حصة تموينية ملغاة وجوع وتاريخ يعود إلى الوراء في العراق


مجاعة العام 334هـ: أفرط الغلاء حتى عدم الناس الخبز البتة، وأكلوا الموتى والحشيش والميتة والجيف.

ميدل ايست أونلاين

لندن- من زيد بن رفاعة

قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق

فاجأ قرار الحكومة العراقية إلغاء الحصة التموينية الجمهور العِراقي، مِن أعلى قمة جبل إلى أسفل وادٍ وسهل، فالثمانية والعشرون مليوناً، زادوا أو نقصوا، تكيفوا منذ بداية الحصار الجائر على العِراق 1991 إثر احتلال الكويت (2 أغسطس 1990) مع ما عُرف بالحصة التموينية، التي تستلم فيها العائلة العِراقية، جنوباً وشمالاً، مفردات مِن المواد الغذائية كي تبقيها على قيد الحياة، وجاء ضمن اتفاق النَّفط مقابل الغذاء.
صحيح أن القرار ليس إلغاءً إنما تعويض بمبلغ 19 ألف دينار عراقي، ثم صار 15 ألفاً، وهي تعادل 12 دولاراً لا أكثر. يشعر المواطن أن التعامل مع السوق مباشرة يهدد وجوده وتكيف حياته مع الحصة التموينية، مع أنه يعيش فوق بحيرات مِن النفط، وفي دولة تصل ميزانيتها إلى أكثر من مئة مليار دولار، ويأتي التهديد مِن ارتفاع الأسعار المستمر بشكل يومي، فالغرض من الحصة كان هو وصول المواد بشكل منتظم وبثبات يعين على البقاء على قيد الحياة.
ما فهمناه هو أن إلغاء الحصة التموينية وتعويضها بالمبلغ المذكور جاء لمحاربة الفساد المستشري فيها، وقصة وزير التجارة فلاح السوداني، وهو أحد أعضاء حزب الدَّعوة (حزب رئيس الوزراءالعراقي نوري المالكي) معروفة، ولم يتخذ أي إجراء ضده بل على العكس برأته إحدى المحاكم.
لكن ما نعرفه أن الحصة التموينية كانت تصل المواطن منذ 1991 وحتى 2003 بلا نقص ولا خلل بنوع فما عدا مما بدا، وما ذنب المواطن إذا كانت الحكومة عاجزة عن محاربة الفساد. بما أن الحصة التموينية تعني مقاومة الجوع، ومحاولة إبقاء العراقيين على قيد الحياة، والآن ملايين تحت خط الفقر، حاولنا جمع ما قدرنا عليه مِن تراث الجوع المميت، وما يترك مِن تأثير على الطبائع والأخلاق، حتى يصل الحال إلى أكل الميتة، بل أكل البشر لبعضهم بعضاً.
للجوع درجات، وكل درجة لها اسمها الدال عليها، فهو الريّق، وهو الجدب أو المحل، أي الجوع الشديد، ويسمى مع الحر: المغتوم، ومع البرد: الخِرص. ويسمى العصّب حين يحتاج المَرْءُ، لشدة جوعه، شدِّ وسطه (الثعالبي، فقه اللغة). ومن الأخير استعارت الحكومات المأزومة، التي تعلن التقشف على شعوبها عبر وسائلها عبارة “شد الأحزمة على البطون”، ويُقال للمرأة “جائعة الوشاح إذا كانت ضامرة البطن”(لسان العرب).
وأسماء الجوع حسب مراتبه: السَّغب ثم الغرَث ثم الطَّوى، ثم المخمصة ثم الضرَّم، وآخرها وأقساها السُّعار، فما بعده يأتي الموت. قال الحطيئة شاكياً جوعه للخليفة عمر بن الخطاب بعد أن سجنه:
ماذا تـقــول لأفراخ بذي مرخ.. زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
وجاء في المثل “ما ذقت عنده عَكبة ولا لبكة”، أي لا حبَّة من سويق، ولا قطعة من ثريد (ابن قتيبة، أدب الكاتب). والمثل “سَمن كلبٌ بجوع أهله”، والمثل “جوع كلبك يتبعك” مثل لئيم، قاله ملك من ملوك حِمير لزوجته وكهنة بلاده، وهم ينصحونه أن يكف عن تجويع شعبه، وما حدث أن تآمر أخوه مع الجياع فقتلوه (مجمع الأمثال).
كثيراً ما يأتي الجوع وقرينه العطش بصيغة فعلان، مثل: جوعان وغرثان وعَلهان وعميان إلى اللبن (أدب الكاتب). واستخدم القرينان في المشاعر، فقيل: “جعتُ إلى لقائك” و”عطشت إلى لقائك”، كما يشار إلى الحي المقفر بالجوعة (لسان العرب). وشحة الطعام ليست سبب الجوع دائماً، فهناك المستجيع: الذي “لا تراه أبداً إلا وهو جائع”، أو “الذي يأكل كل ساعة الشيء بعد الشيء” (لسان العرب). وهذا ما يتمناه الشاعر للذي يعيش بحمى السلطان على حساب غيره:
أجاع الله مَن أشبعتموه.. واشبع مَن بجورِكم أُجيعا
يخبر الرواة عن مجاعات، حدثت بسبب جفاف أغبر أو فيضان عاتٍ، مصحوب بطواعين وأورام. والمدن الجائعة مدن مباحة مسلوبة من داخلها، يأكل قويها الضعيف، يهدم الجوع ستورها، ويستبيح عفافها، وبراءة أطفالها، فلا حرمة لجار أو قريب، أو لمال أو أولاد.
عند الجوع تنقلب مقاييس الأخلاق فلا معنى للأمانة والضيافة والإيثار، وقد تحجب الأنانية عاطفة الأم لأولادها، فلا ترى ضيراً من رميهم إلى وحوش الماء، أو تركهم على قارعة الطريق يصرخون، فالعواطف، كل العواطف لا وجود لها في الأبدان الجائعة. والجوع كافر، كما يقال، لأنه يغطي الحياة، فمن معاني الكفر: التراب، والسحاب المظلم، والقبر(القاموس المحيط).
من تاريخ الجوع
دفع الجوع عمر بن الخطاب أن يعطل حد السرقة، الذي ورد في الآية: “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (المائدة: 38)، في سنة المجاعة الكبرى (18هـ)، التي عرفت بسنة الرمادة، لشدة الجدب لا يُرى إلا الرماد. لكن على خلاف الحاضرين جاع الخليفة مع مواطنيه، لا يتوسد غير الرماد، ولا يأكل أكثر من سد الرمق، ولا يرتدي غير الخشن من الثياب، يخفف عن رعيته عذاب الجوع. فهل من وشل رحمة في شيءٍ من معانيه: القحط والقبر وسواد الليل والتراب؟!
مِن مجاعات السنين كانت السنة 334هـ مِن أجوعها، بالعراق وغيره، فقد “أفرط الغلاء، حتى عدم الناس الخبز البتة، وأكل الناس الموتى والحشيش والميتة والجيف، وكانت الدابة إذا أراثت أجتمع على الروث جماعة ففتشوه، ولقطوا ما يجدون فيه من شعير وأكلوه. وكان يؤخذ بزر قطونا، ويضرب بالماء ويبسط على طابق حديد، ويجعل على النار حتى يقب ويؤكل”(مسكويه، تجارب الأمم).
ومن مآسي مجاعة هذه السنة: “كان الرجل والمرأة والصبي يقف على ظهر الطريق وهو تالف ضراً؛ فيصيح الجوع الجوع، إلى أن يسقط ويموت، وكان الإنسان إذا وجد اليسير من الخبز ستره تحت ثيابه، وإلا أستلب منه، ولكثرة الموتى وأنه لم يكن يُلحق دفنهم، كانت الكلاب تأكل لحومهم.
وخرج الضعفى إلى البصرة خروجاً مفرطاً متتابعين لأكل التمر، فتلف أكثرهم في الطريق، ومن وصل منهم مات بعد مُديدةٍ. ووجدت امرأة هاشمية قد سرقت صبياً فشوته، وهو حي في التنور، فأكلت بعضه وظفر بها، وهي تأكل البعض الباقي فضُربت عنقها. وكانت الدور والعقارات تباع برغفان، ويأخذ الدلال بحق دلالته بعض ذلك الخبز”(المصدر نفسه).
ويذكر ابن الجوزي (ت597هـ) في أخبار السنة 448هـ أن “غلت الأسعار، فبلغ الكر من الحنطة، وقد كان يساوي نيفاً وعشرين ديناراً، تسعين ديناراً، وتعذر التبن، حتى كان يباع الكساء من التبن بعشرة قراريط، وانقطعت الطريق من القوافل للنهب المتدارك، وكان أهل النواحي يجيئون بأموالهم مع الخفر فيبيعونها ببغداد مخافة النهب. ولحق الفقراء والمتجملين من معاناة الغلاء ما كان سبباً للوباء والموت حتى دفنوا بغير غسل ولا تكفين، وكان الناس يأكلون الميتة” (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم).
ومن تاريخ الجوع وقساوته رصد شاهد عيان ما حدث السنة 597هـ، فقال “دخلت سنة سبع وتسعين مفترسة لأسباب الحياة”. فمن أخبارها أن “اشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب، ثم تعدوا ذلك إلى أكل صغار بني آدم، وكثر ذلك من الناس، فأمر السلطان بإحراق الفاعل لذلك والآكل”.
قال الشاهد “رأيت صبياً مشوياً في قفة، وقد حضر إلى دار السلطان، ومعه رجل وامرأة، وزعم الناس أنهما أبواه، فأمر بإحراقهما. ورأيت امرأة في السوق ومعها صبي مشوي، وهي تأكل منه، وأهل السوق ذاهلون عنها، مقبلون على أشغالهم، لم أر فيهم من يعجب من فعلها، فعاد تعجبي منهم أشد، وما ذاك إلا لكثرة تكرره منهم، حتى صار بحكم المألوف لا يستحق التعجب منه”.
وقال أيضاً “وكان إذا حرق آكل أصبح مأكولاً، ثم فشا فيهم أكل بعضهم بعضاً”. وكثر التحايل على جذب الأطفال والشبان إلى المنازل لقتلهم وأكلهم (ابن الساعي، الجامع المختصر في عنوان التواريخ وعيون السير).
هذا غيض من فيض في أمر الجوع، وما أتينا عليه في مناسبة التلاعب في البطاقة التموينية، وفي بلد مِن أغنى بلدان العالم، في الثروة النفطية وخصوبة التربة ووفرة الماء، الذي تتلاعب فيه دول الجوار مِن دون أن يحرك القائمين على أمر العراق ساكناً، وذلك بحكم الولاء.
لقد انطلقت التظاهرات في المدن العراقية ضد قرار استبدال البطاقة التموينية كخطوة إلى إلغائها، بالوقت الذي يجرب الفساد بالملايين بل بالمليارات، وآخرها كانت فضيحة صفقة السلاح مع روسيا. ليس هناك أكثر مِن الجوع نكبة على العراقيين، فكل الولاءات التي يحتمي بها المتنفذون ويروجون إعادة انتخابهم مرات ومرات، مِن دينية ومذهبية، تسقط تماماً أمام الجوع، ألم يُقل قديماً “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”!

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *