الربان هرمزد

ولد في بيت لاباط من مقاطعة الأهواز في بلاد الفرس، وذلك إما في النصف الثاني من القرن السادس أو النصف الأول من القرن السابع للميلاد. وقد كان والداه يوسف وتقلا مسيحيين مستقيمي الإيمان، وعلى جانب عظيم من التقوى، وذوي ثروة طائلة. ولما بلغ هرمزد الثانية عشرة من عمره، ادخله أبواه المدرسة فمكث فيها ست سنوات تلقن في خلالها علوم عصره، وتمكن أن يتلوا غيباًُ المزامير والعهد الجديد. وعندما ناهز العشرين من عمره، تحركت فيه الدوافع إلى الانقطاع من العالم، ولطالما كان يسمع أبواه منه تلك العبارة التي كثر ترديدها على لسانه وهي ” إني سأكون راهباً “. على هذا المبدأ أراد أن يسير، فكان يفكر به ليل نهار، وينتظر دنو تلك الفرصة التي ستؤهله للدخول في الحياة الرهبانية.
   ثم صمم أن يقوم بزيارة للأراضي المقدسة، ومنها ينتقل إلى برية صعيد مصر ليسكن مع المتعبدين هناك. فترك أبويه ومضى، وبعد أن قطع مسيرة سبعة وثلاثين يوماً، وصل مدينة حالا، وصادف هناك في كنيستها ثلاثة رهبان من دير الربان برعيتا. ولما أدرك هؤلاء الثلاثة ما لهذا الشاب من مزايا وفضائل، أشاروا عليه أن يرافقهم إلى ديرهم وينتسب إلى رهبانيتهم. فأجاب إلى سؤالهم بمزيد من الارتياح.
   وما أن وصل إلى الدير حتى انخرط بين الرهبان المبتدئين، وأصبح مثالاً للتدين والتنسك. وبعد أشهر قليلة منحه الرئيس العام الأسكيم الرهباني، فصار يطبق الأنظمة الرهبانية بحذافيرها، وعاش عيشة البساطة والزهد، ودام على هذه الحياة القاسية مدة سبع سنين، كان خلالها مثالاً صالحاً يقتدي به الرهبان ويحذون حذوه، وأصبح بين هذا الجمع الغفير كالنجم المتألق، حيث أخذ نوره يسطع على جميع رفاقه نظراً لما أمتاز به من صلاح وتقوى، وما أزدان به من مواهب روحية، حتى صاروا يلقبونه بـ  ” أسيا دقنوبايي ” أي طبيب المبتدئين. ثم دعاه الرئيس العام مار سبريشوع لينفرد في صومعة لوحده، ليعيش عيشة الأخوة الكاملين. وبقي الربان هرمزد في صومعة قرب الدير مدة تسعاً وثلاثين سنة، قضاها في جهود مجيدة وفضائل تامة.
   وكان يعيش بالقرب منه راهب جليل من دير بيث عابي يدعى الربان أبراهام، فاتفقا كلاهما على الانتقال معاً إلى موضع آخر. فخرجا من هناك وحطَّا رحالهما في دير بيث عابي ومكثا فيه ثلاثة أشهر. ثم انطلق ومعه ستة رهبان وأتوا وسكنوا في دير الأبا أبراهام الذي كان يدعى دير الرأس.  وكان هذا الدير موافقاً لحياة الخلوة التي كانوا يتشوقون إليها، فصاروا يتعبدون هناك للرب بالعمل الصالح، وممارسة الحياة الدينية بكل ما فيها من خشونة ومشقة. وأقاموا هناك مدة سبع سنين، حتى اضطروا أن يتركوه ويذهبوا إلى مكان آخر بسبب شحة مياه الينبوع الذين كانوا يرتوون منه. فذهبا أربعة منهم إلى جبل قردو.  أما هرمزد ورفيقه أبراهام فقد ذهبا إلى جبل بيث عذري قرب ألقوش. ولما وصلا هناك ارتقيا الجبل فوجدا همتك كهفاً وأمامه ينبوع ماء يتحدر في الوادي. ولكن أبراهام لم يبق مع الربان هرمزد إلا ثلاثة أيام فقط، حيث تخلى عن رفيقه ومضى وأقام له ديراً على اسمه قرب قرية باطنايا شمال الموصل. وما أن حل هرمزد في مكانه الجديد حتى انتشر أريج قداسته في تلك البقعة، فتقدم إليه أهالي ألقوش وباقوفا للتبرك منه. وذاع صيته في كثير من الأنحاء، حتى صار يحمل الناس إليه الموتى والمجانين والمقعدين والعميان والبرص وغيرهم، فكان يشفي ما بهم من علل وآفات. ونظراً للتقدم الروحي الباهر الذي حازه، فقد لقي حسداً شديداً من قبل غيره من المسيحيين من ذوي النفوس الصغيرة، حتى أنه لكم تمنى الموت لنفسه تخلصاً من تلك المنافسات والأحقاد. ولما رأى طلاب مدرسة مار أيث آلاها ازدهار الحياة الرهبانية تحت لواء الربان هرمزد، جاء خمسون واحداً منهم ليعتزلوا الحياة بمعيته، وشرعوا ببناء كنيسة. ولما سمع بالخبر سكان البلاد المجاورة لهم، عاضدوهم بكل ما أوتوه من سعة اليد في سبيل إقامة الدير وكنيسته. ولم يزل الربان هرمزد عاكفاً في ديره على سيرته النسكية، حتى تمكن من اكتساب ثقة أعدائه، واستمالة قلوبهم إليه بصالح أعماله، وطيب قلبه ونقاء سيرته. فعاش في ديره بسلام وشرف إلى آخر أيام حياته. وقد تقاطر إليه الرهبان، فتجمهروا لديه في باديء الأمر مائة ناسك، حيث عاش بينهم وهو يعلمهم ويبشر فيهم. إلى أن دقت الساعة وحم القضاء، فانطفأ سراج حياته، بعد أن جمع رهبانه، وألقى عليهم من النصائح والأحكام ما يصح أن يعتبر دستوراً يقتفى أثره في الحياة الرهبانية. وكان قد بلغ ستاً أو سبعاً وثمانين سنة. وقد حفر رهبانه في بيت الشهداء الذي بديره، مغارة صغيرة بالجبل ووضعوا جسده فيه. ولا تزال العادة جارية بأخذ قليل من التراب ” حنانا ” الموجود في قبره للتبرك منه.
   وبعد وفاة الربان هرمزد نمت هذه الغرسة التي غرستها يمينه، وترعرعت لعدة أجيال بعده، فأشتهر ديره وذاع صيته في الشرق وتقاطر إليه الرهبان، فأصبح منهلاً عذباً للعلم والقداسة. وقد نبغ في هذا الدير رهبان عرفوا بفضيلتهم السامية، كما امتاز  بعضهم بالعلم والتأليف.
   يقع دير الربان هرمزد على مسافة 2 كم من بلدة ألقوش، وقد أسس نحو سنة 640م. ونقرت بعض غرف الدير في الصخر. وحول الدير كهوف كثيرة كان الرهبان يسكنون بعضاً منها. وقد تعرض الدير لمصائب عديدة أدت إلى تشرد رهبانه مرات كثيرة. وتعرض الدير للسلب والنهب في عهد المغول. 
   وفي النصف الثاني من القرن السادس عشر انطلقت من هذا الدير مع رئيسه يوحنان سولاقا بلو حركة الانضمام إلى الوحدة مع الكنيسة الكاثوليكية.
   ثم أصبح الدير مقراً للبطريرك النسطوري. وقد خرب الدير خلال حملة نادر شاه سنة 1743. وفي سنة 1808 قام الأنبا جبرائيل دنبو بتجديد الحياة الرهبانية في الدير. وقد استشهد سنة 1832 مع بعض رهبانه على يد ميركور الرواندوزي. وتعرض الدير للنهب وتمزيق المخطوطات النفيسة وحرقها على يد إسماعيل باشا العمادية وتكررت عليه المصائب على مر السنين. واليوم أخذت الحياة تعود إليه تدريجياً. 
   ويضم الدير قبر الربان هرمزد، وقبر الأنبا جبرائيل دنبو، وقبور العديد من بطاركة ألقوش النساطرة من عائلة أبونا، الذين توفوا بين القرن 15 و مطلع القرن 19.       

منقول من الاخ
الشماس نوري إيشوع مندو

You may also like...

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *