النخلة .. شجرة الحياة البابلية المقدسة / بقلم عامر فتوحي


قدس العراقيون القدماء شجرة النخيل (داقلا) – Sacred Palm Tree – منذ أقدم الأزمنة المعروفة ولمكانة النخلة في حياة الكلدان الأوائل فإنهم إشتقوا منها أو من مكانتها المقدسة أسم عاصمة الرافدين الأولى أريدو – Eridu – التي تكتب مقطعياً (نون كي) – Noon ki – ويعني أسمها باللغة العتيقة (الكلدانية الأم) أصل أو باب الحياة أو الرفاهية وفي قراءة أخرى (موطن النخيل) ، وهذا الترادف في المعنى بين الحياة والنخلة إنما يوضح مكانتها الروحية عند أسلاف الكلدان القدماء – Proto-Kaldee – ، والحقيقة فإن العراقي القديم منذ عصر ما قبل الطوفان بل وحتى يومنا هذا ما يزال مولعاً بسحر وجمال ورشاقة هذه الشجرة التي مافتئت تبسط ظلها على أرض الرافدين مذ خلقها ألله لتكون زينة جنة عدن وأول شجرة في العالم ، ومن المرجح لدى علماء النباتات أن العراق هو الموطن الأول لهذه الشجرة العريقة التي يسميها العراقيون النخلة الخالدة أو شجرة الحياة الأولى ، وبسبب ملائمة مناخ العراق 279 لهذه الشجرة المباركة ، فقد كان يزرع في العراق حتى منتصف عقد الثمانينات من القرن المنصرم ما يقرب من ٤٠ ٪ من نسبة التمور في العالم كله ، وقد كانت في العراق قبل جريمة إجتثاث مناطق كاملة في وسط وجنوب العراق من قبل النظام البائد ما يزيد على ٣٢ مليون نخلة أي حوالي ٣٨ ٪ من مجموع النخيل في العالم .

ولعل من أجمل الأساطير العراقية القديمة المعروفة بأساطير المقارنات هي تلك التي كانت بين النخلة والأثلة ، والنخلة هي رمز الإله تموز إله الخصب الذكوري بحسب إسطورة عشتار وتموز ، كما كانت تدخل ضمن التعاويذ الخيرة الشافية والحامية ، مثلما كانت أجزائها تدخل ضمن ممارسات الطب الشعبي القديم .

وللتمر فعل سحري يعتقد به العامة منذ قديم الزمان كمنشط حسي ومحرك للغريزة ، لذلك كان يستخدم في طقوس الزواج المقدس ، وما تزال هذه العادة مستخدمة حتى يومنا هذا . والنخلة مباركة في التقليد المسيحي لأنها السجادة التي فرشت في درب الرب يسوع المسيح في عيد الشعانين وبها لوحت الجموع وهيّ تهلل (أوشعنا لوريه [ لبر] ددوايذ / المجد لأبن داود) ، كما أنها ما زالت تدخل في المراسيم النهرية العراقية كمراسيم الخضر التي كان يمارسها جميع العراقيون دونما إستثناء حتى أواخر القرن الماضي .

أما على صعيد القيمة الغذائية فإذا ما تركنا جانباً القيمة الغذائية للتمور ولاسيما أن عدد أصناف التمور العراقية تزيد على ثلاثمائة وخمسين نوعاً ، منها ما يزيد على ١٥٠ نوعاً من التمور النادرة التي لا تثمر إلا في العراق ، فإن النخلة وأجزائها قد أستخدمت في الحياة اليومية، إبتداء من سعفها التي تغزل به السلال والحصران مروراً بكربها المتعدد الإستخدامات وجريدها الذي يدخل في صناعة الأثاث المنزلي من الكراسي والطبلات والمناضد والأسرة والخزانات الخشبية دون الحاجة إلى دق ولو مسمار واحد ، ولهذا فضلها العراقيون القدماء في بناء منازلهم النهرية أو تسقيف منازلهم البعيدة عن النهر ، ناهيكم عن إستخدم اليابسمنها في أيام الشتاء الباردة كوقود غير مخدش للعين والأنف والرئتين .

وقد كانت شجرة النخيل وما تزال ذات سطوة عند العامة إذ لا يجوز قطعها إلا لغاية أساسية، وعند قطع شجرة النخيل يجب قراءة الصلوات وترديد التعاويذ الحامية وإلا تعرض قاطع النخيل وفق المعتقد الشعبي العراقي للأذى الإلهي ، والحقيقة فقد كانت شجرة النخيل تدخل في طقوس التقرب للآلهة حيث كانت توضع الفسائل الصغيرة في أكواز فخارية قدام الإله الذي تجري طقوس التقرب إليه ويكون ذلك بواسطة سكب الماء المثلج في الكوز الفخاري الذي يحتوي على فسيلة النخيل كتعبير عن تقديم عطية الماء البارد للإله لأن الماء البارد (المثلج) كان من الأمور المرفهة التي لا تقدم إلا للآلهة والملوك وعلية المجتمع .

ولعل النماذج التي جاءتنا من عهد الملك أورنمو ٢١١٢ – ٢٠٩٥ ق.م Ur Nammu والمسلة الكلدانية ذات النجمة الثمانية المتواجدة أيضاً في متحف اللوفر ، إنما تعد من أجمل النماذج التي توضح هذا التقليد الوسط جنوبي (إقليم بابل) الذي أبتكر في أريدو وأنتشر إستخدامه في جميع أنحاء وادي الرافدين القديم ، مع أن الكلدان الأوائل وكافة السلالات الحاكمة في الإقليم البابلي تعاملوا مع موضوع شجرة الحياة هذه فنياً بشكل يقرب من المحاكاة، غير أن فناني إقليم آشور صوروا شجرة الحياة الوسط جنوبية الجذور ، بشكل طغت عليه الزخرفة والرمزية وكانت بحق من أجمل ما تركه لنا الفنان الرافدي القديم .

أما الختم المنسوب للعهد السومري / البابلي الذي يعتبر أقدم ختم للنخلة المقدسة ، فيعد وفق رأي عدد من نقاد الفن المعروفين من أروع ما نفذه فنان الإقليم البابلي ، يصور هذا الختم مشهد جني التمور من نخلة مع فسيلتين و بحضور نساء نبيلات في مشهد طقسي مع رمز الإله ننار (الإله القمر) ووزتين كان يعتقد بأنهما ترمزان للإلهة باو بحسب بعض التفسيرات القديمة ذلك أن رمز الإلهة باو كما تبين مؤخراً هو (المهفة) ريش المروحة الدائرة / المتحركة Winnowing fan .

ومن الجدير بالذكر هنا ، أنه برغم إعتقاد البعضبأن شجرة النخيل المقدسة قد باحت لنا بكل أسرارها التي تناقلها أسلافنا القدماء أباً عن جد ، لكن الأمر غير ذلك تماماً ، وكمثال على ذلك ، فقد أتفقت الديانات الكبرى على أن آدام قد طرد من الفردوس (جنة عدن) بسب أكله من ثمرة الحكمة التي أعطتها له حواء بإيحاء من الأفعى ، ونعلم أن آدم بعدما أكل من الثمرة عرف أمرأته بمعنى (ضاجعها) وكان جزاؤه وأمرأته أن يطردا من الفردوس .

وقد صور الفنانون الأوربيون تلك الثمرة (بالتفاحة) ، ولأن التفاح ليس من الثمار المنتشرة في وسط وجنوب العراق ، ولأن جنة عدن بحسب الدراسات الحديثة تتمثل في وسط وجنوب العراق بدلالة الأسم (عدن) ودلالة أنهار الجنة الأربعة ، فقد كان من المستحيل إعتماد التصور الأوربي لثمرة التفاح ، بخاصة وأن ليس لفاكهة التفاح أية تأثيرات جنسية ، لهذا
فقد أعتقد البعض بأن الثمرة لا بد وأن تكون ثمرة عراقية وأي ثمرة غير (التمر) تلك التي تملأ الجسم حيوية وتصعد السعرات الحرارية ، وهيّ الثمرة التي تقدم حتى اليوم للعريس مع اللبن في ليلة الدخلة .

لكن الأمر لم يكن مقبولاً من قبل الكثيرين بسبب شيوع التصور الأوربي عن التفاحة ، حتى كشفت التنقيبات عن ختم يعتقد بأنه يرجع إلى تاريخ يمتد بين عصري فجر السلالات القديم وميسالم ٢٩٠٠ – ٢٥٥٠ ق.م ، ويحتوي هذا الختم على مشهد يتألف من الثيمات الأساسية لقصة آدام وحواء ، حيث نجد رجلاً مقرناً بمعنى أنه مخلوق غير فان (خالد) وأمامه تجلس أمرأة لا تلبس التاج المقرن مما يوحي بأنها قد فقدت خلودها للتو ، وبينهما شجرة النخيل وقد تدلت عذوقها ، ويبدو في المشهد وكأن المرأة تدعو الرجل المخلد لمشاركتها في الأكل، وتستكمل الصورة التوراتية عن آدم وحواء بوجود الأفعى خلف المرأة وكأنها تحثها على دفع الرجل للأكل من التمر المتدلي من النخلة ، قد يقول البعض أنها مصادفة وربما تكون كذلك !

ولكن لوتمعنا في الأمر ملياً لوجدنا أن أسم جنة عدن مشتق أساساً من الكلمة السومرية – Eden – التي تعني (سهل) وبمعنى آخر الجنان المخضوضرة ، وأن المقطع – Ed – منفصلاً يعني أيضاً النهر ، كما أن تفاصيل المشهد بمجموعها لا تقبل تأويلاً آخر ، وما يدعم هذا الرأي أن التمر معروف في العراق بمزاياه الجنسية ، كما أن المشهد يجمع بين رجل وأمرأة وثعبان وفاكهة التمر وكلها عناصر رئيسة ، مصورة كما وردت حرفياً في الإصحاح الثالث من سفر التكوين بعد ذلك بما يزيد على ألفي عام !

أن شجرة النخيل عند العراقيين القدماء قد أقترنت دائماً بالحكمة وأنفتاح الذهن وبالحيوية الجنسية ، وهيّ ما ترمزه حتى اليوم عند العراقيين المعاصرين ، لذلك كان العراقيون القدماء يحتفلون بعيد زاكموك – Zagmuk – في الخامس عشر من شهر أيلول من كل عام بمناسبة جني التمور كعيد للخصوبة وتجدد الحياة ، وكان الزواج المقدس Hashadu حجر الأساس لذلك العيد الذي كان يعتبر بمثابة بداية للسنة الجديدة قبل أن يعطي مكانته المتميزة لعيد الأكيتو – Akitu – ، ومع ذلك كان الإحتفال بالإله تموز العائد من الموت والإلهة عشتار المنتظرة عريسها الإلهي يمثل ذروة طقوس الفرح عند العراقيين القدماء ، وكانت شجرة الحياة المقدسة (النخلة) تمثل السمة المميزة والرئيسة لإحتفال الخصوبة هذا .


ختم من الفترة البابلية القديمة يصور موضوع آدم وحواء

من كتاب: الكلدان منذ بدء الزمان
المؤلف عامر حنا فتوحي

You may also like...