السريان والسريانية / الحلقة الثالثة

التجنّي الصارخ على التُراث الكلداني

 

إن المؤرخين الأجانب المستشرقين، مهما بذلوا من جهدٍ في سبرغور تاريخ منطقة الشرق الأوسط يبقى جهدُهم ناقصاً وأحياناً مخالفاً للواقع بسبب اعتمادهم على الإجتهاد والتحليل الشخصي بعيداً عن اعتماد المعطيات والوقائع، ولذلك على المؤرخين الوطنيين الشرقيين التحاشيَ عن الإقتداء بهم الى جانب تمحيص أقوالهم بجدية فائقة. وكمثال على ذلك نرى التباين الكبير في آرائهم حول أصل تسمية”سوريا” فمنهم”إرنيست رينان Ernest Renan” الفرنسي الخبير بتاريخ اللغات السامية يقول < إن الإسم  الآرامي إستبدله السلوقيون إبان فترة حكمهم لبلاد المشرق الى اسم سوريا > وقد اعتمد في ذلك على نظرية استاذه المؤرخ “كاتريميرQuatremere” التي نشرها في بدايات الربع الثاني من القرن التاسع عشر بكتابه عن الأنباط Nabateens  معتبراً إياهم آراميين، بينما الأنباط معروفون تاريخياً بأنهم فصيلة مِن فصائل الكلدان المتعدِّدة ولا علاقة لهم بالآراميين الذين هم بدورهم  فصيلة كلدانية نزحت من منبع الهجرات “القطر البحري” مثوى الكلدان الأصلي واستوطنت إحدى مناطق سورية ذات المتعرجات العالية، ولذلك قلنا بأن المؤرخ الأجنبي لا يُلِمُّ بالحقيقة ولكنه يبني أقواله على الحدس والتخمين.

 

ويُضيف رينان، وكان السلوقيون اليونانيون يُطلقون هذه التسمية على آسيا الداخلية كلها. ولم تستطع هذه التسمية إستئصال الاسم الآرامي من بلاد الشرق بالكامل، لأن الآراميين الذين لم يعتنقوا المسيحية كالأنباط والحرانيين تمسكوا به، وهذا كان السبب لتفسير لفظة الآرامي مُرادفة للفظة الصابئي والوثني. وهنالك مَن قال بأن لفظة سوريا مستمدة من اسم مدينة صور عاصمة البلاد الفينيقية، وآخرون قالوا بأنها متأتية من لفظة خارو المصرية التي كان المصريون يُعمموها على كُلِّ البلاد الواقعة على ضفاف البحر الموسط، وقد تمَّ تحويرها الى شارو ثمَّ سارو. بينما العلماءَ والمؤَلِّفون المسيحيون الشرقيون منهم والغربيون ينسبونَ اسم سوريا وبكلِّ تأكيد الى اسم المدعو(سوروس) الرَجُل الذي قَتَلَ أخاه الملك واستولى على المُلك، وسُمِّيَت البلادُ كُلُّها على إسمِه (سوريا) وسُكّانُها سُمُّواسِريانيين نسبةً الى إسمه،  ومِن هؤلاء المؤَلِّفين :

                                                                                                                                                                                                                                                                       إبنُ علي: صاحبُ القاموس الشهير حيث يقول: ” ܣܘܪܝܐ ܬܘܒ ܟܠܗ ܐܬܪܐ ܕܡܢ ܐܢܛܝܘܟܝ ܘܥܕܡܐ ܠܐܘܪܗܝ ݀ ܘܥܠ ܫܡ ܣܘܪܘܣ ܐܬܩܪܝܬ ܗܘ ܕܩܛܠ ܠܐܚܘܗܝ ܘܐܡܠܟ ܥܠ ܒܬ ܢܗܪܘܬܐ وترجمتها : سوريا تعني البلاد التي تَمتَدُّ مِن أنطاكية الى الرُّها بأسرها، وقد دُعِيَت على اسم سوروس الرجل الذي قتل شقيقَه ومِلَكَ على بلاد النهرين “.

 

وقال إبن الصليبي في كتابه ( ܐܪܘܥܘܬܐ – المُلاقاة) في الفصل الرابع عشر رداً على تعيير اليونانيين: ” ܐܠܐ ܒܚܣܕܐ ܬܘܒ ܩܪܝܢ ܠܢ ( ܐܘܟܝܬ ܝܘܢܝܐ ) ܚܠܦ ܣܘܪܝܝܐ ܝܥܩܘܒܝܐ ܕܠܘܩܒܠܗܘܢ ܐܡܪܝܢܢ ܕܐܦܠܐ ܫܡܐ ܕܣܘܪܝܝܐ ܕܐܪܝܡܬܘܢ ܡܢܢ ܡܥܠܝ، ܡܛܠ ܕܥܠ ܫܡܐ ܕܡܬܩܪܐ ܣܘܪܘܣ ܐܬܝ ܐܝܢܐ ܕܐܡܠܟ ܒܐܢܛܝܘܟܝܐ ܘܐܬܩܪܝܬ ܥܠ ܫܡܗ ܣܘܪܝܐ  ܚܢܢ ܓܝܪ ܒܢܝ ܐܪܡ ܐܝܬܝܢ ܘܥܠ ܫܡܗ ܡܬܩܪܝܢ ܗܘܝܢ ܒܙܒܢ ܐܪܡܝܐ، وترجمتُها : غيرَ أنَّهم (أعني اليونانيين) مِن باب التعيير يَدعونَنا يعاقبة بدل السِريان، وإننا نَرُد عليهم قائلين: إنَّ الاسم (السِريان) الذي نزعتموه عَنّا، ليس مِن الأسماء النبيلة لدينا، لأنَّه مُشتق مِن اسم سوروس الذي مَلَكَ في أنطاكية، فسُمِّيَت سوريا على إسمِه . . . إنّنا بنو آرام وباسمِه كُنّا نُسمّى (آراميين) يوماً “.  وفي موضع آخر مِن كتابِه هذا يقول: ܘܣܘܪܝܝܐ ܐܬܩܪܝܢ ܥܠ ܫܡ ܣܘܪܘܣ ܗܘ ܕܒܢܐ ܠܐܢܛܝܘܟܝܐ ܘܐܬܪܗ  ܘܐܬܩܪܝܬ ܥܠ ܫܡܗ ܣܘܪܝܐ وترجمتُها: ودُعينا سِرياناً نسبة الى اسم سوروس، الذي شَيَّدَ أنطاكيا وبلادَها، وسُمِّيَت على إسمِه سوريا. وكذلك تَحَدَّثَ مؤلف كتاب جَنَّة النعيم ܓܢܬ ܒܘܣܡܐ.

                                                                                                                                                                                                                                                                       أما حسن بن بهلول فقد قال في قاموسه: 

   

ܣܘܪܝܐ ܥܠ ܫܡ ܣܘܪܘܣ ܐܬܩܪܝܬ ܐܢ ܟܕ ܚܝ ܘܐܢ ܟܕ ܡܝܝܬ ܗܘ ܕܩܛܠ ܠܐܚܘܗܝ ܘܐܡܠܟ ܒܝܬ ܢܗܪܘܬܐ ܘܐܬܩܪܝܬ ܐܪܥܐ ܟܠܗ ܕܐܘܚܕܢܗ ܣܘܪܝܐ ܘܡܢ ܩܕܝܡ ܣܘܪܝܝܐ ܐܪܡܝܐ ܡܬܩܪܝܢ ܗܘܘ  ܘܟܕ ܐܡܠܟ ܡܢܗܘܢ ܥܠܝܗܘܢ ܣܘܪܘܣ ݁ ܗܝܕܝܢ ܐܬܩܪܝܘ ܣܘܪܝܝܐ، وترجمتُها : إن اسم سوريا مُشتق مِن اسم سوروس حَيّاً كان أو مَيتاً، ذاك الذي قتل شقيقه ومَلَكَ فيما بين النهرين، فدُعِيَت كُلُّ مناطق مملكتِه (سوريا) إن السِريان مِن قبلً كانوا يُسَمَّون آراميين، وإذ مَلَكَ عليهم الذي مِنهم وبهم (سوروس) عندئذٍ دُعوا سِرياناً ”  .

 

بماذا يُفَسَّرُ إذاً تَصَّرُّفُ البعض مِن إخوتنا الكلدان الذين أشرنا إليهم دون أن نذكرَ أسماءَهم لأنَّ مؤلفاتهم تشهدُ عليهم، وهم قادة كنسـيون ورُعاة لأَبناء الامة الكلدانية وكنيستها! كيف يُعلِّلون تنَكّرهم لإسم امتهم القومي الكلداني العريق، عندما يُهـمِلوه في بحوثِهم وكُتُبِهم وحتى في خِطابِهم وحديثهم وبتَعَمُّدٍ، مُفَضِّلين عليه الاسم الأجنبي الغريب (السريان) ويُضفون هذا الاسم على قديسي وعلماء وادباء الكلدان! أليس هذا مُنتهى التَجَنّي والنُكران! والأدهى في الأمر، قولُهم: ليس المُهم مِن أين جاء هـذا الاسم قد يكون مِن سوريا … وهذا ليس بذي أهمية ! ولكنَّ الأَهمَّ لديهم أنه شـمل الكلدان والآثوريين والسريان والموارنة منذ القرنَين الثاني والثالث الميلادي، مُلقين القولَ على عواهِنه لإفتقارهم الى دلائل تاريخية، يدفعهم الى ذلك حِقدٌ وكراهية لكُلِّ ما هو كلداني وكلدانية، مُشَوِّهين التاريخ وإفرازات واقعه الموضوعي وهم في الوقـت نفسِه يَحتمَون بكنفِ الكلدان وتحت حمايتهم، يا للمفارقة المُنافية للمنطق والواقع !

 

                                                                                                                                                                                                                                                         ومِن دون وازع مِن ضميرأو رادع مِن حَق! سلبوا إسمَ اللغة الكلدانية البهية وحَقَّها، وحَوَّلوهما عمداً لصالح ما سُمِّيَت باللغة السريانية مِن قبل المونوفيزيين (اليعاقبة) هذه اللغة المسخ السمجة المُتوَلدة مِن تحريف اللغة الكلدانية الفصحى، وقام بنشرها بعضُ المونوفيزيين اليعقوبيين المتأخرين وعمّموها على طقس ما سُمِّيَ بالسرياني زوراً وبدون خجل بشَقَّيه السرياني اليعقوبي والكاثوليكي تمييزاً لهم عَن النساطرة الكلدان المُعاصرين الذين تَنَكَّروا لإسمهم واصولهم الكلدانية وانتحلوا التسمية الآشورية في العقود الزمنية المتأَخرة مِن القرن العشرين المنصرم لتكريس بقائهم على الضلالة النسطورية مُنفصلين عن إخوتهم أبناء الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الوريثة الشرعية لكنيسة الشرق التي كانت قد تبَنَّت المذهب النسطوري مُجبرة ً منذ العقد الأخير مِن القرن الخامس وحتى مُنتصف القرن السادس عشر.

 

يَعترفون بأنَّ اللغة الآرامية كانت مجموعة لغوية غنية بلهجاتِها المُتعَدِّدة، وهذا لا جِدالَ فيه مِن ناحية اللهجات التخاطبية (المَحكية) السوادية، ولا زالت عديدة جداً وليست ذات أهمية تُذكَر فهي وليدة المناطقية وغير مُرتبطة بقواعد مُوحَّدة، أما اللغة الآرامية القواعدية فكانت اللهجة الشرقية أي اللغة الكلدانية وحدها، لغة الكلدان الكاثوليك والباقين مِنهم على المذهب النسطوري”نساطرة اليوم” أينما وُجدوا وهي اللغة الآرامية الأصيلة القديمة التي كانت تستخدمُها الممالكُ الكلدانية والتي انتقلت الى الدولة الآشورية عن طريق مِئات الآلاف مِن الأسري الكلدان الذين رُحِّلوا الى المناطق الآشورية، وغَدَت اللغة الرسمية للدولة على عهد الملك سنحاريب، وأصبحت لغة التداول الاولى في الشرق الأوسط كُلَّه على عهد الإمبراطورية الكلدانية. وكذلك إستخدمها أبناء الجزيرة، الشام ولبنان كما يُقِرُّ بذلك الخُبراءُ الموارنة. وعندما قام بتحريفِها المُنشقون المونوفيزيون اليعاقبة تَوَلَّدَت مِن هذا التحريف اللهجة التي سُمِّيَت باللهجة الغربية وجرى ذلك في القرون المُتأخرة على أيدي إبن العِبري وغيره، ومِن ثمَّ نقلوا إليها أغلب نتاج العلماء والادباء الكلدان، وقد إنبرى لتفنيد إدِّعآتِهم ومُغالطاتِهم العلامة المطران اقليميس يوسف داود في مُقدَّمة مُعجَمِه بأدلةٍ عِلمية قاطعة وبراهين تاريخية لا يُمكن الطعن بها إطلاقاً.

 

إن هذه اللهجة المبتورة والمِعوَجَّة التي تَوَلَّدت عن تحريف اللغة الكلدانية الفصحى المُتعَمَّد كما أسلفنا، لم تَكُن معروفة لدى الأقدمين سكان شرقي الفرات أوغربيّه ولم ينطقوا إلاّ باللهجة الشرقية، ناهيكَ، عن أنَّ أبناء الجزيرة وحتى الرُّها التي يَدَّعي بخُبثٍ المونوفيزيون المُغالطون المتأخرون انتسابَ لهجتهم إليها، ما كانوا يلفظونَها إلاّ باللهجة الشرقية وبتأكيدٍ لا غبارَ عليه، والأدلّة على ذلك كثيرة :

 

1 – الدليل الصارخ الذي يُلغي أيَّ تشكيك، ما جاء بسفر التكوين 31 /47 بأن لابان الحَرّاني وابن اختِه يعقوب عندما أقاما كومة مِن الحجارة كعلامةٍ لعهدٍ قطعاه بينهما، سَمّى لابان الكومة بلغتِه الآرامية الكلدانية (ܝܓܪ ܣܗܕܘܬܐ إيغَرْ سَهْدوثا) ودعاها يعقوب بلغتِه العِبرية جِلعاد، فالعبارة التي نطق بها لابان قبل ألفٍ وخمسمائة عام قبل الميلاد هي آرامية كلدانية شرقية، لأنها تُلفظ بالعبرية والعربية (إيغَر سَهْدوتا) على غِرار الشرقيين وليس كالغربيين (يغر سهدوثو) .

 

2 – ما نقله المؤَرخون المستشرقون والمؤَلفون الأجانب مِن أسماء الأعلام المُطلقة عليهم في الرُّها وضواحيها فإنها باللفظ الشرقي الكلداني قاطبةً ومِن هذه الأسماء : رُها، أدّي، بَرديصان، عَبدا، برسَميا، عَبشَلاما، نوحاما، رَبُّولا، كوريا، وغير هذه الأسماء كثيرة. وليس باللفظ الغربي اليعقوبي المُخترع : رهو ، برديصون ، عبدو ، برسميو ، نوحومو . . . حسب لفظِها اليوم مِن قبل مَن يُسَمّون بالغربيين .

 

3 – في مُستَهَلِّ القرن السابع أثبَتَ العالِمُ الشهير يعقوب الرُّهاوي في كتاب نحوه بأنَّ حركات اللغة الكلدانية < اللهجة الشرقية للآرامية > هي سبع وحصرها بالجملة التالية : ” ܒܢܝܚܘ ܬܚܝܢ ܐܘܪܗܝ ܐܡܢ –  بْنيحو تِحّين أُورهَي إمَّن ”  في حين أنَّ حركات اللغة المُخترعة المُحَرَّفة عن اللغة الكلدانية التي يَستعملُها المونوفيزيون اليعاقبة ومُقـتبِسوها منهم وللأسف من جملتهم الموارنة هي خمسٌ. وكُلُّ مَن يَقرأ كلمات هذه الجملة يتأكَّد مِن لفظِها الشرقي .

 

4 – إنَّ القديسَ أفرام النصيبيني قد ألَّفَ تسبِحة عظيمة على عدد حروف إسم يسوع المسيح العشرة، بدأ البيت الأول بحرف الياء والثاني بحرف الألف الذي كان يكتُبُه دقيقاً فوق الياء والثالث بحرف الشين والى آخره. ويُعَدُّ هذا دليلاً ساطعاً بأن مارأفـرام الملفان العظيم كان يكتُب ويلفظ اسم يسوع المسيح له المجد والسجود كالشرقيين (الكلدان) حيث كان هو ذاتُه كلدانياً صرفاً وليس كاليعاقبة الغربيين، وإلا لَما بدأَ البيت الثاني بالألف، والتسبحة البديعة هذه تُرَتَّل لدى الكلدان والموارنة أيضاً وهي :  “ܢܘܗܪܐ ܕܢܚ ܠܙܕܝܩܐ – نوهرا دْناح لْزَدّيقي” ترجمتها: أشرق النورُ على الصديقين. ثمَّ إن ما سُمِّيَت باللغة السريانية لم تظهر قبل زمن المونوفيزي غريغوريوس الملطي المعروف بابن العبري الذي عاش في القرن الثاني عشر على العكس من التسمية المفروضة على الآراميين ببضعة قرون قبل الميلاد، فكيف كان بإمكان القديس أفرام أن يكتب بهذه اللغة المسخ قبل ظهورها بثمانية قرون؟ وأليس جوراً أن تُنسب الى هذا العالِم الكلداني عبقريِّ زمانه التبعية السريانية الغريبة المشوَّهة؟

 

ومِمّا تَقَدَّمَ يَتَّضِح جَليّاً بأن لغة الرهاويين وأهل الجزيرة كانت لغة الكلدان بلهجتها الشرقية ولم تَكُن لغة الغربيين بلهجتها المِعوجة قطعاً، وهو ما يدحَضُ إدِّعاءَ المُزَيِّفين القائلين زوراً بأن مارأفرام المُعلِّم الكبير سرياني غربي، إنَّه افتراء وادِّعاء فارغ، وهذا هو دَيدَنُ كُلِّ المُنشقين والمُغالطين، سَلبُ أمجاد الغير وابتزاز حضارتِهم. فالقديس أفرام شرقيٌّ ومسقط رأسه مدينة نصيبين. فيها قامت أعظمُ مطرانيات الكلدان وأنبلُها، أجبرته الظروف السياسية القاهرة لينتقل الى الرُّها المدينة المُباركة لدى الكلدان، فقد كانت مدينة شرقية بالرغم مِن وقوعها تحت نفوذ الرومان، والمدرسة الشهيرة التي شَيَّدَها في مدينة الرُّها مارأفرام ورفاقه لأبناء قومِه الكلدان على غِرار مدرسة نصيبين التي أغلقها الملك الفارسي الجائر شابورالثاني، كانت شرقية قلباً وقالباً وبسبب خصوصيتها هذه لُقِّبَت بمدرسة الفرس، ولهذه المدرسة الأفرامية الكلدانية يعود الفضل في ازدهار الثقافة والأدب في الرُّها.

 

بعـد كُلِّ ما سردناه مِن الأدِلَّة المؤَثَّقـة عن حقيقة الكلدان والكلدانية، أليس مِن حَقِّ أبناء الكلدان أن يَتساءَلوا مُستغربين، ما هي الأهداف الخفية وراء قيام بعض المؤَلِّفين مِن بين رعاتهم الكنسيين بتغـييب اسم الكلدان ومُنجزاتِهم التُراثية في كُتُبِهم وعَزوِها الى نابذي اسمهم التاريخي (الآرامي) ومُنتحلي الاسم الغريب (السرياني). هل هو جهلٌ تاريخي مِنهم؟ أم هل هم مُجَنَّدون للقيام بهذا العمل المغزي؟ لا أعتقد أن يكون السبب الأول، فلا بدَّ أن يكون السبب الثاني ولا بدَّ أن يكون له أجرٌ خيالي على كلا الصعيدَين المادي والمعنوي! ولكن الشيءَ الذي غاب عن بالهم بأنَّ الشعب الكلداني لن يغفر لهم هذا الإجحاف بحَقِّه، كما أنَّ التاريخ سيُدخِلُهم في خانة ناكري اصولهم القومية أو في خانةٍ أكبر . . . ! قد يعتبرني الآباء الكلدان الذين أشرتُ إليهم فيما تقدَّم بالتعصب للقومية الكلدانية، وسأعتبره شرفاً وفخراً لي، أما الإخوة الآراميون المتسرينون فبالتأكيد سيكون لديهم تنكُّرٌ لِما ذكرته من الحقائق وتنصلٌ مِمّا اقترفه أسلافهم بحقِّ اللغة الكلدانية وتراثها وقديسيها ومؤلفيها، وهذا متوقَّع، لأن الدجل والإختلاس يُعتبران لديهم شطارة ومهارة وليس احترافاً وسرقة!.

 

إن كنيسة الشرق الكلدانية في الأجيال الاولى تَغَلَّبت على أدَبِ أبنائها المسحةُ الدينية والكنسية، وابتعدوا عن التُراث المدني الشرقي والغربي المُتمَثِّل بحضارة ما بين النهرين والحضارة اليونانية واللاتينية، ولكنَّ أدبَهم كان إبداعاً رائعاً، ولم يقتصر على العلوم الدينية والآداب المسيحية والحياة الروحية والنُسكية فحسب، بل تَعَدَّى الى الآفاق العِلمية  حيث إنَّ الكتبة مِن أبناء الكنيسة عرفوا أن ينقلوا الكثيرَ مِن ما إحتوَته كُتُب العلوم اليونانية مِن علوم الطب والرياضيات والكيمياء والطبيعيات والفلسفة بفروعها، وانصَبَّ اهتمامُهم على كُتُبِ التاريخ واللغة وقواعدها ومعاجمها الى جانب الأمثال والحِكَم، وقد أبدع العلماءُ الكلدان وباقتدار بالترجمة والتفسير والتلخيص، على عهدَي الدولة الأموية والدولة العباسية بنوع خاص، فقد دخلوا الى مَيدان الكتابة الواسع وكتبوا وفازوا في كافة فروع المعارف والعلوم القديمة، وخَلَّفوا لنا إرثاً جميلاً  بحجم ووزن كبيَرَين مُضافاً الى نظمهم لأروع القصائد الدينية الشعرية مِنها والنثرية وشَرحاً واسعاً للكتاب المقـدس وتفسيرَ مضامينِه، وللأسف فإن الكثيرَ مِن هذا العَمل الإبداعي الفريد،  طالَ بعضَه الضياعُ والبعضَ الآخر التلفُ ولم يصلنا مِنه سالماً إلاّ اليسير .

 

إنَّ ما يؤسفُ له أنَّ الآداب الكلدانية لم تحظ بما تستحقُ مِن اهتمام مِن قبل أبناء الكلدان للعناية بجَمع مخطوطاتِها وفهرستِها نِتاجاً وتاريخاً وتأليفاً، فاستَغَلَّ هذا الفراغ عددٌ مِن المارونيين ومَن يدعونَ اليومَ أنفسهم بالسريان المتنكرين لمونوفيزيتهم، حيث عنوا بجمعِها وتنظيم فهارسَ بها، ليس حُباً بأبناء وأحفاد مؤلفيها الكلدان بل لتغيير اسم لغتها الكلدانية واستبداله بما تُسمّى اللغة السريانية الغريبة، فجنوا على الكلدان والكلدانية بقيامهم بسرقة هـذا الإرث الذي لا يُقدَّر بثمن وترجمته الى اللاتينية وتعريف أبناء الغرب به بأنه نتاجٌ سرياني  مُغـيِّبينَ إسمَه الحقيقي الكلداني، وهكذا إنطلت هذه السرقة على اولئك الغربيين، فتصرَّفوا وكأنه تراث سرياني دون أن يعلموا أنَّه سلبٌ للتراث الكلداني !                                                    

 

ايها الإخوة المارونيون والسريان”المونوفيزيون السابقون” بشطريكم الكاثوليك والأرثوذكس، ألا يُعتبر ما مارسه أسلافكم فعلاً لصوصياً رخيصاً تَمَّ فيه ابتزاز الكلدان بتُراثِهم ولغتهم وآدابهم، وأداروا ظهرهم للمُثُل والقِيَم بسلبهم لنتاج علماء وقديسي الكلدان، وجعلوا من آداب اللغة الكلدانية مادة تُدرَّس في العديد مِن معاهـد اوروبا وأمريكا على أنَّها سريانية! فذهبَ كُلُّ الإسهام الكلداني الواسع ذو التأثير البالغ في الرصيد الحضاري الإقليمي مع العرب والرصيد العالمي مع الفرس واليونان والرومان لصالحكم، ألا يُعتبر ذلك مؤامرة قـذرة دُبِّرَت ضِدَّ أبناء كنيسة المشرق الكلدانية العملاقة أم الكنائس! يالها مِـن جناية ٍ وقرصنةٍ وخيانةٍ أدبية وتاريخـية لا تُغتَفـر! وعلاوة على ما تقدم ذِكرُه، قام المُرسلون ومُحِبّو الترحال والبحث عن الكنوز الأدبية بالقدوم الى ديار الشرق لنبش المطمور منها تحت أطلاله والفوز بقسم مِنها ونقلِه الى الغرب. ولم ينسوا جمعَ المخطوطات الكلدانية النادرة مِن بطون الأَديُرة والمراكز الثقافية المُندثرة نتيجة الإضطهاد والتدمير اللذين طالا الكلدانَ ومراكزهم في كُلِّ مكان مِن وطنهم الواسع، وقد إمتلأَت مِنها مَكتباتُ الغرب بعددٍ مِن المخطوطات القديمة يزيدُ عن الموجودِ مِنها في مكتبات الشرق .والى الجزء الرابع قريباً

الشماس د. كوركيس مردو

في 27 / 11 / 2012 — 30/  4 /2016

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *