حُـبٌّ إلـهي وشوقٌ بشري

< فتقدَّم مُسرعاً وصعد الى جُمَّيزةٍ ليراهُ > لوقا 19: 4 .

مشهدٌ فريد برز فيه فجأةً في وسط جمهور كبير كان يُحيط بيسوع لدى دخوله اريحا، شخصان فقط هما: يسوع  وزكّا. كان لقاء زكّا بيسوع وهو يجتازُ اريحا كلقاء الظلام بالنور، لأنَّ زكّا نقيضٌ ليسوع. وهنا يتبادر السؤال: كيف إذاً جرى لقاء بين إنسان مثل زكّا وبين يسوع؟ ولن نُحسن الإجابة إذا لم نعرف مَن هو زكّا ومَن يكون يسوع بالنسبة إليه؟

1 –  تُرى، مَن هو زكّا؟ إنَّه رئيس العشارين غنيٌّ، والعشارون في زمن يسوع يقول الإنجيل كانوا جباة العُشر. لذلك تقتضي مصلحتُهم أن يُبالغوا في تقدير مداخيل الناس من الأرزاق، مِن اجل استلاب خيراتهم أولاً وتأدية دور العمالة للسلطات الأجنبية الحاكمة ثانياً. وبسبب هذين الأمرَين كان يُنظر الى “العشار” آنذاك بـ”الخاطيء” وبهذه الصفة كان معروفاً لدى المجتمع، فبماذا كان يُنعت رئيس العشارين؟ وهو الذي لا يرى حياته إلا بامتصاص حياة الآخرين؟ ليس أقل من رئيس الخطأة.

2 –  مَن هو يسوع بالنسبة الى زكّا؟ لم يكن زكّا يعرف مَن هو يسوع، لأنَّه لم يكن من الذين يقتفون تنقلات يسوع، ولا هو من زمرة الفريسيين ليسمع عنه الكثير، ولكنَّه بالتأكيد لم يكن خافياً عليه ما يُقال عن يسوع، لكي يعرف بأنَّه يُحبُّ الخطأة، إنسان جاء ليخدُم لا ليُخدَم، لا يتأفف من مُشاركته الطعام مع العشارين، رجل يتحسَّس أوجاع البشر، رجل قدرةٍ بالكلام والفعل، يختلف منطقه عن سائر الناس. وبلا ريب لم يكن غافلاً عن اجتراحه معجزة إعادة البصر لرجل اعمى جالسٍ على جانب الطريق قرب اريحا.

كانت مسيرة حياة زكّأ تقوم على السلب، فتحدَّتها شهرة انسان تقوم حياتُه على البذل. اهتزَّ كيان زكّا أمام صاحب الشهرة هذه، فتاق الى رؤيته. وليس مستبعداً أنَّ تخيَّل زكّا يوماً بأنَّ تصرُّفَه في الحياة كان خاطئاً، بل يظهرأنَّه كان يعتقد باستحالة إمكانية الإنسان العيش بالإيمان دون الإستغلال.

احتار زكّأ بماذا يمكنه أن يصف يسوع؟ وهذا ما يُعاني منه إنسان اليوم وفي كُلِّ يوم، كيف يتفاعل مع الآخرعن طريق المحبة، التضحية، الخدمة، البذل، في سبيله! أمُثُلٌ هذه كُلّها أم غباوة؟ وهل هناك إنسان يتصف بهذه الخصائل؟ فإذا وُجِدَ إنسان واحد فقط يُمارس هذه المُثُل، فيكون عملُه نوراً لا بل تحدِّياً وتوبيخاً! وإذا لا يوجد إنسان بهذه الفضائل، فإنَّ ناموس الطبيعة هو الرذائل وكُلُّ ما يتعارض مع الفضائل.

بشكل رجل يحمل هذه المُثُل دخل يسوع، وكأنَّه يرى في زكّا مثالاً قد زال، أو كأنَّه يُقيم ناموساً قد انتُهِك ودُفِن وووريَ التراب. إذاً كفاتحٍ دخل يسوع ليس الى اريحا فقط، بل الى قلب زكّا. وبدخوله تزعزع كيان زكّا من الداخل كما يُبَدِّد النور عتمة الظلام. إنَّ الإنسان بإمكانه تغيير ما هو عليه، ويحيا بالإيمان إذا آمن بيسوع! وهذا ما فعله زكّا عندما التقى يسوع!

 لم يكن زكّا يعلم بأنَّ كُلَّ ذلك مُستطاع، ولذلك ظلَّ يعيش في الظلمة. وهل هناك مَن يُحِبُّ الظلام إلا مَن لم يختبر قوة النور. ليس مَن يرضى العيش في الديجور، إلا لكونه لا يؤمن بإشراق النور! كما لا يرغب بالإستغلال، إلا لكونه لم يختبر قوة الخدمة في الحياة. قلب الإنسان في عطشٍ دائم الى الحق وشوقٍ الى النور، وما كان الإنسان ليُخطيء لو عرف حقيقته.

 إنَّ عامِلَين أساسيَين حقَّقا رغبة زكّا للقاء يسوع، ودفعاه ليتحوَّل جذرياً، اولهما: صفاءُ نيته وصدقُه مع ذاته، ورغبته في الخروج من عالمه، وسعيُه الى رؤية عالم آخر فيما إذا كان موجوداً بالفعل! لما دفع الشوقُ زكّا الى رؤية يسوع الغريب بالنسبة إليه! عاد الى ذاته مُراجعاً حساباته، وما إن تبيَّن له النور، رفض أن يبقى على يقينه في ظلمة الحياة! فهل يطلب الظلامُ النور؟ أجَل، إنَّ أكثر التائقين الى النور، هم الغارقون في الظلام، ولكن مِن اين يأتيهم النور إذا كانوا يجهلون وجود النور؟ ولذلك سعى زكّا الى اختبارعالم آخر، لكي يتحرَّر من إطارالعالم القديم المألوف لديه.

والعامل الثاني: لقد تبيَّن لزكّا رغم جهله بيسوع، بأنَّ يسوع لم يكن غريباً عنه! والدليل على ذلك أنَّه ناداه باسمه كأحد أحبائه ” يا زكّا ” وأنَّه كان في قائمة المطلوبين مِن يسوع. فأدرك زكّا بأنَّ يسوع كان راغباً به، أكثر من رغبته هو برؤية يسوع. فمناداة يسوع لزكّا باسمه، أوضحت له كم كان يسوع يُحبُّه ويعرفه قبل رؤيته له، بل كان في انتظاره.

هذا هو سُمُوُّ اللقاء بيسوع وسِرُّ عظمته! يرتكز على شيئين أولا: على الساعي الى اللقاء بيسوع، أن يُراجع حساباته لتغييرها على ضوء رؤيته ليسوع وهو صاعد على جُمَّيزة على مثال زكّا، ويتيقَّن بأنَّ حياة النور واقع. والإنجيل هو الجُمَّيزة، وما الوعظ إلا لون آخر لها.

ثانياً: حين يتأكَّد الإنسان ويؤمن بأن الحياة هي في يسوع يعرف أنَّ يسوع يُحِبُّه، وحتى لو كان يحيا كحياة ابناء الظلام، فهو مطلوب من يسوع لأنَّه في الأصل هو واحد من أبناء النور. إطلالتنا على وجه يسوع تتم عبر المطالعة، الصلاة، الخدمة، الإهتمام بشؤون الإخوة، لدرء العذابات عن إنسان اليوم، وللمعرفة بأنَّ حياة النور هي وحدها الحقيقية، وأن لا نتقاعس في خدمة مسيرة الفداء. إنَّ الوسائل كثيرة لنجعل منها جُمَّيزات للصعود عليها لنسمع يسوع ينادينا قائلاً: ينبغي اليوم أن أمكث عندكم!   ( مستوحاة من كتاب < السائحان بين الأرض والسماء > – الله والإنسان – ج2. )

اشماس د. كوركيس مردو

في 5/8/2015

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *