الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في أزمة

منذ مدةٍ طويلة وأنا أتردد كثيراً في الكتابة عن وضع كنيستنا الكلدانية الكاثوليكية رغم علمي بأنها تمر بأزمة حادة ليست طارئة بل هي شبه مستديمة ومنذ أكثر من عقدَين، وقد تفاقمت هذه الأزمة في السنين الأربع الأخيرة الماضية بسبب تباين الفكر والرؤية بشكل غير مسبوق لدى رُعاتها الذين وقعوا فريسة المادة والمجد الدنيوي والولاء المناطقي وحُبِّ الذات المفرط، وكأنها مؤسسة علمانية سياسية أو اجتماعية وليست مؤسسة إلمسيح الرب!

إن التناحر المستتر بين أساقفة الكنيسة الكلدانية منذ أكثر من عقدَين من الزمن ولا سيما في الفترة الراهنة زاد من أزمتها المُزمنة وجعلها في حالةٍ يُرثى لها من الضعف والإنكماش وربما الإنغلاق، وانعكس هذا الوضع على الرئاسة الكنسية العليا فأعجزها عن اللحاق بواقع التغييرالعالمي من حيث الوسائل التقنية والحديثة التي تُمكن الناس من الإتصال ببعضهم البعض على وجه السرعة وبشكل مباشر، وبقيت بعيدة عن التعامل والتفاعل معه، والمُلام هنا الكثير من أساقفتنا الذين إستمرأت كُلُّ جماعة منهم تشكيل محور قروي أو مناطقي معادياً للجماعة الأخرى، فهناك مَن يُفضل التكريد ويعتبر ذاته كُردياً وكأنه ليس اسقفاً كلدانياً، وهناك مَن ينتصر لولائه القروي ولا بدَّ أن يُحرز النصر لجماعته في اختيار الرئاسة الكنسية، وهناك مَن يرى ذاته أحق بالرئاسة من غيره ولا يألُ جهداً للعمل في هذا السبيل، والكل يستبعد إلهام الروح القدس في الإنتخابات الرئاسية.

لقد مرَّت أربع سنوات على آخر سينودس عقده أساقفة الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وكُلُّ محاولةٍ من الرئاسة العليا لعقد سينودس جديد تُجابه باعتراضٍ من لدن جماعةٍ اسقفية معينة مِمَّن أتينا الى ذكرها، بحجج تتفق مع أمزجتهم ومصالحهم! لماذا يُصر بعض الأساقفة على عقد السينودس في موقع لا تتوفر فيه الحرية الكاملة للمناقشة واتخاذ القرارات الصائبة بعيداً عن التأثيرات الجانبية من هنا وهناك. أليس من الأفضل عقده في موقع يتوفر فيه جوٌّ من الهدوء ويكون بعيداً عن تدخلات الجهات السياسية من هذا الطرف أو ذاك؟ أليس من صلاحية البطريرك أن يدعو لعقد المجمع “السينودس” في المكان والزمان الملائمَين؟ فلماذا وضع العراقيل والحجج، أين الأساقفة من شرط الطاعة المفروض الإيفاء به للرئيس الأعلى؟

أليس نقصاً غير معهود بعدم طاعة الأساقفة لأوامر الرئاسة الكنسية! المؤسسة الكنسية ليست مؤسسة سياسية أواجتماعية كما ذكرنا في البداية، ولكنها مؤسسة إلمسيح الهرمية، وكُلُّ كنيسة تُديرها مؤسسة. فكنيستنا الكلدانية الكاثوليكية تُديرها موسسة يرأسها بطريرك مُنتخب وهو المسؤول الأول عنها ويُساعده أساقفتها المؤتمَنون على أبرشياتهم الى جانب أن كُلاًّ منهم مسؤول عن رعاية أبرشيته والكُل يُشكلون وحدةً متجانسة ومتفاعلة مع الكنيسة الأم الجامعة برئاسة قداسة الحبر الأعظم البابا خليفة هامة الرسل مار بطرس، وتتجلّى هذه الوحدة في وحدة الإيمان الواحد والإحتفال بالأسرارالكنسية المقدسة وفي مقدمتها سرالذبيحة الإلهية “القداس”.

لا شكَّ أن الكنيسة الكلدانية تُعاني من إرثٍ ثقيل مزمن يتحتم عليها ايجاد مخرج لإزاحته عن كاهلها، وهذا يتأتى بمراجعة جدية وبواقعية لماضيها الحياتي ومخلفاته على أن تُساهم معها مؤسساتُها المتعددة ذات المستويات المتابينة بدراسةٍ نقدية شاملة وبنظرة تحليلية ضافية تكتشف من خلال ذلك حقيقتها، وبدون ذلك ستبقى متعبة، وهذا ما لا نرضاه لها نحن أبناؤها إذ نُريدُها أن تكون دوماً قوية ومتجدِّدة بالروح “إن الجسد ضعيف أما الروح فمتأهِّب” وبدون الروح لا تستطيع الكنيسة أن تنقل نعمة المسيح الى أبنائها لتسود بينهم المحبة والتسامح والسلام. لقد حَبا المسيحُ الكنيسة بمكانةٍ كبرى ودعاها لتمثيله في هذا العالَم بجرأةٍ وبدون خوف، وأن تدع كامل ثقتها بمؤسسها أولاً ومن ثمَّ بذاتها لتُجاهد في سبيل الحق.

متى ستشعر كنيستنا العزيزة والمباركة بضرورة السعي الى لمِّ شمل أبناء شعبها الذي هو جزء من شعب الله الكبير المتوفر فيه الكثير من الموهوبين وذوي الكفاءات من الجنسَين رجالاً ونساءً لكي يُشاركوها في صنع القرار الآئل الى خير الكُل وخدمة الكُل؟ ولماذا تُصر أن تكون القرارات حصراً على الإكليروس؟ وهل إن ايمان أبناء الإكليروس يختلف عن ايمان غيرهم من المؤمنين؟ بالتأكيد لا. لأن الجميع يؤمنون بذات الإيمان الواحد! فلِما الخوف من المؤمنين حتى أن بعض كبار الإكليروسيين ينتابهم الغضب إذا علم أحدُهم بخبر عنهم وكشفه! إن ما أشرنا إليه لا يمكن للكنيسة تجاوزه إلا بقيام رئاسة الكنيسة الكلدانية بالدعوة الى مجمع أو مؤتمر كنسي شامل، لتتطلع من خلاله على الواقع الذي ضمن مداره تسير الأحداث العالمية، فيتسنّى لها إعداد تقييم لواقعها وتضع له عِلاجاً في إطار منهجٍ عِلمي واضح وتخطيط دقيق تستطيع عن طريقه استعادة قوتها وحيويتها، وإبرازَها حضوراً نبوياً جريئاً في الوطن وفي أيِّ مكان آخر.

كما إن المؤتمر المنشود سيُعطي الكنيسة الجرأة للإنفتاح على المجتمع ويُطلعها على عموم فعالياته فتجني منه ما يدفعها الى بلورة تفهم أكثر وضوحاً لِما هو حاصل اليوم من الأمور السلبية المتمثلة بكل أشكال الظلم والمعاناة الناتجة عن التعصب والشره المادي واللاأبالية، فتتحرَّك نحو الطيبين من الناس وتناشدهم للعمل على احترام كرامة الإنسان بتطبيق العدل والسلام. أليس مِن أهم أولويات الكنيسة ايقاف نزيف هجرة أبنائها، فهل دعت ذوي الخبرة والدراية لوضع دراسة حول الهجرة المتصاعدة لإيقافها أو حتى الإقلال منها؟ ماذا سيكون مصير الكنيسة لو فرغ العراق من أبنائها؟ لذا على الكنيسة بذل أقصى جهودها وتُركِّزها على هذا الموضوع ذي الأهمية البالغة، ولتنأى بنفسها عن الزعامة المدنية فموقعها الأساسي هو الزعامة الروحية وكفاها الجمع بينهما، ولكنها في نفس الوقت مدعوة لمساندة الزعامة المدنية بدعمها معنوياً وقومياً.

إن ما أوردته بمقالتي هذه أرجو أن لا يعتبره أساقفة كنيستي الأجلاء انتقاصاً منهم ولا دفاعاً مني عن الرئاسة ولا تبريراً لأخطائها وتقصيرها فما أكثرها، وإنما هو نابع من حبي الكبير لكنيستي وحرصي الشديد على تماسكها وعودة المحبة والإخاء الى قلوب رعاتها لكي تقوى على إعادة النظر في كافة الأمور المختلف عليها وتُفرد لها دراسة معمقة للوصول الى الأهداف المنشودة. والله هو الأعلم بالقصد!

الشماس د. كوركيس مردو

You may also like...