراسخة في ذهنه ويتصرف بها الفرد بطريقة لاشعورية حتى ولو اراد تقليد المجتمع الجديد. فيتظاهر بالتقليد الاعمى, وقد تحدث عملية الانصهار الاجتماعي عند الجيل الثالث أو الرابع. وعليه ايجاد الموازنة السلوكية في التصرف اليومي عن طريق الحفاظ على القيم والتقاليد الاساسية الضرورية التي حملها من المجتمع الاول, ويساير ما هو مهم وما يحقق مصلحته الشخصية ومصلحة الجماعة الاثنية التي ينتمي اليها بحيث لا تتنافى مع القوانين الرسمية, ويستوجب في هذه الحالة تجنب ظهور وبروز حالة الصراع الاجتماعي بين الوالدين والابناء لانها ظاهرة حتمية لابد منها ،بمعنى ان الاباء لايتقبلون المستجدات الحضارية بسهولة كما يتقبلها الابناء ،فالوعي لهذه المسالة مطلوبة في عملية التنشئة الاجتماعية من الوالدين ،وعليهم تفهم مخاطر هذا الصراع وانعكاساته على سلوك الابناء،فهنا تكمن ضرورة التقيد بالموازنة واختيار الاساليب المناسبة التي تنسجم مع مايؤمن به الوالدين من القيم والتقاليد وما اكتسب الابناء من التقاليد والسلوكيات في المجتمع الجديد.


واذا فقدت هذه الموازنة ستكون الاجواء الاجتماعية مهيئة لظهور مشكلات اجتماعية مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية والقرابية او مشكلات شخصية كالأصابة بمرض نفسي او الجريمة بانواعها ، واللجوء الى المخدرات والممنوعات والانتحار وبالأخص اولئك الذين يحملون الاستعداد والميل للانحراف الاجتماعي وذلك لفقدان الرعاية العاطفية الصحية من قبل الوالدين لاصرارهم على نقل ما هم يرغبون به الى الابناء ويتجنبون في التاكيد على ما يرغب به الابناء. ومن اهم مايجب على الوالدين ادراكه هو التقرب الى نفسية ابنائهم المراهقين اذ ان هذه المرحلة العمرية هي من اخطر المراحل واكثرها حساسية في حياة الابناء ،فعلى الاباء التطلع نحو متطلبات ورغبات ابنائهم المراهقين وتلبية حاجاتهم وبوعي كامل وتوجيه سليم ليتفهموا مشاكلهم وتوضيح التغيرات النفسية والجسدية والفكرية التي تصاحب هذه الفترة الحرجة من حياتهم حيث ضبط وتوجيه السلوك في هذه المرحلة العمرية يعني خلق شخصية متوازنة، ولكن بالاعتماد على ما تلقاه في طفولته ايضا.


ومن هذا المنطلق فان الاسرة تضطلع دورا اساسيا لاحداث التكيف الاجتماعي السليم وليس الانصهار الاجتماعي لكي تهيىء بيئة اجتماعية تمتاز بالموازنة والادراك الحقيقي لمجريات الوقائع اليومية للمجتمع الغربي الجديد فتكون هي الوسيلة في الوقاية والتخلص أو الحد من المشكلات الاجتماعية. فالاسرة المستقرة في العلاقات الاجتماعية بين اعضائها وبالدرجة الاساس بين الوالدين تهيىء بيئة سليمة لنقل المفاهيم والاتجاهات الاجتماعية التي وصلت من الاجداد الى الابناء بشكل مقبول بحيث ان محافظة الوالدين على تلك القيم والمفاهيم وممارستها أمام الابناء ومتابعة الابناء في المشاركة بالفعاليات والممارسات الاجتماعية المستوحاة من التراث الاجتماعي تسهم في نقلها وتطبيعها في اذهان الابناء وبالاخص منذ طفولتهم, مثلا تعويد الاطفال على أهمية دور الكبير بالسن في الاسرة وطاعته وأهمية مشاركة الوالدين في مناقشة اتجاهاتهم ومواقفهم الحياتية ضرورة اجتماعية لبناء شخصية متوازنة بين التراث والعناصر الحضارية الجديدة التي تحيط بنا والتأكيد على المفاهيم الدينية التي تساعد في بناء شخصية سليمة بعيدة عن الانحراف، والتخلص من الصراعات بين الوالدين لكي تتحقق علاقة زوجية توحي وتعبر عن العواطف الايجابية من الحب وقبول الاخر وتجنب مشاحناتهم من ظهورها امام الاطفال ،فهناك العديد وبل اغلب الوالدين يظنون ان تلك المشاحنات الجارية بينهما لا تؤثر على اطفالهم لانهم صغار السن فهم لايدركون ماذا يفعلون . علاوة على دور الاسرة في دفع الابناء نحو الاهتمام بالتواصل الدراسي الذي يدعم السلوك السليم ويغير الاتجاهات والمواقف نحو الافضل لكي تنسجم مع الواقع الاجتماعي ويعد من اكثر العوامل تاثيراعلى سلوك الفرد ويجعل من الافراد التكيف الايجابي مع المجتمع لانه يتفهم مايجري في المجتمع من الانشطة المختلفة ويكون قادرا للتمييز بين ما هو الصالح وما هو السيء .

الدكتور عبدالله مرقس رابي
استاذ وباحث اكاديمي

You may also like...