المسيحية في العراق

نشرت السيدة سميرة فادي في مواقع التواصل الأجتماعي تقريراً مطولاً عنوانه ” المسيحية في العراق ” ومنذ السطر الأول تقول الكاتبة بأن هذا التقرير ” يوضح ما هي الطائفة الكلدانية الكاثوليكية ومتى ومن أين بدأت حيث ليس لها أي علاقة بالحضارة الكلدانية قبل الميلاد كما يتوهم البعض من أبناء طائفتنا ، الطائفة الكلدانية ” .  الظاهر أن الكاتبة الموقرة هي كلدانية لكنها تحكم حكماً قاطعاً بأن كلدان اليوم ليس لهم علاقة بكلدان قبل الميلاد وهذا خطأ جسيم لا يمكن قبوله ، فحال الكلدان هو حال كل الأمم الأخرى ، فإذا كان لعرب اليوم علاقة بعرب الجاهلية أو بعرب الجزيرة العربية ، وأن فرس اليوم لهم علاقة بفرس قبل الميلاد ، فلماذا الكلدان لا يكون لهم علاقة بكلدان قبل الميلاد؟  هناك خصوصيات في كل الشعوب تبقى ولا تزول ، كالأسم واللغة والقومية ، وهناك عادات وتقاليد قد تتغير مع الزمن ولكن هذا لا يؤثر على الأسم والحضارة واللغة والقومية ، فكلدان اليوم هم أبناء وأحفاد كلدان البارحة مثل كل الشعوب ، وعليه فالكاتبة سميرة فادي على خطأ كبير في أدعائها “أن الطائفة الكلدانية ظهرت في القرن التاسع عشر” وليس لها علاقة مع الحضارة الكلدانية “التي عاشت قبل الميلاد في جنوب العراق من بابل وحتى اليمن….”.  صحيح أن “في بداية القرن السادس (وتحديداً في عام ٥۳٩ قبل الميلاد) سقطت بابل ” وهي آخر عاصمة لدولة عراقية مستقلة “.  أو بالأحرى يجب القول آخر دولة عراقية وطنية لأنها كانت كلدانية، أي أنها كانت من أبناء الوطن وليس من الخارج كما حدث للعراق منذ ذلك الحين وحتى اليوم ، فكل الحكومات كانت غازية أي آتية من الخارج وليس من أبناء الوطن الأصليين كما كانت المملكة الكلدانية ، حيث جاء بعدهم الفرس ثم اليونانيون ثم الرومان ثم العرب (مجيء الأسلام) وحتى يومنا هذا ، فالكلدان كسروا شوكة المملكة الآشورية سنة ٦۱۲ قبل المسيح وأصبحت كلمة الكلدان و البابليين مترادفة وبمعنى واحد وضموا الى مملكتهم كل المدن والبلدان التي كانت خاضعة للأمبراطورية الآشورية في سوريا وفلسطين ، وفي سنة ٥٨٦ قبل الميلاد بنيت الجنائن المعلقة في بابل ، أحدى عجائب الدنيا السبعة في ذلك الحين وسقطت هذه الدولة العراقية الوطنية (الأمبراطورية الكلدانية أو البابلية) سنة ٥۳٩ قبل الميلاد على يد سيروس الفارسي الذي حررّ اليهود وأعادهم الى أرض يهوذا.  فنكرر أذاّ أن الأمبراطورية الكلدانية كانت آخر حكومة وطنية في العراق ولهذا يمكن القول أن الكلدان هم المكونّ الأصلي للعراق ولهذا فالكلدان رغم سقوط أمبراطوريتهم بقوا محافظين على هويتهم القومية خاصة في مملكة الرها التي ترأسها الملك أﺑﮔر في سنة ۱۳۰ قبل المسيح ولا زال كلدان اليوم يحافظون على نفس الأسم واللغة والقومية ، ولكن مع الأسف بلا مملكة (وطن).
نعود الى مقالة السيدة سميرة فادي حيث قالت ” أما بالنسبة الى العراقيين (أي الكلدان) بعد سقوط بابل عام ٥۳٩ قبل الميلاد فقد فقدوا الكثير من ميراثهم الحضاري العريق مع فقدانهم أستقلاليتهم السياسية ، لكنهم تمكنوا من الحفاظ على خصوصيتهم الثقافية والدينية رغم كل الضغوطات من قبل الأيرانيين والأوربيين” (المحتلون الجدد للبلد) وتكمل الكاتبة قائلة “فهم (الكلدان) بقوا متمسكين بلغتهم الآرامية (السريانية) … وفي القرن الثاني الميلادي تحولوا بغالبيتهم الى المسيحية ، بل أنهم صنعوا مذهبهم المسيحي الخاص بهم وهو المذهب النسطوري”.
أننا نؤيد ما جاء في هذا الشرح ما عدا الفقرة الأخيرة ، حيث الكاتبة تجهل متى دخلت النسطورية الى كنيسة المشرق وكيف صار هذا التحول.  أما بالنسبة الى أنتشار المسيحية في بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس والأضطهادات التي شنّها الأباطرة الفرس على المسيحيين في القرن الرابع فليس لنا أي تعليق او ايضاح عليه.  كما أن الكاتبة تعطي شرحاَ غير صحيح لما يُسمى “بالدياطسرون” فأنها ليست “ترجمة الأناجيل الأربعة بالسريانية” انما طاطيانوس حاول جعل الأناجيل الأربعة في أنجيل واحد ليسهل على القاريء قراءة الأنجيل بطريقة أكثر سلسة وسهلة وقد أستعملته الكنائس الشرقية خاصة كنيسة المشرق في بعض مراسيمها الدينية وفي المواعظ .  كذلك تتكلم الكاتبة عن “اللغة السريانية العراقية” فلا نعرف من أين جاءت بهذه التسمية ، الشعب العراقي كان كلدانياً ولغته كلدانية أو آرامية فلا يوجد لغة سريانية عراقية.  يوجد لغة العراقيين التي كانت وبقيت كلدانية.
أما بالنسبة الى مدينة الحيرة المسيحية أي دولة المناذرة فقالت الكاتبة : ” يمكن أخذ مجتمع الحيرة كنموذج مصغر من عموم المجتمع العراقي، وأنه كان لها دور في توطيد المسيحية في غرب العراق ونشرها بين القبائل الرحل من عرب وآراميين”.  بالتأكيد أن لمدينة الحيرة وللملوك المناذرة دور كبير في كنيسة العراق ومما يلفت النظر في مقالة الكاتبة هي “أن الأنسان الحيري هو بابلي الأصل” أي كلداني الأصل ، وهذا صحيح .  كما كان لأهل الحيرة مهمة تمتين العلاقات بين المسيحية والأسلام.
لكننا نستغرب من أنحياز الكاتبة المذكورة الى السريان ولا تريد أستخدام كلمة الكلدان في بحثها إلا نادراً جداً فتقول : “أستعان العرب المسلمون بالسريان وبالأخص الشرقيين” .  من هم هؤلاء اللذين تسميهم الكاتبة السريان الشرقيين ؟  من أين أتت بهذه التسمية ؟  فالعرب أستخدموا الكلدان سواء في الأمور الثقافية والصحية وحتى الأدارية ، ومن الأسماء التي تذكرهم كلهم من الكلدان ولا تريد تسميتهم بأسمهم الحقيقي “الكلدان” فتسميهم سريان شرقيين .  هذه التسمية أتت من المستشرقين الأوربيين .  فأن أهل العراق لم يسمّوا قط بالسريان بل كانوا كلدان أو بابليين أو آشوريين ، ولم يطلق على أهل العراق أبدا أسم السريان.  السريان سمّوا كذلك بالنسبة الى سوريا ، وعليه فلا يجوز أبداً أعطاء أسم السريان لسكان العراق مع أحترامنا لقسم من العراقيين اللذين يسمّون سرياناً نسبة الى الكنيسة السريانية القادمة من سوريا.  وعند الحديث عن المبشرين الأجانب فالكاتبة تخلط الحابل بالنابل وأن معلوماتها ليست دقيقة وهي مأخوذة من مصادر غير كاثوليكية وأنها تقول عن المبشرين ما يلي: ” كانت مهمتهم الأساسية تحويل أكبر عدد من الطوائف المسيحية (الشرقية) الى المذهب الكاثوليكي” ، أن هذا ليس دقيقاً تماماً.
وأخيراً تقول الكاتبة في آخر صفحة من تقريرها ” كان الكلدان في الأصل على المذهب النسطوري حتى القرن التاسع عشر ” وهذا خطأ تاريخي ، أذ ان موجة رجوع النساطرة الى الكثلكة له جذور قديمة وأن كثير من بطاركة كنيسة المشرق عبروا عن رغبتهم للأتحاد مع روما ، ولكن هذا لم يتحقق إلا في القرن الخامس عشر والسادس عشر .
وتضيف الكاتبة في تقريرها وتقول ” الكلدان يتكلمون بلهجة خاصة قريبة الى السريانية العراقية الفصحى”.  يا له من عناد غير مبررّ من قبل الكاتبة .  لماذا الكلدان يتكلمون لهجة اللغة السريانية العراقية ؟  لأنها لا تريد أن تقول أن الكلدان يتكلمون اللغة الكلدانية العراقية الأصيلة .  فالكلدان هم كلدان التاريخ وسيبقون كلداناً رغم ادعاءات الكاتبة التي تقول أنها من الطائفة الكلدانية لتعطي ثقلاً لآرائها المخطئة بحق الكلدان.

المطران أبراهيم أبراهيم
مطران أبرشية مار توما الرسول الكلدانية في أميركا شرفاً

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *