السريان والسريانية / الحلقة الثانية

التجني الصارخ على التراث الكلداني

 

وهنالك الغموض والإرتباك في بعض طروحات أو تصريحات آباء الكنيسة الكبار، وأحدث مثال على ذلك،  ما ورد في كلمة البطريرك الراحل روفائيل بيداويذ أمام البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان في 14 /10 / 1994م عبارة “الكنيسة الكلدانية” لأكثر مِن أربع مرات مؤكداً بذلك قومية أبنائها، وفي حديثه التلفزيوني لمحطة لبنانية يُصرِّح ” الكلدان مذهب والشعب الكلداني آشوري” لا أريد أن أقول كلمة نابية بحقِّه تقديراً لدرجته الكنسية أولاً ولأنَّه كان مُدَرِّسي في السيمنير الكلداني ثانياً. وقد أنكر هذا التصريح لدى قدومه بعد فترةٍ الى ولاية مشيكان/أمريكا. فهل مثل هذا الموقف المتذبذب يليق بصاحب مبدأ تقلَّد أعلى سلطةٍ في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية؟ ولو صدَّقنا جدلاً ما قاله فهل كان ذلك عدم تمييزه بين المذهب والقومية؟ أم ماذا؟ لا أظن ذلك، قد يكون قد عبَّرَ عن رأيه الشخصي الخاص، وهذا لا يُمثل رأي الباحثين والمفكِّرين والمؤرخين، ثمَّ إنَّه لم يَدعم قولَه بأية نظرية أو فرضية علمية أو بيِّنة تاريخية، ولم يستند الى أيِّ نصٍّ تاريخي. وبرهانه الوحيد الذي استشهد به هـو قوله: < كان جدي قساً نسطورياً ونحن طائفة > إنه نطق بالواقع فقد كان النساطرة في زمن جَدِّه طائفة فضَّلت الإنعزال في المنطقة الجبلية. أما إذا قـصد بكلامه بأن الكلدان كانوا نساطرة قبل اهتدائهم ثانية الى مذهب آبائهم وأجدادهم الذي كانوا عليه منذ تأسيس كنيسة الشرق وحتى القرن الخامس، وإنَّ النسطرة هي رديف الآثورية أو التسمية المُنتحلة في العقود المتأخرة مِن قبل سكان منطقة آثورالكلدان أعني” الآشورية” فذلك خطأٌ فادح ونهج سياسي شوفيني أشاعته الزمَرالنسطورية الحزبية لأغـراض سياسية. كان المرحوم البطريرك مارروفائيل الأول بيداويذ مدرِّساً في معهد شمعون الصفا الكلداني الكهنوتي منذ عودته من روما في العقد الرابع من القرن العشرين وحتى أواخر الستينات، درستُ على يديه الكتاب المقدس والتاريخ الكنسي والفلسفة، وكان مغرماً باللغة الكلدانية ويتباهى بها، وإني لفي عجبٍ كيف تغيَّر في الفترة الأخيرة من حياته وأنكر قوميته! وإني لأعجب أيضاً كيف لم يُحاول تبديل عنوان قاموس المرحوم المطران يعقوب اوجين منا لدى قيامه بتجديد طبعه مِن( قاموس كلداني-عربي ) الى قاموس آشوري – عربي! إنها التخبطات التي يقع فيها بعض رجال الإكليروس الكلدان جهلاً أو تَعمُّداً!

 

                                                                                                                                              فالحقائق التاريخية تُفيد بأنَّ كنيسة المشرق الكلدانية برُمتها اعتنقت البدعة النسطورية مُجبرةً منذ أواخر القرن الخامس باستثناء جزءٍ مِن أبنائها الذين اعتنقوا البِدعة “الأوطاخية المونوفيزية” التي تغلَّبت عليها التسمية اليعقوبية نسبة ًالى يعقوب البراذعي الكلداني الأصل والزعيم المونوفيزي البارز. وكانت هذه البدعة مِن الأسباب الرئيسية لقيام مطارنة وأساقفة كنيسة المشرق الى استبدال مذهب كنيستهم القويم مذهب الكنيسة الجامعة بمذهب البِدعة النسطورية. ويعقوب البراذعي هو أحد مؤسسي الكنيسة المونوفيزية الى جانب كلدانيَين آخرَين هما:اخسنايا الذي عُرف باسم”فيليكسينوس”وسمعان الأرشامي. ومنذ ذلك الوقت عُرفت كنيسة المشرق الكلدانية باسم((الكنيسة الكلدانية النسطورية أو الكنيسة النسطورية اختصاراً)) وهنالك دلائل مؤثقة تشيرالى اضطرارالكثير مِن أبناء الكنيسة النسطورية مِن منطقة كلدو والجزيرة للهجرة الى منطقة آثورالجبلية هرباً مِن قساوة الإضطهادات عبر العصور.                                                                                                               

 

ثمَّ إن كنيسة المشرق الكلدانية ومنذ تأسيسها، لم يقبل أبناؤُها ومؤسسوها الكلدان أن تبقى حكراً عليهم بل فتحوا بابها على مصراعيه أمام مُختلف الأقوام الاخرى للدخول والإنتساب إليها، فانضمَّ إليها العرب والفرس والتركمان والهنود والمغول وغيرهم، فليس بالأمرالغريب أن يرأس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الوريثة الشرعية الوحيدة لكنيسة المشرق التليدة، البطريرك روفائيل بيداويذ الذي إدَّعى في آخر عهده بالآثورية أو الآشورية المُنتحَلة قومية له، طالما إتسم بسماتٍ تؤَهِّله لرئاسة هذه الكنيسة، أوحتى لو فرضته جهة سياسية متنفذة كما جرى بالفعل. وهوليس أول بطريرك من غير القومية الكلدانية بحسب إدِّعائه، فقد سبقه الى هذا المنصب مِن غير الكلدان، بطريركٌ عظيم مغولي الأصل مار يهبلاها الثالث 1283 – 1318م. وهذا لا يعني أن الكلدان في عهد مار يهبلاها أصبحوا مغولاً ولا في عهد بيداويذ أصبحوا آثوريين أو تحوَّلوا الى انتحال الآشورية كما فعلها أبناؤُهم وإخوتُهم الكلدان الإنعزاليون سكان منطقة هيكاري الجبلية في نحو الربع الأول مِن القرن التاسع عشر.

 

وعندما سألتُ صديقي وزميلي في السيمنير(فاروق) الأب الدكتور يوسف حَبي عن مغزى وضعه عنواناً لأحد كُتُبه (كنيسة المشرق الكلدانية – الآثورية) وكان الكتاب لا زال قيد الطبع ولم يُمهله الموت ليراه مطبوعاً. رأيت في تفسيره لمغزى العنوان، إعطاء بعض الزخم للوحدة الكنسية، التي كانت المُحاولات تجري بشأنها على قدم وساق آنذاك، فمما قاله لي: ليس مِن شكٍّ على الإطلاق بأن الكلدان هم مؤسسو كنيسة المشرق، وكوخي كانت أول كنيسة بُنيت في منطقة كلدو وأصبحت مقراً للرئاسة الكنسية ومِنها تفرَّعت الرئاسات المناطقية في كُلِّ أنحاء بلاد ما بين النهرين التي تدخل ضمنها بلاد الكلدان الأصلية (كلدو وآثور والجزيرة) وعلى هذا الأساس فإن أبناء كلدو وأبناء آثور وأبناء الجزيرة هـم كلدان وإن أختلفت مناطق سكناهم، فرأيت أن لا ضير في عنونة كتابي بهذا الاسم إرضاءً للجزء المُعاند مِن أبناء شعبنا الكلداني والمتشبَّث بالتسمية الآثورية.

 

الإسم السرياني

إنَّ اسم (السريان) لا عُمقَ له في التاريخ ولا يتمتع بصفةٍ قومية، لأنه فُرضَ على آراميي الديار السورية القاطنين في المناطق الواقعة غَرب الفرات مِن قبل الغزاة المصريين بداية ً وسار على مِنوالهم مِن بعدهم الغـزاة اليونانيون، تلك المناطق التي تباينت الآراءُ في تسميتها بـ (سوريا) ومِن ثم أُطلقَ على مسيحييهـا الآراميين، ويبدو أن الآراميين لم يعملوا شيئاً لإستعادة إسمهم الآرامي لاحقاً بل إستمرأوا الإسم السرياني الغريب. ولأنَّ المسيحية دخلت الى سُكّان بلاد ما بين النهرين الأصليين الكلدان عن طريق المُبشِّرين القادمين مِن فلسطين التي كانت يومها ضمن هذه الديار، أُطلق عليهم الى جانب أسمائهم العديدة التي لُقِّبوا بها اسمَ السريان الشرقيين تيمناً بهم كما يقول العلامة أدّي شير(مُقدمة تاريخ كلدو وآثور/ ج2 ص . ܕܗ 4 – 5 )” وتمييزاً لهم عن الذين سُمّوا بالسريان الغربيين وهم اليعاقبة، ولكنَّ إسمهم الأصلي كلدان آثوريون جِنساً ووطناً، لأن مَنشأ كنيستهم ومَركزَها كلدو وآثور، ولغتهم الجِنسية والطقسية هي الكلدانية ويُقالُ لها أيضاً الآرامية، وغلطاً سُمِّيَت سريانية كما أنه غلطاً أيضاً سُمِّيَ أجدادُنا النصارى سِرياناً، ويستطردُ أدّي شير: واعلم أنَّ السِريان الغربيين أعني بهم اليعاقبة أحَسّوا هم أيضاً بهذا الخطأ وأقرّوا علناً بأنَّ اسمهم الحقيقي الأصلي ليس السِرياني بل الكلداني الآثوري، فإنَّه على عهد ديونوسيوس التلمحري الذي عاش في النصف الأول مِن الجيل التاسع، كان اليونان يستهزئون بالسريان اليعاقبة ويقولون لهم: إن طائفتكم السِريانية لا شرف لها ولا أهمِيَّة، فإنه ليس لكم مملكة ولا قام في سالف الأزمان فيما بينكم ملك جليل، فاضطرَّ السِريان اليعاقبة أن يُقِرّوا ويُثبِتوا، أنَّه: ولوأُطلقَ عليهم اسم السريان إلاّ أنَّ أصلهم كلدان آثوريون، وقد صار لهم عِدة ملوك جبابرة (تاريخ ميخائيل بطريرك اليعاقبة / ط . شابو ص . 750) .

                                                                                                                                                   وفي (الصفحة 748 من تاريخ ميخائيل) يقول البطريرك الـيعـقوبي ميخائيل< إنَّ العيلاميين والآثوريين والآراميين، وهم الذين سَمّاهم اليونان سِرياناً سُمّوا قاطبة كلداناً بإسمِهم القديم، ويُضيف نقلاً عن ديونوسيوس التـلمحري ما نَصُّه :< إنَّ سوريا هي في غـربيِّ الـفرات، فالذين يتكلمون بلساننا الآرامي، إنما على سبيل الإستعارة سُمّوا سِرياناً، لأنَّهم ليسوا إلاّ جزءاً (مِن الكُل) وأما الأُخَر فسكنوا كُلُّهم في شَرقيِّ الفرات وامتَدّوا مِن سواحل الفرات الى بلاد فارس، وقام ملوكٌ كثيرون في هذا القسم أي في بابل وآثور واورهاي أي”الرُّها” >. ويُعَقِّب أدّي شير على ما تَقَدَّم أعلاه قائلاً :” فقد تَحَقَّق أنَّ السِريان اليعاقبة أيضاً أقَرّوا بأنَّ أصلَهم كلدان آثوريون جِنساً ولغة وإنَّ الاسم السِرياني هو يوناني خارجي أُطلقَ غلطاً وزوراً علينا وعليهم، ويا ليتهم يجوزون مِثلنا عَن الاسم السِرياني ويسترجعـون الاسم الكلداني الآثوري فنُصبِح كُلُّنا شعباً واحداً إسماً وجسماً ويداً واحدة لنُنهِضَ امتنا هذه القديمة القوية، التي كَسَبَت في سالف الأزمان ذِكراً جميلاً ومَجداً عظيماً في الزمنيات وفي الروحيات “(مقدمة تاريخ كلدو وآثورج2 ص ܗ 5)

 

أبعدَ كُلِّ ما تقدم ذكرُه من البيِّنات والأسانيد عن أعجمية لفظة أواسم السريان يقول:المونوفيزي المتكثلك غريغوريوس يعقوب حلياني أول ميطرابوليط للسريان الكاثوليك في دمشق بكتابه< اللغة العظيمة> (إن القول بأن لفظة السريان أعجمية زعمٌ باطل دون أن يُسند قوله ببينات تؤيده! أليس ذلك طمساً لجناية نبذِه وشعبُه لإسمهم الأصيل الآرامي؟ يظهر أنَّ انتماءَه للكثلكة لم يُثنِه عن اتّباع عادات المونوفيزيين اليعاقبة بتشويه الحقائق التاريخية. ولكن الحقيقة أقوى من أن تُشوَّه، وها هو الميطرابوليط غريغوريوس حلياني يرضخ لها ويؤكد اتفاقه بالرأي مع القس يعقوب اوجين منا الكلداني حيث يقول في كتابه المشار إليه أعلاه < ومهما كان من أمر اشتقاق لفظ “السريان” فإنَّ أصحابه لم يُعرَفوا به قبل أربعمائة أو خمسمائة سنة قبل التاريخ المسيحي > أما الآراميون الشرقيون وهم الكلدان والآثوريون (وهي تسمية غير صائبة ومجحفة بحق الكلدان، لأن الآراميين أصلاً يعودون بجذورهم الى الكلدان منبع الهجرات الرئيس في بلاد وادي الرافدين) المعروف بـ ” القطر البحري ” لم يُعرفوا بها إلا بعد اعتناقهم المسيحية على أيدي الرسل القادمين من فلسطين الكائنة ضمن ديار ما كانت تُسمّى بسوريا الكبرى آنذاك، ولشدة تمسكهم بمسيحيتهم حتى التزمُّت، فضَّلوا إهمال إسمهم القومي الكلداني بحجة رمزيته الى الوثنية ويا لبئس تلك الحجة الواهية التي جنوا بها على أجيالهم اللاحقة! وطلبوا أن يُسَمّوا باسم مبشريهم المشرقيين”مسيحيين مشارقة” تَيَمُّناً باسمهم وليس”آراميين شرقيين” كما يدَّعي البعض عن جهل أو تَعَمُد لغايات عنصرية منافية للتاريخ والواقع. والى الحلقة الثالثة قريباً.

 

الشماس د. كوركيس مردو

23 / 11 / 2012 –  20 / 4 / 2016

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *