خَـميرُ الفِـريسيين والصدُّوقِيين

 

وعَـبَرَ التَّلاميذُ الى الشاطيء المُقابِل وقد نَسُوا أن يأخُـذوا خُبزاً. فـقال لهم يسوعُ: ” تَـبَصَّروا واحْـذَروا خَميرَ الفِريسيينَ والصَّدُّوقِيين” فقالوا في أنفُسِهِم: “ما أخَذنا خُبزاً! ” فشَعَرَ يسوعُ بأمرِهِم فقال لهم: ” يا قَليلي الإيمان، لِماذا تَـقولونَ في أنفُسِكم إنَّه ليس عندكم خُبزٌ؟ألَم تُدرِكوا حتى الآن؟ أما تَذكُرون الأرغِـفَةَ الخَمسَةَ للخَـمسة الالآفِ وكَم قُـفَّةٍ رَفَعتُم؟. والأرغِـفَةَ  السَّبعةَ للأربَعَةِ الالآفِ وكَم سَلَّةٍ رَفَعتُم؟. كيفَ لا تُدرِكون أنِّي لم أُكَـلِّـمْكُم على الخُبْـز؟ فاحذَروا خَميرَ الفِـريسيين والصَّدُّوقِيين. ففَهِموا عندَئذٍ أنَّه لم يأمُرْهُم أن يَحذَروا خَميرَ الخُبز، بل تَعليمَ الفِـريسيين والصَّدُّوقِيين.> (متّى16:: 5- 12)

 

وعَبَرَ التَّلاميذُ الى الشاطيء المُقابِل وقد نَسُوا أن يأخُذوا خُبزاً. كان تَركُ يسوع  للفِـريسيين والصَّدّوُقِيين سريعاً مشوباً بالحزن عليهم والغيظ مِنهم لشِدَّة عَنادِهم وكبريائهم. بعد عبورهم تذَّكَّرَ التلاميذ أنهم لم يأخُذوا خُبزاً، وأنَّهم ذاهبون الى منطقةٍ خالية لا يُمكِن الحصول على الطعام فيها، فلم يكُن بحوزتِهم إلاَّ رغيفاً واحداً (مرقس8: 14).

 

فقال لهم يسوعُ: ” تَبَصَّروا واحْذَروا خَميرَ الفِريسيينَ والصَّدُّوقِيين”: كان موضوعُ نسيان الـتلاميذ لأخذِ الخُبز مَدارَ حديثِهم، لأنَّهم سيكونون بحاجةٍ إليه مُستقـبلاً. فانتهزَ يسوعُ فرصة العبور ليُعَـلِّمهم دَرساً روحياً مُستعيراً إحدى المواد التي تَدخُـلُ في عَـمَل الخُـبز وهو “الخمير” ومَـفـعولُه هو تخمـير العجين. فاستعاره يسوع كمُفْـسِدٍ للأخلاق وقـد جرى تحْـريمُه في كـثير مِن تَقـدِمات الـشريعة الموسوية ( الخروج34 : 25 واللاويين 2: 11). فحَـذَّرَهُـم يسوعُ مِـن خمير الفِـريسيين والصَّدُّوقِـيين كصِفةٍ لـفساد أخلاقِـهم وتعالـيمِـهم لمُمارتهم الـرِّياء (لوقا12: 1) حيث يدَّعـون الغيرةَ للحَـقِّ وقلوبُهم فارغة مِنها وهي التي دفعـَتهم لـلقُـدوم عنده وطـلـبِهـم مِنه أن يُرِيَهـم آيةً مِن السماء. لم يَـفهـم الـتلاميذُ قَصْدَ المسيح  بقَوله خَمير الفِـريسيين والصَّدُّوقِـيين حيث عَـنوا  بها حَرفِـياً بأنَّ الخميرَ يتعلق بالخبز. والبشير مرقس يقول      ” وأخذَ يوصيهم وقال: تَبصَّروا واحذَروا خَـمير الفِـريسيين وخَمـير هـيرودس! ” ( مر8: 15) حيث كان هيرودُس ومُعظم أتباعِه صَدُّوقيين وجوديي ذلك الزَّمَن  والفِرييسيين طقسييه، وكلا الفريقَين لم يكونا يكترثان بالدين، بل كانوا كافِـري القلوب ومتظاهرينَ بغيرةٍ كُبرى على الحَق.

 

فقالوا في أنفُسِهِم: “ما أخَذنا خُبزاً!  وأخذَ منهم الـتفكيرُ بالخُـبز كُـلَّ اهـتمامِهم، ولـذلك لم يَـفهَـموا كَـلامَ يسوع إلاَّ مِن معناه الظاهر دون الإنتباه الى معناهُ المَجازي، فظنوا أنَّه يُحَذِّرَهم مِن الخبز المُختمَر. ومِما زاد بعدم فَهمِهِم بأنَّ كِـلاماً طقسياً كـثيراً كان يَدور بين اليهود حول الخمير، فكان مِنهم مَن يقول لا يجوز الحصول عـليه مِن الوثنيين. وليس بعيداً عن التلاميذ بأنَّ تَحذيرَ يسوع إياهم كان لعدم أخذِ الخبز المُختمَر من الفِـريسيين المُقاومينَ له لِئلا يتدَنَّسوا مِنهم. ولكن  كيف للتلاميذ وهم  قد أمضوا مع يسوع زمناً طويلاً أن يبقوا بهذه البساطة وبُطْءِ الفهم لِمعنى كلامِه المُوَجَّهِ إليهم؟ حتى أَنَّه اضطرَّ لِتوبيخِهِم.

 

فشَعَرَ يسوعُ بأمرِهِم فقال لهم: ” يا قَليلي الإيمان، لِماذا تَقولونَ في أنفُسِكم إنَّه ليس عندكم خُبزٌ؟ أي أنَّه عَـلِـمَ بماذا كانوا يُفَكِّرون ويتحَدَّثون، إنَّ اللومَ الذي وَجَّهَهُ إليهم ليس لِـنِسيانِهم الخُبزَ وإنَّما لفُـقدانِهم الثِّقة بقُدرتِه على سَدِّ حاجَتِهم. فالأمرُ يعود الى قِلَّة ايمانِهم، وهذه ناتجة أولاً عن عدم فَهـمِهم للقضايا الروحية التي يُـنبيءُ بها لهم يسوع، لأنَّ الإيمان طريقٌ الى عِلم الروحانيات. وثانياً لإهتمامِهم الكبير بأُمور الجسدِ وحاجاتِه وسهوِهِم بأنَّ يسوع قادرٌ على تلبيتِها ولهذا غابَتْ عن عيونِهم رؤية الروحيات لإهتمامِهم المتواصِل بالجسديات.

 

أما تَذكُرون الأرغِـفَةَ الخَمسَةَ للخَمسة الالآفِ وكَم قُـفَّةٍ رَفَعتُم؟. والأرغِفَةَ  السَّبعةَ للأربَعَةِ الالآفِ وكَم سَلَّةٍ رَفَعـتُم؟. أَلم تُدرِكوا حتى الآن بعد مُرافَقَـتِكم لي طَوالَ هذه المُدة، وإصغائكم الى تَعليمي، أنَّ خُلاصةَ تَعليمي هي إظهار الحقائـق الروحية الهامة  لحياة النفوس البشرية؟ وليست الأمورُ الشَّكلية  فيما كان الخُبزُ مُختمِراً أو فطيراً وأشياء أُخرى شبيهة؟ ومِما دَفَـعَ يسوعَ بزيادة لومِهم هـو تذكـيرُه إياهم بأَنَّه وبحضورهم قـد أشبَعَ الالآفَ مَرَّتَين، فكيف نَسُوا المُعجِزَتَين ولم يَمُرَّ عليهِما إلاَّ وقتٌ قليل؟ وكأَنّي به يقول لهم: هل مَن أشبعَ الخمسة آلاف رَجُلٍ ثُمَّ الأربعة آلاف ما عدا الأولاد والنساء يَعجَزُ عن إشباع إثني عشر رَجُلاً وقتَ الحاجة؟ أيُّها الإخوة القراء الأحِباء، علينا دوماً أن لا نَعْدَمَ الثقة بالله في اختبارنا لِمَراحِمِه! ليس في وقتِ الشِدَّة فَحَسْبُ بل على الدوام وفي كُلِّ وَقت!.

 

كيفَ لا تُدرِكون أنِّي لم أُكَلِّمْكُم على الخُبْز؟ فاحذَروا خَميرَ الفِـريسيين والصَّدُّوقِيين. أخَذَ العَجَبُ مِن يسوع مِـن عَـدَم  إدراكِهم بأنَّ غايَـتَه القصوى مِن تعليـمِه ومُعجِزاتِه هو إشباع الجماهـير بالطعام الروحي غِـذاءً للـنفوس وليس الطعامَ الجسدي أي الخبز إلاَّعند الضرورة كما جرى في إشباع الجموع مَرَّتَين. كان هذا الكلام توجيهاً للـرُّسُل لِـيفهَموا قَصْدَ يسوع مِن الخمير دون أن يُفَسِّرَه لهم. ويبدو أنَّ توبيخَه إياهم قد فَعَل فيهم نقلةً نوعية للإنـتـباهِ الى كلام يسوع الروحي وفَهْمِ مغْزاه. ومِن المُلاحَظ أنَّ يسوع حين يرى نـَفسَه مُلـزَماً لتوبيخ تلاميـذِه لخطا يَصدُرُ عنهم لا يفعل ذلك إلا عندما يكون  معهم لوحدِهِم لكي لا يخجلـوا أمام الناس، وبالمُقابل نراهم شغـوفـين جداً بِملازمتِهم لمُعلِّمِهم حتى لو سهوا عن شيءٍ ضروري كنِسيانِهم  أخذَ الخبز معهم.

 

ففَهِموا عندَئذٍ أنَّه لم يأمُرْهُم أن يَحذَروا خَميرَ الخُبز، بل تَعليمَ الفِـريسيين والصَّدُّوقِيين: وبعد توبـيـخ يسوع لِـرُسُلِـه  الذي أشرنا إليه، إتَّسَعَت أذهانُهم لإستـيعاب اهـتمامات يسوع واعـتمَرَت قُـلوبُهم بالإيمان وفَهِموا تِـلقائِـياً ما كان قصدُهُ مِـن الخميـر، فهـو فساد تعالـيم مَن اعتمَدوا الـرِّياءَ في أقـوالهم. إنَّ يسوع لم يحظُر على الـرُّسُل الإختِـلاط بالفِـريسيين وغرمائهم الصَّدُّوقِيين، وإنَّما أوصاهم بالحَذَر مِن أضاليلِهِم التي تُفسِدُ عقائد الإيمان المُستقيم.

 

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *